شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
دهريار يغلق كتاب القرآن ويفتح كتاب النفط... كيف نقرأ هاني الراهب؟

دهريار يغلق كتاب القرآن ويفتح كتاب النفط... كيف نقرأ هاني الراهب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 15 يوليو 202102:15 م

هو المسكون بقلق المبدع في نزوعه العارم للحرية، هو الساكن مدن الأسئلة (ماذا، متى، كيف) الأسماء التي أطلقها على مدنه في روايته "رسمت خطاً في الرمال" الصادرة عن دار كنوز لعام 1999، العام الذي سبق رحيله المبكر في عام 2000، مستمراً بالعيش بالقصص دون الموت بالقفص، معاكساً لحياة أبطاله الذي استلّ وجودهم من الحكايات القابعة في المخيال الشعبي والذاكرة الجمعية للمنطقة العربية.

يمزج العجائبي السحري مع الواقعي بفانتازيا غرائبية

فهو رغم ثقافته العالية بالأدب الانكليزي وتمرّسه به وحصوله على الدكتوراه من أهم جامعاته، إلا أنه استلهم مواضيع البيئة المحلية والموروث الأدبي العربي، مروراً بتفكيكه لمرويات التاريخ وجعلها حاضنة لعمله وحصاناً مجنحاً يتنقل فيه بين السماوات والأرض وعبر العصور والأزمان، في تهشيم لثبات الزمان والمكان برؤية حداثية مبتكرة، عبر التناص والمزج بين عالم ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان الهمذاني، في خطين متوازيين للسرد رغم تشابكهما، مخالفاً قوانين الرياضيات.

ففي الخط الأول هو المواطن الذي حاز أعلى الشهادات ويغترب في بلاد النفط كي لا يفقد كرامته في ملاحقة اللقمة، في مشهدية مطاردة الورقة الهاجعة، الورقة النقدية التي تسحبه بذيلها إلى أعلى عليين ويرجعه غيابها إلى أسفل سافلين، في دراما تعكس الوضع المعاشي المتردي للمواطن في محاكاة لأدب السيرة الذاتية، إذا تتبعنا تطابق العمل مع حياة الراهب الشخصية من حيث مهنته كأستاذ جامعي وسفره للتدريس في دول الخليج، والخط الثاني الذي يمزج فيه العجائبي السحري مع الواقعي بفانتازيا غرائبية، عبر تشظي السرد في أكثر من مسرب وجهة.

يأتي هاني الراهب بشهرزاد وشهريار من حكايا ألف ليلة وليلة إلى بلاد الثروة، ويجري تغييرات عليهما، فشهريار ينتهي مسؤولاً عن الأمن في مملكة الرمال، وشهرزاد تتمرّد على نفسها وتبحث عن صفات ذاك العبد الذي فضلته الملكة على شهريار

فيأتي بشهرزاد وشهريار من حكايا ألف ليلة وليلة إلى بلاد الثروة، ويجري تغييرات على صيرورة وعي كل منهما، فشهريار العاشق للسلطة والجاه ينتهي مسؤولاً عن الأمن في مملكة الرمال، وشهرزاد تتمرد على نفسها وتكف عن ملاحقة رضا ملكها، وتبحث عن صفات ذاك العبد الذي فضلته الملكة على شهريار وفقدت حياتها من أجله، في سردية تحطيمية للحواجز بين الموت والحياة؛ بين الماضي والحاضر؛ وتداخل علاقات شخوص مقامات الهمذاني مع ألف ليلة وليلة.

"أفقرزاد" أخت شهرزاد، عشيقة أو زوجة عيسى ابن هشام

إذا تكون "أفقرزاد" أخت شهرزاد، عشيقة أو زوجة عيسى ابن هشام، راوي المقامة التي تأخذه في  طوفان أثيري من البهجة  فوق السحاب فوق الزمان والمكان عبر التاريخ والعصور، في تحولات عالم ملائكي شبيه بالتحولات المادية الثلاثة، الصلبة والسائلة والغازية، في الامتزاج والاحتواء والتآلف في غرائبية الأجواء والسياحة عبر السماوات وهلامية الوجود بين الوعي واللاوعي؛ بين المنظورات والمخفيات؛ بين العوالم الأثيرية والواقع الأرضي، هذه المرأة وبكل السحر الذي يحيطها به ما هي إلا "سعلاة" تعشّقت ابن هشام وعرّفته على عوالم ما فوق الوجود، لتعيده بعدها إلى واقع مهتز بفعل التبدلات الطارئة على الشخصيات الحكائية.

دهريار يغلق كتاب القرآن ويفتح كتاب النفط

يحضر التاريخ في نص صاخب "خضراء كالمستنقعات" مفككاً أحداثه ويشابكه بشكل ترميزي مع زمننا الحالي عبر الشخصيات المهيمنة والفاعلة والمؤثرة، من الحجاج بن يوسف الثقفي وجملته المشهورة كناية عن البطش والحزم معاً: "أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها"، كذلك يستقدم سلاطين المماليك والصراعات فيما بينهم، من عز الدين أيبك إلى سيف الدين قطز وسواهم، وملوك جلبهم من تاريخهم ليعيد الاستفهام والمسائلة إلى واجهة المشهد الأخلاقي فيما حصل وحدث.

فملكه دهريار يغلق كتاب القرآن ويفتح كتاب النفط، في مشابهة إيمائية  لما فعل عبد الملك بن مروان حين أغلق القرآن عندما وصلته الخلافة، وقال: "هذا آخر عهدنا بك. هذا فراق بيني وبينك"، مفككاً التاريخ الذي كتبه المنتصرون ومعيداً للأذهان الأحداث السابقة والأفعال التي أتت بها الطبقات الحاكمة، وألبسوها ثوب التقديس في العصور الأموي والعباسي والفاطمي.

عبد الملك بن مروان، الحجاج، المماليك... ملوك جلبهم من تاريخهم ليعيد الاستفهام مفككاً التاريخ الذي كتبه المنتصرون وألبسوه ثوب التقديس 

فالخليفة "الرضا والرقاب ملك يديه، أي تاج أعز من تاجيه"، في انزياح للعبارة المسكوكة الشهيرة، حيث المال والسيف من يحكم ويسوس الأمر والباقي ضحك على اللحى، فالحجاج ضرب الكعبة فهللنا له، والقرامطة سرقوا الحجر الأسود مدة عشرين سنة، وقتل ثلاثة من الصحابة العشرة المبشرين بالجنة، وقطع رأس الحسين حفيد الرسول، ولم يحدث شيء غير عادي، رغم عدد الأنبياء المرسلين إلى هذه المنطقة.

ففي تفكيكه للخطاب الديني يؤكد على بحث أبو الحكم السكندري عن جرح ثالث الحرمين الشريفين، وهو المسجد الأقصى في فلسطين، مستنجداً بالخليفة عمر بن الخطاب، في إيماءة إلى خسارة أرض فلسطين وما تلاها من هزائم، حيث بقيت المنطقة تتراجع من هزيمة إلى أخرى، وبقيت تحفر عميقاً في وجدان الفرد العربي في مواجهة بين الماضي والحاضر.

فأطروحة هاني الراهب في الدكتوراه كانت "حول الشخصية الصهيونية في الأدب الغربي"، وهو المهموم بمشكلات عالمه العربي، ومع ذلك اتهم بالتطبيع وفُصل من اتحاد الكتاب العرب، رغم أنه دعا إلى مواجهة ثقافية مع العدو، على مبدأ "اعرف عدوك حتى تعرف كيف تقاومه"، إذ لم نقل كيف تهزمه.

 نفيطية، بترودولار، ماذا، متى، كيف...  الأسماء التي أطلقها هاني الراهب على مدنه

"رسمت خطاً في الرمال"

 عنونة مراوغة، نستطيع تحميله أكثر من وجه رغم طولها الذي يوحي بقصة قصيرة جداً، أو قصة الومضة إذا جاز التعبير، ومع ذلك تفهم على أكثر من صعيد، فهي ما يصرّح به في متن العمل عن الميجر فيكس الذي رسم حدوداً على الورق بقلم رصاص، فكانت دول "النفيطيات"، حيث الورق والقلم يستخدمان لترسيخ حدود الدول لا لترسيخ الثقافة، وهو الذي رسم حدود بلاد الشرق وقسمها على الورق، واصطنع الحدود بين بلدان يجمعها التاريخ والجغرافيا وجعل بينها حواجز وقيود.

ومن جهة ثانية نستطيع أن نفهم العنونة أنها  تعبير عن يأس الكاتب، فرغم هذا العمل الكاشف للتاريخ والإيديولوجيا والواقع، فما هي بالنهاية إلا خط في الرمال سوف تذروه الرياح ولا تبقي منه على أثر، في استعصاء الواقع المأزوم. 

صنّفت "الوباء" من أفضل مائة رواية عربية

قد لا تتلاءم الحداثة في اختلاق عوالم متشظية في كونية الفضاء السردي مع المباشرة بإطلاق أسماء المدن "نفيطية" و"بترودولار" ومثيلاتها، وخاصة بالإسراف في تكرارها، ما يفترض فيه سذاجة لدى القارئ، أو رغبة منه في الوصول إلى أبسط شريحة مجتمعية في ذلك، كون الشعارات مازالت عالية الحماسة ويكفر من يتعالى على الجمهور.

إن أسلوبه التجريبي اللافت في الخوض بأساليب جديدة في فن الرواية، ما جعله في مرمى الواجهة مع الأطر التقليدية، ورغم ذلك، ورغم التجاهل الذي ووجه به، كان حضوره استثنائياً لأنه شابك بين السرد والحس النقدي على صعيدي المجتمع والواقع الراهن من جهة، وعلى صعيد الهوية الفكرية المستقلة اللااتباعية من جهة أخرى، وهو الباحث الأكاديمي الذي درس في جامعات الغرب وظل مسكوناً بهواجسه المحلية ملخصاً نسقه القيمي والإيديولوجي:

"إن إنتاج الرواية العربية للحداثة يواجه ثلاث سلطات ضاغطة، هي سلطة النموذج وسلطة الدولة المعاصرة، وسلطة المثاقفة، وقد بات معروفاً أن أية طريقة في التعبير تنتجها الرواية، تصطدم بواحدة أو أكثر من هذه السلطات الثلاث، وربما كان للمثاقفة عند صاحب "الوباء"، وهي الرواية التي صنّفت من أفضل مائة رواية عربية، توظيفاً لافتا في التناص مع الأدب العالمي وتمثله في التشابه مع مسخ كافكا، غريغوري سامسا الذي تحول لحشرة.

فكائناته تتحول مرّة إلى سعلاة ومرة إلى خنزير ومرة إلى حمار، ومرة تضمحل إلى نقطة في تحولات جسدية غريبة، وهذه التحولات تختفي مرة وتبين مرة أخرى بحسب ارتقائه وانحداره في سلم الكينونة الإنسانية، حيث كل أشكال الخوف والصغار تفقد الإنسان طبيعته البشرية وتحوله إلى رقم في القطيع المدجن.

شُفي من الغضب لأنه بلا كبرياء؛ ومن القهر لأنه بلا كرامة؛ ومن الخيبة لأنه بلا أمل؛ ومن القلق لأنه بلا طموح... العربي بعيون الروائي الراحل هاني الراهب

فداروين اكتفى بدراساته حول أصول الإنسان ولم يدرس مثلاً دور الطغاة في تقزيم البشر، ما يقودنا لفهم الحالة التي وصلها الكائن العربي من اضمحلال وتلاش وغربة عن قضاياه الأساسية، حيث إنه الكائن الذي شُفي من الغضب لأنه بلا كبرياء؛ ومن القهر لأنه بلا كرامة؛ ومن الخيبة لأنه بلا أمل؛ ومن القلق لأنه بلا طموح؛ على حد تعبيره.

فكل حالة مذلة من انحناء وخضوع ومحو للكرامة هي فقدان  للهوية الإنسانية، لذلك، ونحن مازلنا في زمن الانحدار والخوف والتردي، نستعيد ذكرى هاني الراهب وكتاباته، كصرخة مازال صداها يقرع في العقل والوجدان لعلنا نعي وندرك ونفعل.

تفكيك التاريخ

مازال اسم هاني الراهب يلحّ علينا الآن ويحضر بالذاكرة كاسم له فرادته وخصوصيته في لوحة السرد السورية، وهو الذي أسس حضوراً لافتاً ومميزاً فيها رغم الإشارات النقدية الخجولة إلى أعماله وتغييب منجزه عن المشهد الأدبي العام وتجاهل المحتوى الريادي لأعماله، فقد كان لانهمام الراهب بالتجريب السردي دوراً كبيراً في مقاربته لإرهاصات الحداثة وما بعدها، في مطاردة خلق مستويات جديدة وفهم مختلف للآليات السردية، مع مواكبة توظيف الموروث المغرق في محليته بذات الوقت، في اشتغال تأسيسي جعله من رواد الرواية الحديثة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard