شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
إلى جوى... عن الاكتئاب والعزلة

إلى جوى... عن الاكتئاب والعزلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 9 يوليو 202111:02 ص

العزيزة جوى،

لن أبدأ بالتحية الطيبة، فأدنى متطلبات التحية هو أن يكون المرء حياً كي يؤديها، أما أنا فمن المعيب أن يقال عني أنني حي.

في السنوات الست الأخيرة، قضيت معظم وقتي جالساً على كرسي بلاستيكي مكسور الظهر أتأمل الحائط، حائط متهالك رطب تملأه التسلخات، وبين شقوقه عفنٌ أبيض اللون ذو رائحة واخزة.

هنالك نور طفيفٌ في أعماق كياني يخبرني أن من بين هذه الجدران العفنة سأخرج للعالم بشيء عظيم يبهرهم ويعيد إليّ مكانتي بينهم، يعيدني الشخص المحبوب.

لكنني أشعر أن هذا النور الذي يبقيني على قيد الحياة أوشك أن ينطفئ.

أجلس طوال اليوم في غرفتي التي باتت تشبه الكهف المظلم بسبب وضع الكهرباء، ولا أخرج سوى للضرورة القصوى، أنظر كل نصف ساعة إلى هاتفي لأرى إنْ كان قد اتصل بي أحدهم، ولكن لا أحد يتذكرني.

بالطبع، فالجميع رحلوا، أنت والأحبّة جميعهم، وأبناء الأحبّة أيضاً. أما أخوات القحبة فظلوا هنا جالسين على قلوبنا.

لا طاقة لي يا جوى على تكوين صداقات جديدة فقررت البقاء وحيداً، مع أنه ليس هنالك أصعب من العيش في الجحيم سوى أن تكون وحيداً في هذا الجحيم.

"نحن هنا تماماً كالمحكومين بجريمة لا ذنب لنا فيها، نقضي وقتنا بالأشغال الشاقة منتظرين لحظة إعدامنا، ولا نستطيع الهرب من هذا السجن"

لا تحاولي مواساتي يا صديقتي لأن الوضع مزرٍ للغاية، وكل شيء يتجه نحو الأسوأ في هذه البلاد.

نحن هنا تماماً كالمحكومين بجريمة لا ذنب لنا فيها، نقضي وقتنا بالأشغال الشاقة منتظرين لحظة إعدامنا، ولا نستطيع الهرب من هذا السجن.

لم يعد لدي أيّة نشاطات يومية سوى الاتصال للاطمئنان على صديقتي عرين.

ولا أطمئن على عرين كما أطمئن على أي شخص، بل أتصل لأطمئن إنْ نامت في سريرها أم في الحمام تبكي؟ هل أغمي عليها اليوم من كثرة الضرب؟ هل ناداها أبوها بالعاهرة لمجرد أنها اقترفت خطأً بسيطاً؟

فإلى جانب اكتئابها وعزلتها لديها أبٌ بلا قلب أو رحمة.

ولكن لا تقلقي، فلدى عرين أيضاً نورٌ طفيفٌ في أعماقها يخبرها بأنها من بين قضبان شبّاك الحمام المطل على المنور ستخرج للعالم بشيء عظيم، فهي تحلم أن تكون مصورة فوتوغرافية.

أحاول البحث لها عن عمل يخرجها من عزلتها، ولكن للأسف فأنا لا أجد عملاً لي حتى أجد عملاً مناسباً لفتاة في هذا المستنقع.

في بعض الأحيان، أُخرج كتبي ومحاضراتي لأدرس، في محاولة مني للعودة الى الجامعة بعد أن استنفدت فرص الرسوب، ولكن عبثاً أحاول فلا دافع لي لأكمل دراستي وأحصل على شهادتي في ظل هذا المستقبل المجهول.

"قضيت عمري فقيراً أعيش على الخبز والملح. لا تهمني النقود بعد الآن. ما يهمني هو أن لدي قصة أريد روايتها. هنالك جزءٌ مني أريد إظهاره للناس. أريد أن أشعر بأنني لست وحيداً بعد اليوم يا جوى"

قرأت ذات مرة يا جوى عبارةً تقول "في العزلة تقسم روحك اثنين كي لا تبقى وحيداً"، ولكنني حاولت وحاولت ولم أستطع قسمتها، فبدأت باقتطاع أجزاء من روحي وإدخالها في النصوص التي أكتبها.

هل تذكرين يا جوى عندما سألتِني لماذا أكتب؟ هل أكتب لأجل المال؟ أم أكتب لأجل الشهرة؟ يومها لم أستطع الإجابة عن سؤالك، ولكنني اليوم سأجيبك.

لقد قضيت عمري فقيراً أعيش على الخبز والملح. لا تهمني النقود بعد الآن. ما يهمني هو أن لدي قصة أريد روايتها. هنالك جزءٌ مني أريد إظهاره للناس.

أريد أن أشعر بأنني لست وحيداً بعد اليوم يا جوى.

كل يوم، أكتب رسالة جديدة إلى شخصية ما حول العالم، رسالة أستغيث فيها به كي يخرجني أحدهم من هنا.

حتى أنني كتبت إلى جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، ليرد عليّ مكتبه بعد يومين تماماً برسالة طويلة يخبرونني فيها بأنهم متعاطفون معي ويقدّرون المأساة التي أنا فيها الآن، ولكنهم غير قادرين على مساعدتي طالما أنا في هذه البقعة الجغرافية الكئيبة.

"قرأت ذات مرة يا جوى عبارةً تقول ‘في العزلة تقسم روحك اثنين كي لا تبقى وحيداً’، ولكنني حاولت وحاولت ولم أستطع قسمتها، فبدأت باقتطاع أجزاء من روحي وإدخالها في النصوص التي أكتبها"

كنت أعلم أن هذه الرسالة لن تفيدني بشيء قبل أن أرسلها، وأعلم أنهم بهذا الرد أغلقوا الباب في وجهي، ولكنهم على الأقل أغلقوه بلطف.

لو أرسلت مثل هذه الرسالة إلى أحد الموقرين في حكومتنا، لأطعمني الباب بلقمة واحدة!

حتى أنني راسلت العديد من الكنائس حول العالم، وكلهم ردوا علي بالكثير من التعاطف والأسف الشديد كونهم لا يستطيعون مساعدتي، إلا كنيسة واحدة أرسلت لي إيميلاً قصيراً جداً مفاده: "نعتذر عن مساعدتك"، فرددت عليهم بإيميل يقول: "حسناً، ولكن على الأقل أرسلوا إلي مئة دولار على حب النبي محمد"، ولكنهم حتى اليوم لم يردوا عليّ. لا أعلم لماذا!

سأستمر بالمحاولة، فأنا لا أملك شيئاً أفعله غير هذا.

والآن عليّ أن أذهب يا جوى فقد حان موعد نومي.

لا أعلم إنْ كنت سأراسلك مجدداً أم لا، فإلى الآن لا يزال ذلك النور الطفيف في داخلي مضيئاً، ولكنني لا أعلم متى قد ينطفئ فجأةً.

ولكنني أعدك أنه في حال استطعت الهرب من هنا سأرسل إليك رسالة، وأكتب لك كلمتين فقط، كلمتين تكفيان لشرح كل شيء: "لقد نجوت".

الوداع يا صديقتي العزيزة.

ابقي بخير.

أسعد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard