شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
إذاعة برلين العربية... هتلر يحتل العالم العربي بصوت يونس بحري

إذاعة برلين العربية... هتلر يحتل العالم العربي بصوت يونس بحري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 24 أبريل 202110:09 ص

قبل أن تبدأ نُذُر الحرب العالمية الثانية بالظهور، عاش العالم أوضاعاً استقطابية حرجة، بشّرت بأن الأرض مقبلة على صراعٍ دموي جديد، يحدّد المنتصر فيه جغرافيا العالم وسياستها.

ولم يكن العالم العربي بمعزل عن كل هذا، فهذه المنطقة الحيوية من العالم ظلت دائماً وأبداً مطمعاً لقوى العالم أن تمتد إمبراطورايتهم عبر أراضيها، لاستغلال ذلك الفراغ الذي نشأ عن تضعضع الدولة العثمانية، وحالة السيولة الوطنية التي تدفقت في عروق السياسيين العرب بعد وقوعهم تحت سيادة القوتين الكبيرتين؛ إنجلترا وفرنسا، واللتين فرضتهما قرارات الانتداب الدولية حاكمتين مُطلقتي السيادة على المنطقة، فنُظر لهما دوماً كقوى احتلال تعيّن رفض وجودهما والعمل على إزالته.

إذاعة برلين وصراع القوى العالمية على أرض العرب

وما بين دول تطمع في ترسيخ سلطانها في المنطقة (إنجلترا وفرنسا)، وأخرى تسعى للاستئثار بالعالم العربي (ألمانيا وإيطاليا)، تعدّدت أسباب مطامع الغرب في الشرق لكنها توحّدت في أن الراديو سيكون أهم أسلحة تحقيق هذه الأغراض، فلقد وعى الأوروبيون مبكراً أن الطريق الأول للاستحواذ على أراضي العرب هي الوصول إلى عقولهم أولاً، وفي هذا التوقيت كان الراديو هو وسيلة الإعلام المثلى التي يتابعها الجميع، يتلقون منها الأخبار وينسجون سياساتهم وأحلامهم بناء على ما يسمعونه.

نتج عن هذه القناعة اندلاع ما يمكن تسميته "حرب إذاعات" بين الدول الأوروبية الكبرى للظفر بالآذان العربية.

برلين العربية

البداية كانت في إيطاليا، والتي كانت أولى الدول الأوروبية التي اهتمّت بتقديم إذاعة عربية، فأنشأت إذاعة "باري" سنة 1935م، وكانت تُقدَّم باللهجات الشامية والعراقية والمصرية، وطوال 3 سنوات أُدخلت عليها تحسينات عدّة من حيث جودة البث ومدته وتنوّع برامجه.

ووفقاً لكتاب "الغزو الثقافي والمجتمع العربي المعاصر" لمحمد سيد أحمد، فلقد ارتكز مضمون الإذاعة الإيطالية على مهاجمة السياسة البريطانية بعنف، وتضخيم مدى ضعف وعجز الإمبراطورية البريطانية في عيون العرب، وتحريضهم على الثورة ضدها.

نجحت التجربة الإيطالية، وصارت قوة مؤثرة في تشكيل الوعي العربي، وهو ما أدّى إلى تسابق ألماني/ إنجليزي على استنساخها وتطويعها لخدمة أغراض كل دولة، وفي وقت متزامن تقريباً، ظهرت إذاعتان تابعتان للدولتين.

النموذج الأول كان بريطانياً، وظهر في يناير من 1938م، وحمل اسم "إذاعة الشرق الأدنى"، وبلغت العناية به أوجها فور اندلاع الحرب العالمية الثانية، فزاد حجم المساحة الإخبارية التي تغطّي أخبار المعارك الحربية في أوروبا وأفريقيا، لكنها خالفت النهج الإيطالي الانتقادي الزاعق، وحافظت على نهجٍ إعلامي رصين يدسُّ السمّ في العسل، فقدّمت حزمة متنوعة من البرامج، شنّت حرباً نفسية على الإيطاليين والألمان، ووصفتهم أحيانًا بأنهم كفار وزنادقة، كل هذا جرى بأسلوب جذّاب غير مباشر.

وفي مارس 1957م أُغلقت محطة "إذاعة الشرق الأدنى" أبوابها، بالتوازي مع تدشين قسم عربي في هيئة الإذاعة البريطانية بلندن.

النموذج الثاني كان ألمانياً، وظهر إلى النور في أبريل 1939م، وحملت الإذاعة اسم "برلين العربية"، ووفقاً لمحمد سيد أحمد، فإنها كانت أول إذاعة أجنبية تبث من برلين، واقتدت بالنموذج الإيطالي الزاعق، فاعتمدت الخطب الرنّانة والشتائم النابية بحقِّ القادة الإنجليز والفرنسيين، لكنها اختلفت عنها في أن الدعاية الإيطالية هدفت إلى تهديم النفوذ الفرنسي في شمال أفريقيا، في حين ركزت الدعاية الألمانية على شرق المتوسط.

لقد وعى الأوروبيون مبكراً أن الطريق الأول للاستحواذ على أراضي العرب هي الوصول إلى عقولهم أولاً

كان مضمون خطاب "برلين العربية" هو إلهاب الشعور القومي العربي، عبر الحديث المستمر عن الحرية والاستقلال وحثّ الجيوش العربية على الإطاحة بحكامها الخاضعين لسلطات الاحتلال، وذلك قبل سنوات من اجتياح جيوش دول المحور لأراضي الشرق العربي، وهو ما يتطابق مع وجهة نظر هتلر التي أعلن عنها في كتابه "كفاحي" بقوله: يجب على الدعاية أن تسبق الحكم بمراحل طويلة، ولكي تنجح هذه الدعاية، ينبغي انتقاء المواد الإنسانية الصالحة لها.

استمرّت إذاعة برلين تبثُّ برامجها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وقضت عليها هزيمة ألمانيا النازية، فأغلقت الإذاعة أبوابها في أبريل 1945م، فما هي قصة هذه الإذاعة التي حققت نجاحاً مذهلاً وجعلت مذيعيها نجوماً ساطعة في بلاد العرب؟

يونس الرحالة

لنفهم حقيقة الأمر كما يجب، سيكون علينا أن نعود عشرات السنوات إلى الوراء، وتحديداً إلى العام 1903م، والذي وُلد فيه يونس الجبوري في مدينة الموصل العراقية، والذي قام بجولات دار فيها على أكبر دول العالم وأتقن الكثير من اللغات، والأهم امتلك حسّاً إعلامياً فريداً، أسلوباً بيانياً بديعاً في الكتابة والخطابة، وصوتاً رنّاناً يجذب أسماع كل من ينصت إليه. كان نموذجاً لمذيع الراديو المثالي للأذن العربية التي لا تتوق إلا للصوت الرخيم والكلام الفخيم.

بسبب جذوره الوظيفية الأولى كضابط بحري، تحوّل لقب يونس من "الجبوري" إلى "البحري"، وهو الاسم الذي استقر في أذهان الجماهير العربية حتى الآن. حقّق نجاحاً إعلامياً لافتاً استدعى اهتماماً مخابراتياً به، فوفقاً لهذه الوثيقة الصادرة عن وزارة الخارجية البريطانية سنة 1931م، فإن القسم العربي بها كان مهتمّاً برصد كتابات بحري في الصحافة المصرية، بعدما نشرت له جريدة الأهرام مقالاً واحداً.

لهذا لم يكن غريباً أن يكون يونس أول اختيارات الملك العراقي، غازي بن الملك فيصل الأول، حينما قرّر أن يشنَّ حرباً إذاعية على الكويت، فدشّن إذاعة "قصر الزهور"، والتي ركزت جهودها على الترويج للمساعي العراقية في ضمِّ الكويت إلى أراضيها.

يقول حسن العلوي في كتابه "أسوار الطين في عقدة الكويت"، إن الملك غازي نجل الملك فيصل الأول، الذي تُوِّج ملكاً على العراق وعمره 21 عاماً، هو أول زعيم عراقي يخرج بفكرة "ضمِّ الكويت" عن حلبات الصراع السياسية إلى ساحات التراشق الإعلامي، بعدما أسّس إذاعة خاصة تحضُّ في برامجها أهل الكويت على الثورة على حكامهم وضم بلادهم إلى العراق، وتبثُّ من قصر الزهور.

خلال هذا التوقيت كان الملك غازي مبتهجاً بنجاحات ألمانيا في ضمِّ عدد من الأقاليم الواقعة في تشيكوسلوفاكيا بسبب الأصول الألمانية لسكانه، وهو السيناريو الذي حلم باستغلال حالة الاستنفار العسكري التي عاشها العالم لتكراره مع الكويت.

الخطوة الأولى لتحقيق هذا الغرض كانت عبر الأثير، وفي سبيل إنجاح هذه الإذاعة الملكية استعان الملك برجال دين كبار، مثل نجم الدين الواعظ وحمدي الأعظمي، القيادي اللبناني فؤاد غصن، المذيع الشهير يونس بحيري، بالإضافة للأحاديث التي كان يظهر فيها الملك غازي بنفسه.

لم تستمر هذه الإذاعة طويلاً، بعد حادث السيارة الغامض الذي تعرّض له الملك غازي وأودى بحياته في أبريل 1939م، وسط تكهّنات أشارت بأصابع الاتهام إلى إنجلترا، بسبب سياسات غازي الساعية للتقرّب من هتلر، والتي ظهرت في اقتنائه أسلحة ألمانية حديثة لجيشه، وسعيه لاستنساخ تجارب استغلال الشباب الهتلري، بتطبيق"نظام الفتوة" على المدارس العراقية، والتي أخضعت طلابها لتدريب عسكري صارم.

هدية من هتلر

أدرك يونس بحيري أن العراق لن يتّسع له مجدداً، بل وربما لو استمرّ بالعيش فيه أكثر من ذلك سينال مصيراً مشابهاً لنهاية مليكه، فقرّر الهرب من بغداد فوراً.

وهنا لم يكن غريباً أن تكون ألمانيا هي المأوى الأول لبحيري عقب سقوط الملك، فألمانيا تمتّعت بنفوذ كبيرة في عهد الملك، وكنت عناصر ألمانية تدعم العاملين في إذاعة غازي بالمعلومات والأخبار والتقارير، لمساعدتها على تغطية أوقات البث.

ما هي قصة إذاعة برلين في العراق التي حققت نجاحاً مذهلاً وجعلت مذيعيها نجوماً ساطعة في بلاد العرب؟

ووفقاً لمذكرات بحري، فإن أجهزة الراديو التي بدأت بها الإذاعة الملكية بثّها كانت هدية من هتلر، وهو ما يدفعنا للقول، بضمير مرتاح، إن بحري امتلك علاقات وثيقة بأهم القادة الألمان، وهو ما تجلّى في مساهمة القنصل الألماني في العراقي بنفسه في ترحيل بحيري إلى برلين، وتمكّن الأخير من عقد لقاءات على أعلى مستوى مع زعماء النازية البارزين فور وصوله.

يحكي يونس أن علاقته بألمانيا وهتلر أقدم من ذلك بكثير، وإنما تعود إلى لحظات دراسته العسكرية بها عام 1921م، وفي هذه الأثناء تعرف بهتلر في أحد المطاعم، وحينها كان لا يزال الزعيم الألماني رساماً فقيراً، ما استدعى شفقة يونس حتى أنه كان يعطيه ديناراً يومياً على سبيل الصدقة! وبعدها توطّدت دعائم بحري بكافة رموز الحزب النازي.

هنا برلين، حيَّ العرب

في برلين، قابل يونس بحري وزير الإعلام النازي الشهير جوبلز، واقترح عليه تدشين إذاعة عربية تبث من ألمانيا، ولم يكن بحري يتخيّل كم كان توقيت اقتراحه مثالياً، لأنه في هذه الأثناء كان هتلر وجوبلز يدرسان تكرار تجربة "إذاعة باري" الإيطالية بروحٍ ألمانية.

لم تصل إلى بحري موافقة على اقتراحه وحسب، بل سُمح له بلقاء هتلر، والذي منحه دعماً سخياً مكّن بحري من إطلاق إذاعته سريعاً، وبعد 3 أيام فحسب من مغادرته بغداد، استمع العرب لأول مرة إلى صوت يونس وهو يصدح "هنا برلين، حيَّ العرب" في تمام الساعة السابعة مساء يوم 7 أبريل/نيسان.

يحكي يونس بحري في مذكراته، أن أحد العراقيين اقترح عليه أن يُحيِّي العرب على غرار تحية "هايل هتلر"، فكلمة "هايل" تعني "حيَّ"، فصارت عبارته "حيَّ العرب" مشهورة للغاية في العراق ومناطق عديدة في الوطن العربي، في إذاعته حرص بحري على صبغها بروحٍ جادة، فابتعد عما أسماه "أغاني الميوعة" لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، واكتفى بالأناشيد الحماسية وبثَّ القرآن بصوت القارئين المصريين، أحمد سليمان السعدني وسكينة حسن.

في هذه الأجواء المضطربة، كان العرب قد علّقوا آمالاً على دول المحور لتحرّرهم من مظالم دول الحلفاء التي رزحت في بلادهم لسنوات عجاف لم يروا فيها منهم خيراً، ولأن الدول العربية كانت تفتقر إلى أبسط أساليب الدفاع عن نفسها، فكان أملها الوحيد في التخلّص من حكم الإنجليز والفرنسيين هو القوة الألمانية البازغة، التي بدت في عيونهم قادرة على تحقيق المستحيل في ظل تعهداتها القاطعة بأنها ستسمح للعرب بحكم بلادهم حال تحريرها، وهي الوعود التي حملت بالآمال العربية إلى عنان السماء إلى حدِّ دعوتهم للنازيين بالانتصار في صلواتهم.

أيضاً، كان يونس بحري نموذجاً مثالياً راقَ للمستمعين العرب، ليس فقط بسبب فخامة صوته وجزالة ألفاظه، وإنما بسبب أسلوبه الزاعق الذي أكثر من الحطِّ من شأن ملكة إنجلترا ووزرائها وجنودها، فكان يُطلق عليهم النكات وينهال فوق رؤوسهم بالسباب، وهو ما أعجب تلك الأمم المقهورة التي أذلتها البنادق الإنجليزية وسلبت منها حريتها منذ سنوات طويلة.

عندما كانت برلين قبلة للوطنيين العرب... 

برلين قِبلة للوطنيين العرب

في هذه الأجواء، سريعاً ما أصبحت برلين قِبلة للوطنيين العرب الذي اعتبروا أن التحالف مع ألمانيا هو الخيار الأمثل للتخلص من إنجلترا، في ظلّ تراجع أو إخفاء هتلر قناعاته القديمة، والتي كان يعتبر فيها أن العرب يحتلون المرتبة قبل الأخيرة في قائمة الأجناس البشرية، ولا يسبقون فيها إلا اليهود والقرود، إلا أنه بفضل ذراعه الأيمن رودلف هيس، والذي وُلد في مدينة الإسكندرية بمصر، امتلك هتلر معرفة كبيرة بهموم العرب وشواغلهم الوطنية، وجعلها جزءاً من خطته الكبيرة لإعادة تقسيم العالم.

ترجم الوطنيون العرب تحالفهم مع ألمانيا بتقديم دعم كبير لذراعها الإعلامي؛ محطة برلين. بعضهم شارك في برامجها بقوة، مثل مفتي القدس الحاج أمين الحسيني والداعية السلفي المغربي تقي الدين الهلالي الذي كان يصيغ الخطابات ويدققها لغوياً.

بفضل ذراعه الأيمن رودلف هيس، والذي وُلد في مدينة الإسكندرية بمصر، امتلك هتلر معرفة كبيرة بهموم العرب وشواغلهم الوطنية، وجعلها جزءاً من خطته الكبيرة لإعادة تقسيم العالم

فيكشف عبدالكريم الحسني في كتابه "الصهيونية: الغرب والمقدس والسياسة"، أن أحد أكبر رموز هذه الإذاعة كان الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، والذي وثّق علاقته بألمانيا وهتلرها، أملاً في أن يكونوا طوق النجاة من إنجلترا ووعدها لليهود بفلسطين.

ويضيف: بسبب مجهود الحسيني النضالي، لُوحِق في عدة دول متنوعة حتى استقرّ به المطاف في ألمانيا، والتي استقبله زعيمها بحميمية ووفّر له إقامة مريحة باعتبار أنهما "حلفاء ضد الصهيونية"، كما أخبره هتلر عند لقائه به، ويتابع الحسني:

أقام الحاج أمين في برلين، وكان يُسمع صوته في إذاعة "برلين العربية"، وكان يُوجِّه نداءات للفلسطينيين بمقاومة الإنجليز إلى أن صار الألمان يخسرون في جبهات الحرب، فهرب الحسيني إلى النمسا، وراح يتنقل بين عدة دول أوروبية إلى أن استقر به المقام في مصر.

دعم المحطة سرًا

بعض القوميين العرب الآخرين اكتفى بدعم المحطة بإجراء زيارات سرية لها ودعم أعضائها على استمرار نضالهم ضد المحتل، مثل الأمير شكيب أرسلان، فوفقاً لكتاب "الاتجاهات الفكرية العربية في الصحافة" لسهيل الملاذي، فإن المفكّر اللبناني البارز أيّد ألمانيا النازية، ودافع عن احتلال إيطاليا للحبشة، وكافة المجهودات الحربية لدول المحور.

كما يكشف ظاهر حسناوي في كتابه "شكيب أرسلان ودوره السياسي"، أنه كان يقوم بزيارات إلى إذاعة برلين العربية، حرص على أن تكون سريّة خوفاً من مصادرة فرنسا لأملاكه في لبنان.

سريعاً أيضاً أصبح يونس بحري بمثابة المتحدث الرسمي باسم هتلر وقواته النازية، في الوطن العربي بأكمله من المحيط إلى الخليج، وبات مصدرهم الأول للأخبار ولمعرفة نتائج المعارك الألمانية، والتي ازدادت سخونة مع دخول قوات المحور منطقة الشرق واحتلال ليبيا ومحاولتهم احتلال مصر، وتعددت الإشارات إلى هذا الدور المحوري في الكثير من كُتب قادة الفكر والسياسة العرب. كان صوت بحري يصيغ آمال وأحلام مواطني البلاد في تلك الفترة، ومثّل شوكة عملاقة في خاصرة الإمبراطورية الإنجليزية.

ما دفع المخابرات البريطانية للحديث عنه في تقاريرها السرية مُجدداً، وهذه المرة قالت عنه: إنه رجل شهير، وشهرته كانت في لسانه القذر والمؤامرات التي يحيكها، وهو مخترع من الدرجة الأولى للأكاذيب وصناعة الأذى.

كان النجاح الساحق لمذيع إذاعة برلين يعني سيطرة نازية أكيدة على الجماهير العربية التي كانت تلتفُّ حول أجهزة الراديو لمعرفة ماذا يدور في العالم

يقول بحري في مذكراته: اتسع نطاق العمل في الإذاعة العربية ببرلين، وازداد نشاطنا بعد هذا الإقبال منقطع النظير على سماعنا من هذا المنبر العربي الحر الذي دوّخ بريطانيا وحليفتها، وبعد أن كنت أعمل وأذيع وحدي بالتعاون مع الدكتور روت المراقب الألماني للإذاعة، أوفد لنا الأمير شكيب أرسلان، الدكتور محمد تقي الدين الهلال من أعلام مراكش، وكان يدرس لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة بون.

والحقّ أن هذا العلامة الفاضل قد أفادنا فوائد جلية في العمل على إخراج الإذاعة العربية بشكل قوي ممتاز، وأمر هتلر قسم الإذاعات الأجنبية الأخرى التي تبث من محطتنا أن تنقل عنا ما نقول عن فلسطين واليمن باللغة الإنجليزية، كما أمر الإذاعة الفرنسية بأن تقوم بإذاعة أقوالنا عن سوريا ولبنان والمغرب العربي (تونس، الجزائر والمغرب).

الإذاعة الأكثر شعبية...

يقول خالد الراوي في كتابه "أساليب الدعاية الاجنبية الموجهة الى الوطن العربي": كانت إذاعة برلين أكثر شعبية من إذاعة لندن، وأن الجماهير في المقاهي والأسواق كنت تفضل الاستماع إلى يونس بحري، وكانت إذاعة برلين تُسلي أكثر مما تقنع، في حين أن إذاعة لندن تمكنت من اجتذاب الطبقات الأعلى في المجتمع، وتميزت بقدرتها على الإقناع، وهو مالم يجعلها محبوبة وسط باقي طبقات المجتمع.

في هذه الأثناء، كان الراديو هو الوسيلة الإعلامية الأقوى في بلاد العرب، وكان النجاح الساحق ليونس بحري يعني سيطرة نازية أكيدة على الجماهير العربية التي كانت تلتفُّ حول أجهزة الراديو لمعرفة ماذا يدور في العالم. وفي تقرير أمني، قدّرت السلطات العسكرية الأمريكية أعداد أجهزة الراديو الموجودة في البلاد أثناء الحرب العالمية الثانية بالآتي: في مصر 55 ألف جهاز، وفي العراق 4 آلاف جهاز وفي سوريا 6 آلاف جهاز.

يقول يونس في مذكراته: كان التجاوب المستحب الذي استقبل به العرب الإذاعة العربية من برلين منذ أول نشاطها، مُشجعاً لي على المضي في مهمتي الشاقة، فرحتُ أستنبط الوسائل المختلفة لجعل الإذاعة منبر إرشاد وتوجيه، وعاملاً رئيسياً فعّالاً لشحذ همم العرب، وحملهم على التضحية بكل مرتخص وغالٍ لتحرير بلادهم، والاستماتة في الكفاح المستمر في فلسطين وفي سوريا ولبنان والمغرب العربي.

إذاعة برلين في الكتب العربية

لم يُبالغ فيما ذكر بشأن الاحتفاء العربي بصوته وأطروحاته التبشيرية بقُرب الخلاص من نير الاستعمار، فحفلت الكتب العربية بعشرات الإشارات التي اعتبر فيها كتّابها، وهم صفوة مفكري العالم العربي حينها، أن صوت بحري هو السفير الأول لألمانيا في بلادهم والمعين الأول لأخبار النازية.

يحكي الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في مذكراته، أنه في أعقاب فشل ثورة الكيلاني 1941م، حرص بصحبة أصدقائه على معرفة ردِّ فعل ألمانيا عليها.

يقول: جلسنا في نادي الموظفين في حضرة صفوة من الزملاء، وراح صوت يونس الهادر يخترقنا: "يا أهل العراق، يا جيش العراق، لا تستسلموا ولا تهنوا، تذكروا ما خاطبكم به شاعركم الجواهري في ثورة العشرين، وراح ينشد (لعلَّ الذي ولّى من الدّهر راجعُ/  فلا عيش إن لم تبقَ إلا المطامع /جرى ثائرا ماء الفرات فما ونى/   عن العزم يوماً موجه المتدافع/ حرم عليكم ورده ما/ تزاحمت على صفحه تلك الوحوش الكوارع".

عن "المذيع العراقي الذي يُهيِّج الناس على اليهود في إذاعة نازية"... 

وهو ذات المعنى الذي أكّده الأديب العراقي علي بدر في روايته "حارس التبغ"، والتي كان بطلها "يوسف" شديد الشغف بمتابعة صوت يوسف بحري، ذلك "المذيع العراقي الذي يُهيِّج الناس على اليهود في إذاعة نازية"، أدمن البطل الاستماع إلى صوته أكثر من القصص الغرامية، وكان يتوقد حماسة كلما أعلن عن تحقيق قوات المحور انتصارات في جميع الجبهات الحربية، وتبشيره بزحفها في شمال أفريقيا وقرب اندحار الحلفاء.

وفي المغرب، كشف الناشط المغربي أبو بكر القادري في كتابه "مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية"، أن المغاربة كانوا يحبون أن يستمعوا لراديو برلين، وهو يهاجم الاستعمار الفرنسي، ويهاجم اليهود وأنصارهم، وأن الكثيرين منهم كانوا شغوفين بالاستماع إلى صوت بحري المجلجل وهو يسبُّ الفرنسيين بشناعة.

فيما يكشف هذا الفيلم الجزائري مدى حرص المجاهدين الجزائريين على الاستماع إلى الإذاعة الألمانية، وتفاعلهم مع صوت يونس كلما هاجم قوات الاحتلال بضراوة.

وفي مصر، كتب الصحفي مصطفى أمين في روايته "الآنسة كاف"، أنه فور اقتراب أنباء قدوم قوات المحور من القاهرة، مزّقت الجماهير صور تشرشل على جدران القاهرة، وفرح الفلاحون بأنهم سيتخلصون أخيراً من جيش الاحتلال، وكانوا يجلسون كل ليلة بجوار الراديو، يستمعون للمذيع يونس بحري يصف لهم هزائم الإنجليز على أيدي الألمان، بنفس الأسلوب الذي تُروى به قصص الزناتي خليفة ومغامرات الزير سالم.

وبلغت من قوة الاستماع لإذاعة برلين حدّاً أن اعتمد عليها ملك مصر فاروق في إجراء اتصالاته السرية مع الألمان. يقول محمد عودة في كتابه "كيف سقطت الملكية في مصر"، أنه فور دخول قوات المحور مصر، أعلن كلٌّ من هتلر وموسوليني احترامهما لسيادة مصر واستقلالها، وأنهما سيدخلانها لطرد الإنجليز وليس لإعادة احتلالها، وأن سياستهما نحو مصر ترتكز على المبدأ الوطني "مصر للمصريين".

في شهر يونيو، وحينما تصاعدت العمليات العسكرية في الصحراء الغربية نحو الذروة، وبدأ الزحف نحو الإسكندرية، بعث هتلر عبر يواخيم فون ريبنتروب، وزير الخارجية الألمانية، رسالة إلى الملك يقترح عليه الهروب إلى قيادة روميل في الصحراء، وسوف تساعده ألمانيا حتى تعيده إلى مصر مجدداً على رأس القوات النازية حال دخولها القاهرة، وهو ما رفضه الملك.

وبدلاً من ذلك، أرسل الملك ضابط طيار وصفِّ ضابط إلى قيادة روميل، ومعهما خطط وخرائط هامة ستعينهم على النصر، وطلب من رجليه أن يطلبا من الألمان أن يذيعا عبر "برلين العربية" سورة الإخلاص عند وصول الطيار، وسورة الفلق عند وصول الصف ضابط.

الحرب على "برلين العربية"

بسبب تأثيرها المتنامي، أعلنت إنجلترا الحرب على "برلين العربية"، يقول خالد الراوي: لمنع تأثير إذاعة برلين في الجماهير العراقية، أمرت القوات البريطانية بمنع الاستماع إلى إذاعة برلين في المناطق التي تسيطر عليها.

وسنة 1941م، أصدر قائد عسكري إنجليزي في العراق بياناً سنة 1941، قال فيه: "يُمنع بهذا، الجمهور من فتح المحطات الألمانية والإيطالية والبغدادية في المحلات العامة والطرقات، ومن يخالف ذلك يعرض نفسه لأشد العقوبات".

وهو ذات ما قامت به الحكومة العراقية التي منعت الاستماع إلى إذاعة برلين عقب فشل حركة 1941م (ثورة الكيلاني)، وهددت من يقوم بذلك بمعاقبته وفق قانون الطوارئ، وهو ما حدث بالفعل، إذ تشير إحدى القضايا إلى أن بعض أفراد الشرطة السرية كانوا يتجولون في كركوك، وإذا بهم يستمعون إلى محطة برلين تنبعث من راديو صاحب أحد المنازل، فألقوا القبض على صاحب الدار، وأحيل لمحكمة الجزاء الكبرى، وتكرر المواقف مع مواطنين عراقيين في عدة محافظات مختلفة.

وعلى الرغم من هذا التأثير المدوّي للإذاعة، فإن قائديها البارزين، أمين الحسيني ورشيد عالي، لم يثقا كثيراً في يونس بحري، فأطاحا به، وعيّنا عبداللطيف الكمالي بدلاً منه، والذي سرعان ما اختلف مع الحسيني فاستقال من منصبه، ومنذ بداية العام 1943م، أديرت الإذاعة بواسطة ذو الكفل عبداللطيف، وهو المنصب الذي استمرّ فيه حتى هزيمة الرايخ الثالث وانتهاء الإذاعة، بحكم الأمر الواقع، في أبريل 1945م.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard