شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أن تُدفن للمرة العشرين... الموت في عصر الكورونا

أن تُدفن للمرة العشرين... الموت في عصر الكورونا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 23 أبريل 202112:06 م

"ترنّخني" ذكريات قديمة عن الموت بعرقٍ بارد يسيح على لوحة المفاتيح، تجتمع مئات الأعضاء، حفنة من الأصابع، عين من هنا، قدم من هناك، رمش نسيه أحدهم على كنزتي الصوفيّة ومات، قشرة شعر لامرأة ملَّت إعلانات الشامبو المبتذلة، ساق مليئة بشعر أسود باغتت المشاهد الضبابية المتآكلة في ذاكرتي، جاءت ثأراً للبشاعة التي لا يلتفت إليها أحد.

اكتشفت أنني في كتابتي عن الموتى صرت واحدة منهم. وكأنني حملت هذه الصور وذهبت بها إليهم في صندوقٍ التفوا حوله بأكفانهم الممزقة ووجوههم الزرقاء التي تكشف عن جماجم هشة. ينبشون بفضوٍ صورهم المبعثرة داخل عيني، يتبادلونها ويعرضون بعضها على موتى آخرين وصلوا حديثاً. ينظر أحدهم إلى صورة الساق المليئة بالشعر، ويقارنها بقدمه الفارغة فيشعر بالفزع، وأخرى كانت أمي ذات يوم تنظر إلى قشرة شعرها وتتحسس رأسها الممزّق ثم تنفجر ضاحكة باكية. لدي ذكريات عزيزة معهم جميعاً، ولست عزيزة على أحد منهم. القسم المسؤول عن المعزّة "تلوكه" الديدان. وأنت أيها القارئ، لن تجمعني بك أي ذكرى سوى هذا النص بكلماته المليئة بالقيح، بعد أن مكثت طويلاً في حنجرة فتاة قيد التحلّل. لعلك لا تحب البشاعة، لا أحد يحبّها، ولكن لا ضير في اكتشاف الطريقة التي ستُدفن بها للمرة العشرين.

سأحاول بأدنى مستوى ممكن من الكآبة أن أشرح لك مفهوم "الموت ما بعد الحداثي"، الموت الذي يحتقر الخوف والحقيقة. كل هؤلاء الذين شاهدتَهم مفجوعين على سيقانهم ورؤوسهم لا يعرفون أن ذكراهم لم تعش إلا ليومين، وأن وباء كورونا حولهم إلى أبطال لنصف ساعة فقط.

حين تموت تحصل جثّتك على تغطية خاصة، ضمن ما يسمّى بـ"تلفزة الواقع"، يحشرونك داخل عدسة كاميرا ويصوّرون رحلة انتقالك إلى مثواك الأخير بأدق التفاصيل. يأخذونك من بيتك أو المكان الذي متّ فيه إلى المشفى، يغسّلونك أو يحرقوك أو يفعلوا المناسب بجثّتك حسب معتقداتهم، "فهذا ليس شأنك"، ويسمحون لأنفسهم بالتقاط صور باكية مع وجهكَ الأصفر "إن كان لا يزال في مكانه"، ثم يشيّعونك في جنازة مقتضبة ومختصرة مؤطرة بالكاميرات التي تكشف ملامحك، كفنك، موقع قبرك، وتحدد لك زاوية التصوير عرض أكتافك ومعدتك التي خسرت دهونها لأنَّ للروح وزنٌ كما لكل شيء وزن.

حين تموت تحصل جثّتك على تغطية خاصة، ضمن ما يسمّى بـ"تلفزة الواقع"، يحشرونك داخل عدسة كاميرا ويصوّرون رحلة انتقالك إلى مثواك الأخير بأدق التفاصيل

يصوّرون قبركَ قبل أن يجفّ التراب عنه ويرحلون. وترحل أنت أيضاً بعد سويعاتٍ عن آخر الأخبار في منصات التواصل الاجتماعي. تموت افتراضياً، تُدفن افتراضياً ويُقبل عزاؤك افتراضياً أيضاً. لك أن تتخيل كمية البلادة في المشاعر، كمية اللامبالاة إزاء قيمة الأرواح البشرية، أولئك الذين عاشوا حياةً كاملة من المأساة التي قد لا تساوي تراجيديا عطيل أو روميو وجولييت، يرقدون تحت تراب تم تصويره افتراضياً، وكأن حياتهم ليست أكثر من مجرد إشعار على فيسبوك، جرسٌ يُدق لمرة واحدة، ويُنسى..

إشكالية "الموت ما بعد الحداثيّ" و"الموت في عصر الكورونا" هي الترويج لفكرة "الواقع الفائق". بمعنى أن صورة الموت أصبحت مسخاً يجوب مواقع التواصل، بتصوير عشرات الموتى لحظة دفنهم، تكرار المشهد مئات المرّات، هذا "الاغتصاب الفكري" لذهن الجمهور المشاهِد الذي يكون وعيه أثناء تصفح المواقع أشبه بوعي امرأةٍ تلف خيطاً على سبابتها وتنظر من النافذة بشرود إلى الطريق منتظرة قدوم عشيقها. عملية تخدير تفضي إلى غيبوبة نتاجها حزمة من الاحتقار والاستهانة بالموت.

فقدَ الموت معناه. يتزاحمون لتصويرك، ولو أن شبحك مرّ من بينهم لصفعوه على رقبته موبّخين: "ما الذي جاء بك إلينا، ألم تمت قبل قليل؟ أغرب من هنا ودعنا نحصل على زاوية تصويرٍ مناسِبة.". أنا لا أبالغ، وسأذكر قصة امرأة عجوز أعرف أنها حصلت على "كمشة" من الأزهار فور وفاتها، وشاهد رخيص خُط اسمها عليه وأنهكه المطر إلى حدّ عجزك عن قراءته. كانت أماً لفتاة أتابعها على فيسبوك، شاهدتُ رحلةَ خروجها من البيت إلى المشفى، وكانت ابنتها تلتقط صوراً لها وهي ترقد على سرير الشفاء الذي قتلها فيما بعد، حصلت على مئات الدعوات وحين ماتت غطّت ابنتها الجنازة بشكل كامل، وصوّرت نفسها وهي تبكي فوق القبر، تبتلع دموعها وتقرأ القرآن بصوت مرتفع. أذكر أيضاً أنها نُقلت إلى قبرها في سيارة إسعاف، ولا أعرف لماذا يُنقل الموتى في سيارة إسعاف إلى قبورهم، لمَ العجلة؟ ما الذي يدفع الميت للركض بهمجيّةٍ إلى المقبرة؟ لقد ذاب مفهوم الزمن بالنسبة إليه، لم يعد بحاجته. سيارة الإسعاف للأحياء، فلماذا حين نطلبها لا تأتي بهذه السرعة؟

لعلّي أكتب بسخرية تدرَّبت عليها جيداً بعد التعامل بإفراط مع مشاهد الموت الافتراضيّة. هل تلومني؟ أنا فقط شديدة الملاحظة، ويستهويني النقد غير البناء، لا يوجد نقد بناء، وإن سمحتُ لنفسي بالإسهاب في هذا الموضوع سأحيد كثيراً عن قضيّتنا، هل توافقني بأنَّ التفاصيل مُهلكة؟

إليكَ قصة أخرى عن زميلةٍ لي أعرفها منذ أيام الدراسة. عانت والدتها من السرطان لمدة سبع سنوات وماتت مؤخراً، فصوَّرت نفسها وهي تمسك بيدها الزرقاء، وتنظر إلى وجهها الذي اكتسب لوناً قاتماً مختنقاً "لأن التخلّي عن الروح ليس سهلاً"، وكتبت كلاماً كثيراً، وصوّرت قبرها مئات المرات.

وفي ظل كورونا يُجَر القيادي إلى قبره وحيداً فوق أكتاف العساكر فقط. ويحظى بآلاف الإعجابات من أشخاص عاش حياته ليساعدهم منتظراً هذا اليوم، لا يريد أن يكون وحيداً، وكان

أما تغطية جنازات "القيادات العليا" فشيء آخر، يُشعرونك بأنهم لا زالوا قيادات عليا حتى بعد وفاتهم، وسيتدبرون شؤون الشعب من الأعلى. خاصة أولئك الذين يعملون تحت ظل الرئيس أو من حاشيته القريبة أو البعيدة. يحصلون على جنازة عسكرية ويمنع العساكر عامة الناس من الاقتراب منهم، ويصوّرونهم بكاميرات احترافيّة ليشاهدوا الجنازة فيما بعد باعتزاز، وليبحثوا بين الوجوه عمّن حضر ومن غاب. وفي ظل كورونا يُجَر القيادي إلى قبره وحيداً فوق أكتاف العساكر فقط. ويحظى بآلاف الإعجابات من أشخاص عاش حياته ليساعدهم منتظراً هذا اليوم، لا يريد أن يكون وحيداً، وكان.

ثمة شخصيات أخرى من المشاهير، أو "المؤثرين" مثل عبد الله العمري الذي مات في بداية آذار، وكان لموته أثر كبير على مواقع التواصل، ولا زال قبره يحصل على أزهار طازجة وتغطية مستمرة. تتنقل العدسة ما بين قبره و"قطَّته" التي ما زالت تعيش في غرفته ولديها معجبين يرون فيها "ريحاً" من فقيدهم.

الموتى هم أشخاص مثلنا، طحنتهم الحياة. ويأملون، بعد أن فُقد أي أمل آخر من هذه الحياة، أن يجدوا الراحة أخيراً. الموتى لا يريدون جنازات افتراضية، كما لا يريدون موتاً افتراضياً، إنها إهانة للموت بتحويله إلى مشهد قابل للإعادة، إهانة لمفهومه المرتبط بالانزياح المريح عن الوجود، والذي هو بالمناسبة نوعٌ من "التصابي العدمي".

في الذاكرة ثمة نضال دائم للحفاظ على أجزائك، ملامحك، يداك. في الذاكرة أنت مقدس. بخلاف المشهد المصور الذي يعوِّد العين على التفاصيل ذاتها. هذا هو الفرق بين أن تُدفن في الذاكرة، وبين أن تُدفن للمرة العشرين داخل قبر من الرخام السميك اللامع، من أجل صورة نظيفة.

حين أموت لا أريد قبراً يُزار افتراضياً، ولا أريد أن يكون الحنين إليّ عرضياً كالشعرة التي تصفعها راحة يد غاضبة تردد بتذمّر: "القشرة مجدداً" أريد أن يكون الحنين إلي مثل شعرة بيضاء تصبغها يدٌ نظيفة كل شهر برقة وإتقان، أريد أن أكون شعرة يُقام بعد صبغها ألف احتفال.

الموتى لا يريدون جنازات افتراضية، كما لا يريدون موتاً افتراضياً، إنها إهانة للموت بتحويله إلى مشهد قابل للإعادة

لا أريد أحبّة مخدَّرين بـ"ذهنيّة الدرَج" وهو مصطلح فرنسيّ يحاكي حالة التلكؤ الانفعالي، أو المماطلة الشعورية، مثل أن يصطدم اصبع قدمك الصغير في حافة الطاولة، فتنظر إليه بتمعن لدقائق ثم تتذكر أن إحساساً ملحاً بالألم جرى تجاهله، وينبغي أن يُستعاد الآن. فتصرخ متذمراً. وبتكرار الضربات تنسى أن هناك في الأسفل جزءًا صغيراً منك تغطيه بملاءة حين تنام فيحرقك وتكشف قدمك للوحش الذي ينتظرك تحت السرير، دون خوف.

"خذ قدمي أيها الوحش"، ومثلها: "خذ حياتي أيها الموت". هذا ما دربتنا عليه "الميديا". ففي الوقت الذي ترى فيه الموتى ينعون ذكرياتهم في عينك، تلجأ إلى مواساة ذويهم بيدين آليتين، وعينين منفصلتين عن الواقع، ترقب الموت وترجوه أن يكون ابن عائلتك النووية، لتحظى برحيل سهل وسريع مثل الذي رأيتَه، ميتة تخلّف الحب والامتنان والمشاعر الجميلة إزاء الميت الذي فاضت روحه.

أصبحتَ تعيش في عصر "الصعلكة الروحية". يسير جسدك في مدن معروفة، ولديك حركات محدودة، وأماكن تشغلها وملابس ترتديها بالطريقة نفسها دائماً. لعلك ترتدي البنطال أولاً ثم القميص أو العكس، في حالة جلوس أو وقوف، لا خيارات أخرى إلا إذا كنت من "الزواحف"، بخلاف روحك الضائعة التي لا تستطيع الإمساك بها. وتكون مواقع التواصل بمثابة تسوق روحي/ فكري تعلِّمك كيف تغازل الموت بتعزية افتراضية من كلمات جنائزية مستهلكة عن الحب والامتنان، وكيف تدفِن آخرين وتُدفن للمرّة العشرين بعد أن تخلَّصت من حياتك الحزينة الرخيصة تحت رخام يُبنى في كل مرة يُشاهِد فيها أحدهم جنازتك.

 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard