شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"المهنة بحالة جمود وتعاني من تداعيات الحرب"... حرفيو البروكار بدمشق يدقون ناقوس الخطر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 19 مايو 202112:07 م

في سوق المهن اليدوية داخل "التكية السليمانية" وسط دمشق، تنتشر محال الحرف التراثية كأنها أماكن منسية. على يمين الباب الرئيسي للسوق وعلى بعد حوالي خمسين متراً يقع واحد من أواخر المحال التي تبيع قماش "البروكار" الدمشقي الشهير، عارضاً منتجاته كإكمال لديكور السوق القديم.

يكتفي الزبائن بالسؤال عن سعر القطع المعلقة على الحائط الخارجي والإشادة بجمالها ثم المغادرة، في حين يعتذر الحرفي بخجل عن ارتفاع الأسعار. داخل المحل يلمح الزائر نولاً قديماً مركوناً يكسوه الغبار، في حين لم يطغَ غياب الحياة في المكان على جمالية أقمشة البروكار الموزعة في أرجاء المكان، والمصنوعة من خيوط الحرير والقصب، على شكل رسومات دقيقة للغاية، أشهرها "صلاح الدين"، "روميو وجولييت" و"العاشق والمعشوق".

ومثل كثير من الحرف التقليدية السورية، تعرّضت حرفة البروكار التي تشتهر بها دمشق منذ عشرات السنين لضربة قاصمة مع بداية الحرب، التي تعتبر "العدو الأكبر" لكل الحرف الإبداعية. ارتفعت أسعار المواد الأولية وبالتالي تكلفة الإنتاج، تقلّصت اليد العاملة بشكل ملحوظ واختفى السياح، وألقت الأوضاع الاقتصادية بظلالها على العاملين بالحرفة، ومعظمهم يدق ناقوس الخطر لإنقاذ صناعتهم التراثية الجميلة من التراجع والاندثار.

محل البروكار في سوق المهن اليدوية بدمشق

محل البروكار في سوق المهن اليدوية بدمشق - تصوير حسانة سقباني


البروكار اليدوي والآلي مهددان

يضع محمد رنكوس، وهو واحد من أواخر صانعي البروكار، كرسيه إلى جوار الأقمشة المصفوفة بتناسق على رفوف المحل في سوق المهن اليدوية، ويبدأ حديثه لرصيف22 بكثير من الملل: "كنا ثلاثة حرفيين في دمشق نصنع البروكار يدوياً، توفي واحد وبقي اثنان. كنا نقول بأن البروكار اليدوي في خطر، أما الآن حتى الآلي دق ناقوس الخطر، فالمعامل الثلاثة المتبقية أوقفت معظم آلاتها وأبقت نولاً أو اثنين للإنتاج".

تعرّض البروكار الدمشقي لضربة قاصمة مع بداية الحرب، ويتحدث حرفيوه عن مصاعب كبيرة يعانون منها.

ويوضح الفرق بين البروكار اليدوي والآلي: "يمتاز القماش اليدوي بالإبداع بينما يعتمد الآلي على النسخ في تطابق الرسومات وتوزيعها، ويساعد على تسريع عملية الإنتاج. المتر بالنول اليدوي يحتاج ثماني ساعات عمل لإنتاجه، بينما في النول الآلي يحتاج ساعة واحدة، لذلك ترتفع تكلفة إنتاج اليدوي بشكل كبير ويصبح بضاعة نادرة للغاية".

كساد أقمشة البروكار المصنّعة آلياً أيضاً فرض على أصحاب المعامل إيقاف تشغيل آلاتهم لمنع التعرض لخسائر أكبر. في مصنع البروكار الآلي الذي يقع بمنطقة عدرا الصناعية شرق دمشق، وهو شبه متوقف حالياً، يعمل نول واحد فقط من بين 14 نولاً كانت لا تتوقف قبل الحرب، فالإنتاج لا يسبب سوى الخسائر وتراكم البضائع، كما يوضح الصناعي أنطون مزنر لرصيف22: "أعمل بمجالات أخرى لذلك أستطيع تغطية خسائر معمل البروكار فهو عمل مع وقف التنفيذ. هذه مهنة العائلة ونحن من مؤسسيها منذ أكثر من مئة عام، لذلك أحاول الحفاظ على اسمها. الحرفة بحالة جمود وتعاني من تداعيات الحرب والعقوبات التي تعرقل منافذ التصدير، عدا عن القطاع السياحي المتوقف منذ زمن".

يضيف الرجل متحدثاً عن مهنة الأجداد بنبرة يشوبها الغضب: "البروكار من أصعب وأهم وأدق الصناعات النسيجية بالعالم، والحرفيون الذين يعملون بالبروكار اعتبرهم كثر عباقرة نسيج". يتابع مشيراً بيده إلى قطعة القماش بجواره: "هي فسيفساء نسيجية دقيقة بقياسات تبدأ من الميكرو وتنتهي بالميلليمتر، ففي عرض 90 سم من القماش نستخدم 7 آلاف خيط، لذلك صُنّف البروكار الدمشقي كأغلى الأقمشة في العالم. هو قماش مصنوع من خيوط الحرير الطبيعي المزركشة برسومات متقنة، ويدخل في صناعته خيوط ذهب عيار 12 وخيوط فضة عيار 90".

أقمشة البروكار الدمشقي

أقمشة البروكار الدمشقي - تصوير حسانة سقباني

تستذكر ماجدة، وهي سيدة ستينية، عندما كان البروكار جزءاً أساسياً من مقتنيات السيدات في سوريا. تقول لرصيف22: "رغم أن البروكار قديماً كان يعتبر من الأقمشة الفاخرة ولكنه كان بمتناول يد الجميع، فكان يباع في المؤسسات التجارية الحكومية بسعر منخفض عن الموجود بالأسواق، وكثيراً ما كان جزءاً من جهاز العروس، ولم يكن شراؤه كما الآن محصوراً بطبقة معينة رغم أن سعر متر قطعة القماش كان 5 آلاف بما يعادل 100 دولار، لكن هذا المبلغ لم يكن مرتفعاً قبل تدهور الأوضاع الاقتصادية".

إضافة لذلك، تعرّضت الكثير من معامل البروكار لأضرار كبيرة بسبب الحرب والعمليات العسكرية. يتحدث عبد الكريم الأصيل وهو يملك مصنعاً للبروكار في منطقة القابون شرق دمشق عن تعرّض معمله للقذائف، ويقول في لقاء مع رصيف22: "المعامل كانت على خطوط النار وتعرّضت لأضرار كبيرة. لماذا لا يقدم اتحاد الحرفيين الدعم لمهنة البروكار؟ فهو يملك أماكن تصلح لأن تكون ورشاً للحرفيين في دمشق وريفها، وهي أملاك عامة للدولة".


تدريب الأيدي العاملة

يرفض أحمد شكاكي، وهو حرفي ستيني، اعتبار صناعة البروكار مهنة مندثرة طالما أن هناك من يعمل بها حتى الآن، ويحاول بجهود شخصية تعليم الحرفة للجيل الجديد بعد المحاولات المضنية لإيجاد اتفاق مع الجهة المسؤولة عن الحفاظ على الحرف التراثية، فالمشكلة الحقيقية لتراجع المهنة من وجهة نظره تكمن في عدم توافر اليد العاملة.

المواد الأولية يمكن تأمينها، ولكن اليد العاملة تحتاج لتأهيل وتدريب وتشجيع.

يقول في لقاء مع رصيف22: "عرضتُ على وزارة السياحة فتح مراكز تدريب، كما قدمتُ عرضاً لفتح منشأة صغيرة في دمشق لتدريب موفدين من الخارج قاصدين تعلم الحرفة، وبعد إعداد الجدوى الاقتصادية ومراجعة وزارة السياحة ومديرية المهن اليدوية كان الجواب: ليس لدينا ميزانية لطلاء حائط واحد".

يشرح عضو لجنة حماية التراث في مدينة دمشق في حديثه: "المواد الأولية يمكن تأمينها، ولكن اليد العاملة تحتاج لتأهيل وتدريب وتشجيع واحتواء. فالسبب الأساسي لتدهور حرفة البروكار هو عدم اهتمام المسؤولين في وزارتي السياحة والثقافة. هم قادرون على إحيائها، من خلال اتخاذ إجراءات بفتح مراكز تعليمية وتدريبية وتخصيص ميزانية لشراء الآلات والمواد وإطلاق التعليم بشكل مجاني".

يخالف المهني محمد رنكوس هذا الرأي، فتدريب الأيدي العاملة من وجهة نظره لن يفضي إلى نتيجة طالما أنه ليست هناك خطة متكاملة: "ما الفائدة من تخريج الحرفيين إذا لم يكن الحرير الطبيعي وآلات النول متوافرة؟ لنفرض أننا أنجزنا ذلك أين سنقوم بتصريف المنتجات؟". وينوّه إلى أن حرفة البروكار كانت تدرّس في الثانوية الصناعية بدمشق منذ العام 1994، لكن آخر دورة تخرجت عام 2015 وأغلق القسم بعدها لعدم وجود مهتمّين بتعلم الحرفة، ورغم تخريج 200 شخص على مدار تلك السنوات لم يعمل أحد بالمهنة لعدم توافر فرص ملائمة ومجدية.

ما الفائدة من تخريج الحرفيين إذا لم يكن الحرير الطبيعي وآلات النول متوافرة؟ لنفرض أننا أنجزنا ذلك أين سنقوم بتصريف المنتجات؟

المواد الأولية معضلة أخرى

قبل عام 2009 كان الحرفيون السوريون يشترون الحرير اللازم لصناعاتهم من معمل في منطقة دريكيش شمال غرب البلاد، وكان إنتاج المعمل يكفي الاستهلاك المحلي ويصدّر الفائض للخارج. لكن إغلاق المعمل أجبر الحرفيين على استيراد الحرير من الصين والهند.

ويتفق حرفيو البروكار على عدم صواب قرار إغلاق معمل الحرير دون وجود سبب واضح، وهو ما زال متوقفاً حتى اليوم. ورغم أن جودة الخيوط المنتجة محلياً لم تكن مرتفعة، لكنها كانت توفر الكثير من نفقات الاستيراد التي تشكل ثقلاً كبيراً على كاهل الحرفي. يقول محمد رنكوس بهذا الصدد: "أهم عوائق إنتاج البروكار اليوم عدم تواجد خيط حرير محلي، فيضطر الحرفي للاستيراد من الخارج، وبذلك ترتفع تكلفة الإنتاج ويتجاوز سعر متر البروكار اليوم 200 ألف ليرة (حوالي 60 دولاراً). لو كان الحرير وطنياً لانخفض ثمن القطعة للنصف".

من منتجات البروكار الدمشقي

من منتجات البروكار الدمشقي - تصوير حسانة سقباني

ويضيف عبد الكريم الأصيل: "كنا نحصل على الحرير من معمل دريكيش بسعر 60 دولاراً للكيلوغرام، والآن نشتري بأضعاف هذا المبلغ من الخارج، كما كنا نستطيع الحصول على الكمية التي تلبي احتياجاتنا، أما الآن فنحن مضطرون لشراء كميات كبيرة دفعة واحدة، ما يشكل عوائق لاستمرار الصناعة. من المؤسف إيقاف معمل حديث كان ينتج الحرير بالتعاون مع الفلاحين، مما يحرك القطاع الزراعي أيضاً".

ما نحتاجه في الفترة الراهنة هو دعم خارجي للتسويق، فالمبيعات الحالية لا تغطي النفقات، والأسواق المحلية لا يمكن أن تكون مستهدفة بظل الظروف الاقتصادية الحالية، فكيف يشتري المواطن السوري متر البروكار بـ200 ألف ليرة، وهو لا يملك ثمن رغيف الخبز؟


ضعف سوق التصريف

تستهدف المنتجات اليدوية والمرتبطة بالتراث السائح الأجنبي بالمقام الأول، كما أن السوق المحلي قبل الحرب كان مهتماً بالبروكار، لكن مع سوء الأوضاع الاقتصادية انخفض الطلب بشكل كبير جداً، كما يشرح محمد رنكوس، ويضيف: "نحن بحاجة إلى فتح قنوات تسويق خارجية. لو كانت هناك خطة جدية من قبل جهة تهتم بتسويق هذه المنتجات للخارج لاختلف الأمر بالتأكيد. اليوم نواجه صعوبات بتأمين المادة الأولية وصناعة الأقمشة واستحالة تسويقها. قد يكون أحد الحلول المطروحة التوجّه للتسويق الإلكتروني والشحن للخارج مع إيجاد آلية لوصول ثمن القطع المباعة".

يشير عبد الكريم الأصيل أيضاً للعوائق المفروضة على السوريين بما يتعلق بالتعاملات المادية الضرورية لعمليات التصدير: "لدي 4 آلاف متر كبضاعة كاسدة، وما نحتاجه في الفترة الراهنة هو دعم خارجي للتسويق، فالمبيعات الحالية لا تغطي النفقات، والأسواق المحلية لا يمكن أن تكون مستهدفة بظل الظروف الاقتصادية الحالية، فكيف يشتري المواطن السوري متر البروكار بـ200 ألف ليرة، وهو لا يملك ثمن رغيف الخبز؟".

يشير أحمد الشكاكي في ختام حديثه إلى القصة المتداولة عن ارتداء ملكة بريطانيا اليزابيت الثانية ثوباً دخل البروكار الدمشقي بصناعته، عندما توّجت على العرش عام 1952، ويقول بفخر ممزوج بالحسرة: "الجانب المعنوي هو السبب الرئيسي لمن بقي في هذه المهنة في يومنا هذا، فجميعنا ورثناها عن أجدادنا، وهي جزء من الهوية الدمشقية، ونحرص على الاستمرار بها وحمايتها والحفاظ عليها".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard