شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الجنس كثقافة صوتية تشكل وعينا الأول

الجنس كثقافة صوتية تشكل وعينا الأول

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 16 يونيو 202101:12 م

خضعت نظرية علم النفس الحديث التي نشأت مع فرويد إلى دراسات وتأويلات كثيرة، كما انشقت عنها مدارس ضخمة، وتحولت مع التقادم الزمني إلى نوع من الكلاسيكية العلمية. وهنا أريد الحديث عن جزء من هذه النظرية، ليس بمعنييها التجريبي، والطبي، بل كمحاولة للتأمل الفلسفي فيها، وهو ما أطلقه فرويد يوماً حول جزء من نظريته الجنسية (عقدة أوديب، وأوديب الأنثوية التي أطلق عليها يونغ في ما بعد اسم عقدة إلكترا).

تناول فرويد هذه التسمية من أسطورة أوديب اليونانية، والتي بُنيت على نبوءة العرافة دلفي بأن طفلاً سيولد، ويقتُل أباه لايوس، ويتزوج أمه يوكاسته. وحرصاً من الوالدين على عدم تحقيق النبوءة، يقرران التخلص من الطفل، فيعطيانه لراعٍ كي يتركه للوحوش على جبل كيثايرون. لكن الراعي يشفق على الطفل، ويعتني به حتى يكبر. ثم تتحقق النبوءة، ويصبح أوديب ملكاً على طيبة بعد أن يقتل أباه لايوس، ويتزوج أمه يوكاسته من دون أن يعلم أنها والدته.

فرويد لم يمتلك أدوات إثبات فكرة الجنس المتشكل قبل الولادة، ليس بمعناه الجيني، بل بمعنى الثقافة الصوتية الأولى التي تتركز في الوعي الأول

طبعاً بنى فرويد نظريته على تلك الأسطورة، وهي رغبة الطفل الجنسية في أمه. وبنى نظريته المضادة، أوديب الأنثوية التي سُميت بإلكترا، على المبدأ الأوديبي نفسه، وهي عن تعلق الفتاة بوالدها، مؤسساً إياها على أسطورة يونانية مماثلة، وهي أسطورة انتقام إلكترا من والدتها، بعد مقتل أغاممنون الأب.

بعيداً عن الأسطورة، ما يهمنا هو الشكل الجنسي الذي طرحه فرويد، ولاقى معارضة تاريخية من الناس والعلماء. وهو سؤال قديم قِدم النظرية نفسها: هل يمكن إثبات ما قدمه حول التعلق الجنسي؟ اتفق العلماء، والمدارس، بعد موت فرويد على نقاط عدة تشمل مجمل الأخطاء في نظريته، وأهمها:

النقطة الأولى: "اعتمد فرويد في غالبية نتائجه على الملاحظات المُتعلقة أساساً بأشخاص مضطربين عاطفياً، وهو ما يعدّه معارضوه أمراً غير دقيق. فمن وجهة نظرهم هناك شخصيات سليمة، وهو ما يدحض تعميمات فرويد".

النقطة الثانية: "في الوقت الذي ظهر فيه فرويد، كان الحديث عن الجنس عموماً محظوراً جداً. لذلك وجدت نظريته بيئة خصبة، إذ إن معظم المرضى يُعانون من مشاكل جنسية. ويلاحظ معارضوه الآن، وعلى الرغم من مشاكل الجنس التي تقل مع الوقت، أن المرض الذهني ما يزال موجوداً، بل هو في تطور".

النقطة الثالثة: "وضع فرويد فرضيات عامة لم يفسرها، وهو ما جعلها غامضة حتى على تلاميذه؛ مثلاً، ما هو السلوك الذي يشير إلى أن الطفل، في مراحله الأولى، كما يقول فرويد، في مرحلة تطور نفسي-جنسي؟"

ما نكتسبه من المجتمع والثقافات، ليس سوى انطباعات لاحقة على الانطباع الأول، وهو الجنس كثقافة صوتية

يظهر، في الوقوف على هذه النقاط، أن فرويد تحدث عن التطور النفسي الجنسي للطفل في مراحل نشأته الأولى، بعد ولادته واختلاطه بالمجتمع. بالطبع هذه النقطة تعاني بعض الضعف، لكن ليس لأن العلماء بعد فرويد أخضعوا المعيار الجنسي للسلوك المجتمعي، والاكتساب، والثقافة، بل لأن فرويد لم يمتلك أدوات إثبات فكرة الجنس المتشكل قبل الولادة، ليس بمعناه الجيني، بل بمعنى الثقافة الصوتية الأولى التي تتركز في الوعي الأول.

 

من منطق علم النفس الوجودي، يشارك الإنسان في تشكيل العالم، وفي الوقت نفسه يخضع لاضطرابات هذا التشكيل، من قلق، واكتئاب، وبحث عن معنى للوجود البشري. ويُسقط رواد هذا العلم أي نوع من أنواع الفطرة البشرية في تأثيراتها على الإنسان، إن كان بمعناها التحليلي الفرويدي (صورة الجنس)، أو حتى التأثيرات الجماعية لمبدأ الأسطورة والدين والفلكلور، وتأثيراتها على البشر كما عالجها يونغ يوماً.

بالتأكيد، إن الإنسان عنصر مُكتسِب، لكن تختلف زمنية الاكتساب وأشكالها. بمعنى أن الأقرب إلى صيغة الاكتساب هي فطريته، ثقافة الجنس، الانطباعات الأولى بحسب السلوكيين الذين يبنون الإنسان من خلال قدرته على تلقي الثقافات المحتملة كلها. لكن السؤال يبقى: ما هي أولى الثقافات التي تتشكل في الجزء المظلم من الدماغ؟

لا أحد يختلف من علماء النفس -بمن فيهم فرويد- على أن سلوك الإنسان يُبنى تحت تأثيرات المجتمع، لكن الخلاف كله الذي طُرح، هو حول أولى الانطباعات، والتي أعادها فرويد إلى صورة الجنس. قلنا إن رؤية فرويد للجنس النفسي الطفولي تعاني ضعفاً بسبب عدم قدرته على إثبات فكرة الجنس المتشكل قبل الولادة. وقد يبدو هذا الافتراض متطرفاً قليلاً بالنسبة إلى العلم. لكن دعونا نأخذ هذا الافتراض ضمن سياقات البحوث العلمية نفسها.

قامت جامعة هلسينكي الفنلندية بإجراء دراسة على 12 أماً حاملاً، من خلال منحنهن أسطوانة مدمجة سُجلت عليها أغنيات للأطفال، لعرضها على الجنين في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل، ولخمس مرات يومياً، (أي بعد الشهر الخامس)، والتخلص نهائياً من الأسطوانة بعد الولادة، لضمان عدم الاستماع مرة أخرى إلى تلك الأغنيات.

وبعد إعادة الاستماع إلى الأغاني مرة أخرى، بعد الولادة بأربعة أشهر، ومقارنة النتائج بين أطفال لم يستمعوا إلى تلك الموسيقى أثناء فترة الحمل، لوحظ أن المجموعة الأولى من الأطفال، الذين عُرض عليهم القرص الموسيقي المُدمج أثناء فترة الحمل، قد هللوا وتفاعلوا مع الأغنية التي استمعوا إليها، وأن إشارات المخ أشارت إلى أن الأغنية مألوفة لهم. بينما لم تُسجل ردود الأفعال والإشارات العصبية نفسها عند المجموعة الثانية التي لم تستمع إلى الموسيقى.

نتائج الاضطرابات الذهانية، التي تمت معارضة فرويد فيها، ناتجة عن تعقيدات الحياة اللاحقة التي تطمر وعي الجنس البدائي

بالإضافة إلى السنوات الـ15 الأخيرة من الدراسات، قامت جامعات كثيرة بدراسات مشابهة، حتى في المجال الديني، وتأثير الصوت على الأجنة، من خلال قراءة القرآن على النساء الحوامل في بعض المراكز الدينية الإسلامية في أمريكا، والتراتيل الإنجيلية في الكنائس، وتمت ملاحظة الفروقات بعد الولادة عند الأطفال، من الهدوء، إلى الذكاء، إلى التأقلم والانفعال. بغض النظر عن الاكتساب النفسي والثقافي اللاحق للأفراد الذين تعرضوا تاريخياً لذلك النوع من الصوتيات، إلا أننا نتحدث عن الانطباعات الأولى لدى الأجنة والرضع. هذه الدراسات أثبتت تأثيرات الصوت الخارجي على الأجنة، وقدرتها على حضور مميز وفاعل. ولا يملك أحد اليوم، سواء أكان أكاديمياً أم شخصاً عادياً، أي مشكلة مع هذه الثقافة الأولى التي تتركز في وعي الجنين، قبل ولادته. إنها ثقافة تأثير الصوت البدائي على الإنسان، والخطوة الأولى لتستقبله الحياة بوعي مختلف.

بالمنطق نفسه، وبطريقة منطقية وبديهية، ألا يحق لنا التساؤل، إن كان أي صوت له التأثير ذاته؟ ونقصد هنا بالضبط، الفعل الجنسي، الأكثر تأثيراً على الجنين من الأصوات الخارجية كالموسيقى، والقراءة؛ فعل تأوّه الأم الحامل وتأثرها، أو الزوج، بالمعطيات الشبقية المباشرة أثناء المضاجعة. وهي بالمعنى الصوتي أكثر تأثيراً من الأفعال الصوتية الخارجية، لأنها تنبع من الصلة الحميمية والتأثيرية المادية لفعل الجنس.

إن كان الجميع مقتنعين بتأثير الصوت الخارجي على الجنين (الثقافة، الموسيقى، التراتيل الدينية)، ألا يجب، للأسباب نفسها، أن يكونوا مقتنعين بأن الأجنة يتأثرون بالفعل الصوتي الجنسي، بل ربما بتأثير مضاعف، لمباشريته في الجسد البشري، الأمومي-الأبوي، وقدرة زرع الصوت الشبقي في الوعي الأول للجنين. وأكثر من ذلك، يمكن للجنين ألا يسمع أي أصوات خارجية، كالموسيقى، أو تراتيل النصوص الدينية، وقراءاتها، لكن لا يمكن له إلا أن يتلقى كل إفرازات الصوت الجنسي الأول. وعليه، فإن الطفل يولد بوعي جنسي بدائي. إنها أولى الانطباعات الثقافية له، قبل أن يصير في الحياة. وهذا يضعنا أمام الرؤى البحثية النفسية حول مفهوم الاكتساب، ومعنى الوجود، جميعها؛ ما نكتسبه من المجتمع والثقافات، ليس سوى انطباعات لاحقة على الانطباع الأول، وهو الجنس كثقافة صوتية لها بناءات خاصة، وتأثيرات لا تمحى في الجزء المظلم من الوعي.

بهذا المعنى البديهي الذي أقرّته الدراسات العلمية، والكهنوت الديني السلطوي في العالم، والتابعون له شعبياً من مواطنين عاديين، إذ يمارس الجميع الأمر نفسه، لا يمكن لنا سوى التسليم بصحة الوعي الجنسي الأول قبل الولادة. وعليه تكون نتائج الاضطرابات الذهانية، التي تمت معارضة فرويد فيها، ناتجة عن تعقيدات الحياة اللاحقة التي تطمر وعي الجنس البدائي الصوتي الذي يتخذه الجنين معرفةً أولى، وتعلّقه الطبيعي بالأم، ثم الأب، اللذين يزرعان في الوعي الجنيني أولى التأوهات الشبقية، قبل الثقافات المكتسبة والتراتيل الدينية.

إنها اعترافات غير مباشرة وغير مقصودة من الكهنة والعلماء بثانوية الاكتساب الثقافي، وأصالة الجنس الصوتي، وأسبقيته على الأديان التي نكتسبها مجتمعياً لاحقاً، وعلى العلوم التي نحللها معرفياً.

"أوديب" و"إلكترا"، ليستا أسطورتين، وليستا مزيجاً خيالياً مريضاً. إنهما واقع يتلاشى تحت ضربات القيم المكتسبة الشمولية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard