شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
اكتبوا على شاهدة قبري:

اكتبوا على شاهدة قبري: "تذكرونا، نحن أيضاً عشنا وضحكنا وأحببنا"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 8 يونيو 202102:22 م

لا يستطيع الإنسان أن يتخيل نفسه مجرد كيس من النايلون مرمي في الهواء، متروك للريح والشمس والمطر. لا يستطيع تحمل فكرة أنه مجرد ذرّات ضائعة في الكون غير المحدود. الخوف يجعله ممسكاً بيد الحياة، حتى اللحظة الأخيرة. بل يستمر بالمسك بها حتى بعد أن يرحل. الكثير من الأساطير، وعلى رأسها أسطورة جلجامش، حركت سؤال الخلود، كذلك الأديان، بفرعيها الأرضي والسماوي، اشتغلت بجدّ على تسويق بضاعتها، بالتركيز على منتج الخلود بعد الموت. أياً يكن هذا الخلود، سواء على ضفاف نهر ساحر في الجنة، أم في قلب مرجل مرعب في جهنم، من الجيد أن البشر لا يملكون دخلاً مادياً مرتفعاً، وسطوة ملكية كما الفراعنة، وإلا لكانت الكرة الأرضية مزدحمة بالأهرامات. وستبدو للناظر من مركبة فضائية كرة مرعبة ممتلئة بالنتوءات الحادة. لكن العين بصيرة، واليد قصيرة، لذا سيكتفي الفقراء والعاديون بأساليب بسيطة وغير مكلفة، ليدخلوا ملكوت الخلود بالمتاح والممكن لهم.

كيف أترك كل هذا وأرحل؟ لا بد من وهم ما يجعلني هنا بينكم. الخلود ضالة الجميع، مهما تعددت أساليب البشر والثقافات في التعامل مع جثث موتاهم الأعزاء، سواء أكان الدفن، أم الحرق، أم الترك على قمة جبل مرتفع لتأكلها الغربان والطيور الجارحة، أم التحنيط، وغيرها من الأساليب التي لا يزال البشر يبدعون فيها. فمثلاً، اخترع زوجان إيطاليان هما آنا سيتيلي وراؤول بريتزيل كبسولة دفن فريدة، يوضع في داخلها جسد الإنسان بعد موته ليتحول لاحقاً إلى شجرة، "كل شجرة تدل على شخص". كذلك نجد اليابانيين يقترحون جعل شواهد قبور موتاهم إلكترونية وفيها رقم سري لمعرفة المعلومات الاساسية عن الميت وأمنياته، فيحفظون بذلك هويات موتاهم من أيدي العبث.

يصعب على الروائي واسيني الأعرج النسيان حتى بعد الموت، فيقول: "القبور أيضاً تموت بالنسيان". قوله هذا يحيل إلى أمر واضح: خوف الحيّ من النسيان بعد أن يصبح داخل القبر. لذلك، يقوم بما يجب تجاه موتاه تاركاً ديْناً في رقبة من سوف يموت قبلهم. لذلك نرى البشر إما يوصون وصايا تخص قبورهم وما يُكتب عليها، أو رمادهم وكيف سينثر. وحتى أولئك الذين يهبون جثثهم لطلاب الطب المتدربين على التشريح، لا يختلفون عن البقية من حيث المبدأ. ثمة رغبة من الجميع بترك بصمة ما، بترك أثر ما، كأنما يقولون ها نحن لا زلنا هنا، يمكنكم وضع "لايك" كبيرة. وقد نرى الأحياء من ذوي الميت يقدّمون له ما يجعله حاضراً، بغض النظر إن كانت لديه وصية أم لا. فبعض الثقافات تدفن مع الميت أغراضه الشخصية، كما تصل في بعض الثقافات إلى درجة إعادة الميت، ونبشه من القبر في طقس سنوي، لساعات، ثم إرجاعه إليه. لم يبتدع هذه الفكرة أشخاص يحملهم الشوق لموتاهم، بل ابتدعها أشخاص يريدون أن يزوروا قبائلهم وأسرَهم بعد الموت. ابتدعها الأموات أنفسهم قبل أن يموتوا، ليضمنوا استمرار هذا الطقس، فيشملهم لاحقاً.

"نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يُجصَّصَ القبر، وأن يُقعَدَ عليه، وأن يُبنَى عليه" (صحيح مسلم). لكن رغبة البشر ومشاعرهم كانت أقوى وأعمق، فتجاهلوا نهي الرسول

يمكن إضافة شواهد القبور إلى مواقع التواصل الاجتماعي؛ حلم التفاعل لا ينتهي، سواء مع ما يكتبه الأحياء عن موتاهم، أم مع ما يوصي به البشر في ما يخص قبورهم بعد أن يرحلوا. نجد في الثقافات التي تمارس طقوس الحرق، أن ثمة من يطلب أن يمزج رماده مع رماد حبيبته. وقد أوصى الفنان دييغو ريفيرا بحرق جثمانه ومزج رماده مع رماد الرسامة الشهيرة فريدا كالو؛ زوجته وحبيبته وطليقته.

كذلك هناك نص ساحر هو عبارة عن وصية من الشاعر المصري سيّد حجاب:

"لو مت ع السرير ابقوا احرقوا الجسد

وانثروا رمادي ع البيوت

وشوية لبيوت البلد

شوية ترموهم على "تانيس"

وشوية حطوهم في إيد ولد

ولد أكون بُستُه... ولا أعرفوش"

رأي الإسلام في القبور رأي شهير ومنصوص عليه؛ "خير القبور الدوارس"، أي التي تساوت مع الأرض، وهي دعوة صريحة إلى رفض البهرجة والزخرفة. كما لا يجوز أن تُكتب على قبر الميت آيات قرآنية أو غيرها، ذلك لأن الكتابة ربما أفضت إلى عواقب وخيمة من الغلو، وغيره من المحظورات الشرعية. يعاد تراب القبر عليه، ويُرفع قدر شبر تقريباً حتى يُعرف أنه قبر. هذه هي السنّة في القبور التي درج عليها رسول الله وأصحابه. عن جابر رضي الله عنه، قال: "نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يُجصَّصَ القبر، وأن يُقعَدَ عليه، وأن يُبنَى عليه" (صحيح مسلم). لكن رغبة البشر ومشاعرهم كانت أقوى وأعمق، فتجاهلوا نهي الرسول.

 قد تكون الشواهد، المصنوعة غالباً من الحجر وبالأخص الرخام، إذ يسهل الحفر عليه ويدوم لفترة أطول، قد تكون مكاناً لتفاصيل عدة أشهرها اسم المتوفى، وتاريخ ميلاده، ووفاته، وبعض النصوص الدينية البسيطة. لكن البشر لا يكتفون بذلك، سواء أأوصى الشخص بشيء ما، أم كان الأمر بفعل من ذويه وأصدقائه. فتجد على الشواهد إما حكماً وأقوالاً مأثورة وقصائد شهيرة، وإما تصفية خلافات عائلية، وإما سخرية من الحياة بتوصية سابقة من المتوفى، وإما إبراز حزن لا مثيل له من قبل الأهل بأغنية ما، أو ببضع كلمات. وذاعت كتابات لمشاهير من الحكام أو الممثلين أو الشعراء وغيرهم، منهم أو عنهم.

"إنّ قبراً يكفيه، ذلك الذي لم يكن العالم بأسره يكفيه"، هذه العبارة نُقشت على قبر الإسكندر الأكبر. "هنا أغمد نابليون سيفه"، كُتبت على قبر نابليون، وكتب شعب روما على شاهدة قبر نيرون، الذي أحرق مدينتهم: "هنا يرقد نيرون بجانب ضحاياه". وتنطق شاهدة قبر كليوباترا بسحرها وجمالها حتى اللحظة الأخيرة، فقد نُقشت على قبرها عبارة "ظلت ساحرة حتى اللحظة الأخيرة... أعرفتها؟ هي كليوباترا".

أما أبو العلاء المعرّي، ملك الشعراء الساخطين على الدنيا وأحوالها، فقد أوصى بكتابة "هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد". ومثله تماماً أوصى الساخط الجميل بوكوفسكي أن تُكتب كلمة واحدة تلخص رؤيته في الحياة: "لا تحاول". كذلك فرجينيا وولف تحافظ على التحدي نفسه الذي عُرفت به: "سألقي بنفسي قبالتك أيها الموت، غير خاضعة وغير منكسرة". وعلى الرغم من أن نزار قباني خلت شاهدة قبره من الشعر، إلا أنه كتب على شواهد أحبّته الذين فجع بموتهم؛ ولده توفيق وزوجته بلقيس. قباني قام بنقش أبياته الخاصة على قبر ولده توفيق: أتوفيق... كيف أصدّق موت العصافير والأغنيات". وعلى قبر بلقيس: "بلقيس يا عطراً بذاكرتي، يا زوجتي، وحبيبتي، وقصيدتي، نامي بحفظ الله أيتها الجميلة، فالشعر بعدك مستحيل، والأنوثة مستحيلة". كذلك كتب الماغوط على شاهدة قبر زوجته الشاعرة سنية صالح: "هنا ترقد آخر طفلة في العالم".

من القهر والقسوة أن يمر أمامك مشهد لحديقة من الشواهد التي كُتبت عليها أرقام فحسب. قبور سريعة، قبور تعود إلى بشر كانوا مجرد أرقام في مجتمعات القسوة

بعيداً عن المشاهير، تم رصد العديد من الكتابات التي تعبّر عن أفكار غريبة منها تصفية الحسابات بين ذوي المتوفى، أو السخرية. كُتب على أحد القبور: "هنا يرقد فلان كان زوجاً محباً وأباً صالحاً وكهربائياً سيئاً". وعلى آخر: "هنا ترقد زوجتي حيث ترتاح وأرتاح أنا أيضاً". ممثل أمريكي ساخر كتب: "لا تؤاخذوني إن لم أستطع القيام لتحيتكم". كذلك نجد حسد الميت للأحياء الذين يمرون بالقرب منه، بلغة لا تخلو من اللؤم: "يا من مررت على قبري انظر أمامك، هنا ترقد عظامي ليتها كانت عظامك". وربما أشهر بيت شعري يتم تداوله في منطقة بلاد الشام والعراق هو: "يا قارئ كتابي ابكِ على شبابي، بالأمس كنت حياً واليوم في الترابِ".

أما فيما يخص تصفية الحسابات الشخصية بين أهل المتوفى، فثمة قبر في إيطاليا كتب عليه: "ارقد بسلام... من جميع أبنائك ما عدا ريكاردو فإنه لم يدفع لجنازتك". كذلك لدينا المثال الأشهر والذي خبرته شخصياً ولا يتسع المجال هنا لعرض تفاصيله كاملة، وهو قبر الروائي السوري هاني الراهب، إذ كان أخوه هلال على خلاف مع زوجة هاني وأخيها، فكتب هلال قصيدة نُقشت على قبر هاني فيها ذمّ للزوجة، لتقوم الزوجة وأخوها بعد أيام بخلع رخام القبر، وكتابة ما يسيء إلى هاني الراهب، واختارا آية من القرآن: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا".

عندما مرّ امرؤ القيس في رحلته عبر تركيا قرب جبل يدعى عسيب، مر بقبر ليس عليه أي معلومات. هاله المشهد وسأل لمن هذا القبر، فقالوا له إنه لامرأة غريبة. آلمه هذا المصير، هذا النسيان، وهذه الغربة التي لم تنته للغريبة، فأنشد وقال: "أجارتنا إن الخطوب تنوب/ وإني مقيم ما أقام عسيب/ أجارتنا إنّا غريبان ها هنا/ وكل غريب للغريب نسيب".

ومن القهر والقسوة أن يمر أمامك مشهد لحديقة من الشواهد التي كُتبت عليها أرقام فحسب. قبور سريعة، قبور تعود إلى بشر كانوا مجرد أرقام في مجتمعات القسوة. ثم حين ماتوا بمجانية مرعبة صاروا مجرد أرقام قاتلة في الحياد. هذا المشهد يتكرر في سوريا وفي كل البلدان التي شهدت حروباً قاتلة. إن حالفني الحظ، سأترك وصية لشاهدة قبري أكتب فيها قولاً أحببته وجعلني أشعر بحزن لطيف: "تذكرونا، نحن أيضاً عشنا وضحكنا وأحببنا". نعم الحياة مجرد ضحك ولعب وحب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard