شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ماسح مؤخرات الملوك... وظيفة نبيلة في عصور غير نبيلة

ماسح مؤخرات الملوك... وظيفة نبيلة في عصور غير نبيلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 1 يونيو 202112:20 م


ما هو أسوأ من الجلوس على كرسي لمدة ثماني ساعات ومراقبة شاشات الكومبيوتر في مول تجاري؟ أو الجمود لمدة طويلة أمام أحد القصور الملكية أو الرئاسية؟

هناك بعض المهن التي توصف بأنها الأكثر مللاً على الإطلاق، وبعضها يوصف بالجاذبية القليلة، أو ارتفاع حجم التوتر النفسي والجسدي، كالمعلمين في المدارس، جباة الضرائب ومحاسبي مديرية التربية، وهناك مهن أكثر صعوبة، خصوصاً ما يقترب منها من الموت: تغسيل الموتى، حفر القبور، تشريح الجثث، الندّابات ومقرئو القرآن في الجنائز، ويمكن أن نضيف عمّال المخابر والتحاليل، مخصّبي البقرات وحرّاس الأضرحة الملكية والجمهورية، إنها مهن مقرفة أليس كذلك؟

مهن مثيرة للاشمئزاز

كان على متعهد دفن الموتى أن "يعضّ" إصبع قدم الجثة للتأكد من موتها، بعد حوادث عديدة تمّ فيها دفن الأشخاص أحياء، وكانت من أساليب إنقاذ الغرقى قديماً هو النفخ في مؤخرة الغريق، اعتقاداً بأن هذا يمنع الروح من "الطلوع".

هذه الوظائف، بالرغم من أهميتها، إلا أنها مثيرة للاشمئزاز حقاً، ويمكننا أن نضيف، إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة مهام رؤساء الحكومات العربية والوزراء وأعضاء مجلس الشعب، خصوصاً في بلد جميل مثل سوريا، إلى قائمة أخرى، هي قائمة "الذين لا قيمة لهم"، إذ يستطيع أي ضابط مخابرات أن "يمسح" الأرض حرفياً بأي عضو مجلس شعب، وزير، أو حتى رئيس حكومة، دون أن يعترض المذكور، فهو يعلم تماماً ما هي "قيمته الحقيقية" في "بلد غير حقيقي".

أحد رؤساء الجمهورية في شرق المتوسط لم يجد "مناديل" ورقية بالقرب منه، فاستخدم أوراقاً منزوعة من الدستور الوطني، لكن الأوراق كانت خشنة للغاية على مؤخرته الناعمة، لذا أصدر أمراً بطباعتها على ورق أكثر نعومة، تحسباً لطارئ الأيام

لكن هناك وظائف تربط بين الوضاعة وعلوّ الشأن، مثل وظائف المُخبرين على سبيل المثال، إذ بالرغم من وضاعة المهنة إلا أنه لا سبيل لإنكار أهميتها في هرم السلطة، وهناك وظيفة انتشرت في بلاط الملوك الإنجليز ثم الفرنسيين، تدعى بـ "حامل القطن"، ووظيفة هذا الشخص هو "مراقبة" أمعاء الملك وحركتها والأصوات التي تصدرها، والإسراع لإحضار الكرسي المخصص لذلك، وهو عبارة عن صندوق مثقوب من الأعلى، مغطى بطبقة من المخمل، لترتاح المؤخرة الملكية، وبعد إنجاز "التغوّط الملكي" يقوم "حامل القطن" بمسح مؤخرة الملك والاعتناء برائحتها.

ما هو أسوأ من الجلوس على كرسي لمدة ثماني ساعات ومراقبة شاشات الكومبيوتر في مول تجاري؟ أو الجمود لمدة طويلة أمام أحد القصور الملكية أو الرئاسية؟

ومع الوقت أصبح هؤلاء الأشخاص يمثلون نوعاً من المساعدين الشخصيين للملك، "سكرتير أمعاء الملك"، وإذا استخدمنا تعابير اليوم وتوصيفاتها الوظيفية، نستطيع أن نقول إن منصبه يماثل منصب مدير مكتب رئيس الجمهورية (العارفون بأسرار القصر الجمهوري في سوريا يدركون أهمية "أبو سليم دعبول" في السلّم الوظيفي السوري، يده الحانية ومناديله المعطرة).

والوصول لهذه الوظيفة ليس بالأمر الهيّن، إذ غالباً ما يتم اختيار أحد النبلاء الموثوقين للقيام بها، وعند اختياره يُقام احتفال عظيم بهذه المناسبة، نظراً لأهمية موقعة بالقرب من "المؤخرة الملكية"، لأن الملك غالباً ما يتحدّث بأسرار عظيمة الأهمية عندما يكون على كرسي التغوّط، كما أن الشخص المعيّن غالباً ما يحصل على ثياب الملك القديمة، فيجب أن يتولى هذه المهمة شخص مؤتمن، عظيم المناقبية ويمكن الاعتماد عليه للحفاظ على أسرار المؤخرة الملكية.

اختراع المناديل

لم يكن المنديل على طاولة الطعام عنصراً أساسياً على الدوام، فيشرح المؤرخ كارلوس فيسياس، كيف أن النبلاء كانوا يربطون الأرانب الحيّة بشرائط ملونة بالقرب من الكراسي، ليقوم الضيوف بمسح أيديهم بفرائها بعد تناول الطعام، الأمر الذي أزعج الرسام والمخترع العظيم ليوناردو دا فينشي، فقام في العام 1491 بابتكار طريقة لغسل الضيوف لأيديهم، عن طريق وضع قطع من الأقمشة المبللة بالعطر على الطاولات قرب كل كرسي.

وظيفة "سكرتير أمعاء الملك"، بتعابير اليوم وتوصيفاتها الوظيفية، تماثل مدير مكتب رئيس الجمهورية. العارفون بأسرار القصر الجمهوري في سوريا يدركون أهمية "أبو سليم دعبول" في السلّم الوظيفي السوري، يده الحانية ومناديله المعطرة

وهذا ما لم يرق لنبلاء ذلك العصر، فلم يكونوا يعرفون ماذا يفعلون بها: البعض وضعها على كرسيه وجلس عليها، البعض كان يتقاذفها كما لو أنها لعبة وبعضهم لفّ بها بقايا الطعام ووضعها في جيوبه قبيل مغادرة المأدبة.

وبعد بضعة قرون أصبحت أداة لا غنى عنها على موائد الطعام، قبل أن يتم اختراع المنديل الورقي في عام 1924، الذي اختُرع أساساً لإزالة المكياج عن وجوه السيدات، ومن ثم انتشر بالطرق المتعددة التي نعرفها.

والآن، ما الرابط بين مهنة قذرة كـ"حامل القطن" واختراع المنديل؟ بين تحوّل ماسح مؤخرة الملك أو رئيس الجمهورية إلى متحكّم بالبلاد والعباد وبين الأرانب الحية التي تربط ليتمّ مسح اليدين بها؟

الرابط هو "نحن" في كل الأحوال، الشعوب العربية التي هي أرانب ضعيفة يتم تمسيح مؤخرة الرؤساء العرب بها لمرة واحدة ثم تُرمى، الرابط هو هذا الشخص الذي بالأساس يمتلك مهنة وضيعة للغاية، وبرغم ذلك يملك أن يضع أياً منا تحت تصرّف المؤخرة الجمهورية، ليتلقّى قذارتها فتبدو نظيفة، ناصعة، تفوح برائحة الخزامى، ثم نرمى بعيداً، لأن رائحتنا لا تناسب الذات الملكية أو الجمهورية.

ويُقال، والعهدة على الراوي، إن أحد رؤساء الجمهورية في شرق المتوسط لم يجد "مناديل" ورقية بالقرب منه، فاستخدم أوراقاً منزوعة من الدستور الوطني، لكن الأوراق كانت خشنة للغاية على مؤخرته الناعمة، لذا أصدر أمراً بطباعتها على ورق أكثر نعومة، تحسباً لطارئ الأيام.

سواء في بلاط هنري الرابع، بلاط لويس الثامن عشر أو بلاط السيد رئيس الجمهورية، هناك على الدوام "حامل القطن" الذي يمسح بنا المؤخرة النبيلة ثم يرمينا للأسود الجائعة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard