شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
من أجل فلسطين... لا نقاط على الحروف

من أجل فلسطين... لا نقاط على الحروف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 25 مايو 202111:23 ص

لعلك ارتبكت، أو تذمّرت، وأنت تقرأ منشوراً على موقع فيسبوك، أو تعثّرت في بعض كلماته، من دون أن تدري أن كاتبه فعل ذلك عن عمد، لا عن عجز. فكتابة منشورات عربية بلا نقاط ظهرت مؤخراً كسلاح من أسلحة الحرب الحديثة في الفضاء الأزرق. سلاح اعتمده الفلسطينيون، وداعموهم من أبناء العربية، للحيلولة دون الوقوع في براثن الرقابة والحظر والإلغاء، التي يمارسها موقع التواصل الأشهَر، ضد روّاده العرب، بحجة أن محتواهم الداعم لقضية فلسطين هو "تحريض على العنف".

لكن ما لجأ إليه عرب القرن الحادي والعشرين، ليس جديداً بالكلّية، بل هو استدعاء لميراث أسلافهم من عرب القرون الأولى. فقد كانت اللغة العربية في عصورها الأولى، تُكتب بلا نقاط أو همزات أو تشكيل، وهي النقاط والحركات التي طرأت على حروف لغة الضاد بداية العصر الأموي، على الأرجح.

كتابة منشورات عربية بلا نقاط ظهرت مؤخراً كسلاح من أسلحة الحرب الحديثة في الفضاء الأزرق

يومها، كانت المصاحف خالية من علامات الضبط التي نراها الآن. وبسبب هذا، أو بفضله، بدأ التفكير في نَقط الحرف العربي. ذلك أن اتّساع رقعة الإسلام، ودخوله أمصاراً أعجمية لا عربية، عجز أبناؤها عن قراءة آيات القرآن قراءة صحيحة، كان شرارة البدء في التنقيط العربي.

في كتابه "المحكم في نقط المصاحف"، يُشير إلى تلك الحقيقة ابن الصيرفي، أو أبو عمرو الداني؛ العالم والمحدّث الأندلسي، موضحاً أن ما دعا السلف إلى نقط المصاحف بعد أن كانت خالية منه، هو ما شاهدوه من أهل عصرهم من "فساد ألسنتهم، واختلاف ألفاظهم". وأشهر ما ورد في ذلك أن أعرابياً دخل المدينة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، فقال: "من يُقرئني مما أُنزل الله على محمد؟ فأقرأه رجل من سورة التوبة، حتى قال: (أنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)، بكسر اللام في رسوله وجرها عطفاً على المشركين، فدُهش الأعرابي، وسأله: هل برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ من رسوله، فإني أبرأ منه".

فبلغت الخليفة عمر مقالة الأعرابي، فدعاه سائلاً: أتبرأ من رسول الله؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يُقرئني، فأقرأني هذا سورة براءة، فقال: (أنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)، فقلت ما قلت، فقال عمر: ليس هكذا بل هي (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)، بضم اللام عطفاً على لفظ الجلالة، فأمر عمر بن الخطاب بعدها، ألا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، كما أمر أبا الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69 هجرية، بوضع حلّ لهذا اللحن.

يتناقل آخرون الرواية ذاتها، بالقول إنها وقعت في عهد الأمويين، وليس في عهد عمر. لكن الثابت أن بطل القصتين واحد، هو أبو الأسود الدؤلي، الذي وضع ما نسميه اليوم "التشكيل"، وليس "التنقيط"، إذ إنه اهتدى إلى وضع نقاط كحركات إعرابية على آخر الحرف، فوضع نقطة فوق الحرف علامة على فتحه، ونقطة إلى جانبه علامة على ضمّه، ونقطة أسفل الحرف علامة على كسره، والحرف الساكن بلا نقاط، ونقطتين علامة على التنوين.

لكن ذلك لم يكن كافياً لإزالة العُجمة. إذ ظلّت الحروف الأبجدية المتشابهة في العربية، قابلة لقراءات عدة، فآية "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة"، قرأها بعضهم "صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة". فالتشابه لا يزال واقعاً في حروف: ب، ت، ث، وج، ح، خ، س، ش، ص، ض، وغيرها، إذا ما كُتبت بغير نقاط.

تُشير معظم الروايات التاريخية هنا، إلى أن الحجّاج بن يوسف الثقفي، أمر واحداً من تلامذة أبي الأسود الدؤلي، وهو نصر بن عاصم الليثي، بوضع حل لتلافي ما شاع من أخطاء، فوضع نصر النقاط على الحروف، فقسّم الأبجدية إلى حروف معجمة عليها نقاط، وأخرى مهملة بلا نقاط. وشاركه في ذلك الإنجاز يحيى بن يعمر العدواني، وفق بعض المصادر.


لكن وضع النقاط التي أنجزها نصر بن عاصم الليثي تعارضت مع وضع النقاط الأخرى، التي كان قد سبقه إلى وضعها أستاذه أبو الأسود الدؤلي، كعلامات على حركة إعراب الحرف، فتحاً وكسراً وضمّاً، فتولدت مشكلة أخرى.

وهنا برز رائد ثالث في مدرسة كتابة الحرف العربي، هو الفقيه النحوي الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي تمثّل إنجازه في الإبقاء على النقاط المميزة للحرف، التي وضعها عاصم، وتغيير شكل نقاط التشكيل التي وضعها الدؤلي. فوضع بدلاً منها حركات الفتح والضم والكسر والسكون والتنوين، التي نعرفها اليوم.

على الأرجح، إن الكتابة العربية بلا نقاط. وكما أربكت بعض القراء، أربكت كذلك خوارزميات الفيسبوك، فتسللت بفضلها، في ما يشبه كلمات السر، منشورات الدعم والتأييد والتضامن للحق الفلسطيني. وهي بجانب خطوات أخرى، أوصلت إلى الموقع رسالة مفادها أن مكاسبه في خطر، وأن انحيازه ضد الحق الفلسطيني، لن يكون بلا حساب.

على الأرجح، إن الكتابة العربية بلا نقاط، وكما أربكت بعض القراء، أربكت كذلك خوارزميات الفيسبوك، فتسللت بفضلها، في ما يشبه كلمات السر، منشورات الدعم والتأييد والتضامن للحق الفلسطيني

فالحملة التي شنّها ناشطون لإعادة تقييم الموقع في متاجر التطبيقات، آتت أكلها ضعفين، وهبطت بتقييمه هبوطاً مدوياً. فأحدث القراءات التي وقعتُ عليها -أثناء كتابة المقال- تُشير إلى أن تقييمه في متجر "آب ستور" هبط إلى 1.5، وفي متجر "غوغل بلاي" هبط إلى 2.6، وهو ما ينعكس سلباً ومباشرة على مكاسبه المادية، إذ انخفضت أسهم الموقع خلال الأيام الأخيرة، وبلغت خسائره نحو 5.5 مليون دولار، حسب ما أورده موقع "غوغل". هزة لن نبالغ في تقديراتها، لكن ربما هي ما دفعته إلى التواصل مع البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في لندن، وتقديمه وعداً بحل المشكلات المتعلقة بالمحتوى الفلسطيني.

تاريخياً، كان وضع النقاط على الحروف إنجازاً عظيماً على مستوى الكتابة العربية، حتى بات من مضارب المثل وضع المرء النقاط على الحروف، إشارةً إلى إيضاحه، ودقّته، وإحقاقه الحق. لكن ذلك تبدّل هذه الأيام، للمفارقة، وباتت إزالة النقاط من على الحروف، هي الإشارة الأبرز إلى تلك المعاني.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard