شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"متوافقة مع الشريعة الإسلامية"... تحريف ترجمات عربية لمغازلة المزاج الديني والذوق العام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 9 أبريل 202110:17 م

لا يوجد تعريف مبسط أو متفق عليه للترجمة ولكن هناك اعتراف شبه عام بأنها نشاط يهدف إلى نقل معنى أو معاني خطاب لغوي معين من لغة إلى أخرى بمسؤولية. مع ذلك، يصر بعض المترجمين ودور النشر العربية على تكييف بعض المؤلفات الغربية على المزاج الثقافي أو الديني العربي قبيل تقديمها للقارئ. 

 ظهر هذا الاتجاه منذ بدايات حركة الترجمة، إذ كانت المجتمعات والثقافات أكثر انغلاقاً مقارنةً بعصر الإنترنت والأقمار الصناعية. كان بعض كبار المترجمين يلتمسون الصدق مع القارىء بوضع لافتة: "مترجمة بتصرف" أو "نسخة منقّحة" مثلاً، فيما لم يكترث آخرون لذلك.

في أحدث دليل على هذه الظاهرة المتكررة، اتهم حساب "كتب محرمة"، الذي يتابعه نحو 23 ألف شخص عبر تويتر، في 27 آذار/ مارس المنقضي، "الدار العربية للعلوم ناشرون" (ASP) بـ"التزييف الفاضح" لكتاب "الأختان" للكاتبة النرويجية آسني سييرستاد. 

يروي الكتاب قصة حقيقية لشقيقتين نرويجيتين من أصول صومالية من العلمانية الديمقراطية إلى الانضمام إلى الخطوط الأمامية للحرب في سوريا ضمن صفوف تنظيم داعش، ومحاولات والدهما إعادتهما إلى النرويج. وهو التعاون الثالث بين المؤلفة مع الدار العربية بعد "بائع الكتب في كابول" و"ملاك غروزني".

تحريف واجتزاء

نشر الحساب مجموعة من التغييرات التي وجدها بين النسختين الأصلية، الإنكليزية والمترجمة، لافتاً إلى أن "الاختلال في الترابط بين الفقرات" هو الذي دفعه لمراجعة النص الأصلي.

"كل نقد للإسلام وإله الإسلام" حُذف… دار نشر بارزة متهمة بـ"تحريف" ترجمة كتاب "الأختان" للكاتبة النرويجية آسني سييرستاد. إلى متى التلاعب في النصوص من الثقافات الأخرى بذريعة الدين أو الذوق العام؟

من الأمور التي زعم الحساب، حذف الدار اللبنانية التي تأسست عام 1987، لها "حديث للنبي محمد حول كرامات الشهيد في الجنة وتحول روحه إلى طائر أخضر" في بداية الكتاب، وتصريح أخي الفتاتين بأنه ملحد وبتدخينه الحشيش، وقوله أيضاً إن القرآن يحتوي على الجيد والرديء، والإشارة إلى اغتصاب الأيزيديات والكرديات من قبل عناصر داعش، وخطبة عن "أهوال يوم القيامة".

وادّعى بشكل عام أن كل "نقد للإسلام وإله الإسلام" تم حذفه بما في ذلك أحكام صريحة بالشريعة، منها فرض الجزية على الكفار، ومنح السبايا كحق للمجاهدين المنتصرين.

كما لفت إلى تحريف كامل لبعض الأجزاء، بما في ذلك عنوان فصل (الله ليس عظيماً) إلى (الله أكبر) في النسخة العربية، وحديث الأخ في النص الأصلي عن أن الدين نتاج الثقافة المحلية، وأن الناس يولدون على الدين الصحيح (دين آبائهم) ويتم تلقينهم عدم الاستماع لأقوال الأديان الأخرى. وقد تُرجم إلى "الدين أصيل... الناس يولدون على الفطرة".

ولم يتسن لرصيف22 التحقق بشكل منفصل مما أورده الحساب لكنه أرفق كل ملاحظة منه صوراً من النسختين للمقارنة.

لم يكتف صاحب الحساب بمشاركة متابعيه بل قام بالإشارة إلى دار النشر المعنية والكاتبة النرويجية. جاء رد الدار أولاً بحظره وهو ما أغضب سييرستاد التي وبّخت، عبر حسابها في تويتر، الدار مطالبةً إياها برفع الحظر. ألغت الدار الحظر واكتفت برد مقتضب: "جميع التعديلات الواردة في الكتاب قد تمت الموافقة عليها من قبل الناشر الأصلي والكاتب بما يتلاءم مع ثقافتنا، ولولا ذلك ما كان ليصل للرفوف العربية".

وسخر صاحب "كتب محرمة" من تعليق الدار، مقترحاً عليها "على الأقل ضعوا علامة ‘متوافق مع الشريعة الإسلامية‘ على أغلفة كتبكم لنعرف أنها تم التلاعب بها". 

سعودي مقموع

تواصل رصيف22 مع صاحب حساب "كتب محرمة" الذي فضّل التعريف عنه على أنه "مجرد قارئ يختبئ خلف معرف وهمي" كونه "سعودي الجنسية" ويعيش في "بلد تنعدم فيه الحريات". أوضح أيضاً: "ما أطرحه في الحساب من كتب إلحادية وسياسية ممنوعة في بلدي يشكل خطورة في الكشف عن شخصيتي الحقيقة".

"مهزلة الترجمة الدينية أو الترجمة المحافظة يجب أن تتوقف حالاً. لا يمكن الاستمرار بغش العقل العربي وتزييف ما يقرأه بحجة المحافظة عليه. يجب أن يطرح هذا الموضوع للنقاش بين المترجمين، كفاكم كذب ودجل"

وأشار إلى ملاحظته "تحريف" عدد من الكتب المترجمة بخلاف "الأختان" وأبرزها "جحيم دانتي"، معبراً عن اعتقاده بأن المؤلّفَين المذكورين تتعلق التعديلات بهما فقط بما يمس العقيدة الإسلامية. كما شاركنا تجارب لمتابعيه مع "الترجمات المحرّفة" أو مع تدخل فج من المترجم في النص.

في تغريدة سابقة، تناول مدير حساب "كتب محرمة" ترجمة كتاب المستشرق الهولندي سنوك هورغرونيه حول رحلته إلى مكة من قبل دار نشر "الدارة". لكنه أقر بأن الأمر كان أخف وطأةً إذ نوهت الدار بأن الترجمة "منقّحة".

وعن اكتشافه "التلاعب" في "الأختان"، قال لنا: "في البداية، قرأت النسخة العربية ولاحظت وجود اختلال بين الفقرات وترابط بعضها ببعض، وبعد نهاية الكتاب ذهبت للبحث أكثر عن مصير العائلة الصومالية واستمعت لمحاضرة على يوتيوب للمؤلفة حول الكتاب وإشاراتها لحوار بين الأخ وأخته حول إلحاده في الكتاب".

وأضاف: "دُهشت لذلك، لأن النسخة العربية لم تكن فيها إشارة صريحة بإلحاد الأخ بل مجرد تلميحات إلى أن الأخ لديه شكوك في الدين وطائش فقط. بعدها، أجريت مقارنة سريعة بين النسختين الإنكليزية والعربية ووجدت الفروق التي ذكرتها في التغريدات".

وأوضح لنا أيضاً إصراره على مراسلة المؤلفة عبر الإيميل وعبر تويتر لإطلاعها على الأمر، ظناً منه أنها لم تكن تعلم بالتعديلات، ومعرباً عن شعوره بالحزن وخيبة الأمل عقب إقرارها بالموافقة على بعضها. وختم أنه توقف عند تلك النقطة "لأن الموضوع متفق عليه مسبقاً في ما بينهم والضحية القارىء العربي".

مع توضيح الحساب لعلم الكاتبة المسبق بالتعديلات وترجيحه أن ذلك ربما كان لأغراض تجارية، يبدو أن الكاتبة شعرت بالاستفزاز إذ أبدت بعدها استعداداً للتبرع بقيمة العقد مع الدار العربية لأي منظمة تدعم حرية التعبير في العالم العربي. وطلبت من صاحب "كتب محرمة" تقديم اقتراحات لها حول منظمات مختصة بحرية التعبير في العالم العربي للتبرع بأرباحها من النسخة العربية لها. كما ناشدته التوصية بدار نشر أخرى تقوم بترجمة كتابها كاملاً مرة أخرى، على حد قوله لرصيف22.

رد الكاتبة وموقف الدار

وفيما أقرت الكاتبة بالموافقة على إجراء "بعض التعديلات"، أوضحت أن ذلك كان اعتقاداً منها بأن "نشر 99% من النص (للقارىء العربي) أفضل من لا شيء".

في رسالة عبر البريد الإلكتروني للإجابة عن استفسارات رصيف22، أبلغتنا الكاتبة أنها بصدد التنسيق مع وكيلها لتحديد "الخطوة التالية" بعدما طلبت "مراجعة شاملة لكافة التغييرات" التي أجريت على النص الأصلي في النسخة المترجمة.

وفيما أكدت لنا أن "الأختان" هو الكتاب الثالث الذي تتعاون فيه مع ASP، شددت على أنه في الكتابين السابقين، لم يدُر أي نقاش حول إجراء تعديلات، لافتةً إلى أنها لم تراجع النسخة المترجمة لهما لتتأكد مما إذا كانت الترجمات لم يتم التغيير بها. 

وشرحت: "تُرجمت مؤلفاتي إلى أكثر من 40 لغة، وعادة ما تكون مسألة ثقة بين المؤلف ودور النشر بغية المحافظة على النص الأصلي، إذ إنه ليس شيئاً يتحقق منه الوكيل أو الناشر الأصلي ولا المؤلف عادةً على حد علمي".

تواصل رصيف22 مع الدار العربية أيضاً عبر حسابها في تويتر مرتين لسؤالها إذا كانت التعديلات أُجريت لأهداف تجارية أو لمراعاة الذوق العربي أو الشريعة كما يُثار، وعن سبب عدم التنويه بأن النسخة المترجمة مُنقّحة. لكنها لم ترد.

"كان (التدخل في النصوص) مقبولاً في بدايات حركة الترجمة لكن، الآن، في عالم منفتح تماماً ينبغي أن نتعرف على الآخر كما هو ونطلع على جميع الآراء دون إقصاء. وهذا في جوهره أحد أهداف الترجمة وليس تصدير الآخر وفق أهوائنا"

خيانة أدبية… وجريمة

ولرصيف22، أوضحت إيمان أبو أحمد، مترجمة وصحافية مصرية، أن الترجمة كأي مهنة لها مبادئ واجبة الاحترام. وشرحت: "من أهم مبادئ الترجمة أن المترجم له حق قراءة النص أولاً وله بعدها حق الرفض لأي سبب كان - تعارضه مع دينه أو أيديولوجيته أو ثقافته أو أي شيء آخر. لكن حالما أعطى الموافقة وشرع في العمل، الترجمة، عليه أن ينحي كل هذه الاعتبارات جانباً ويتعامل مع النص الأصلي على أنه أمانة في يديه. فهو بالنهاية فكر كاتب وثقافة مجتمعه لا يصح التلاعب بهما".

واستطردت قائلة: "أعرف أشخاصاً رفضوا ترجمة كتب لأنها مثلاً تتحدث عن شرب الخمر… هي حرية شخصية وأقدر الأمانة في رفض العمل أكثر من قبوله ثم يتجاوز ويتهجم على النص". علماً أنها أصرت: "ينبغي أن يعي المترجم أنه ليس نبياً وليس مسؤولاً عن ‘هداية‘ البشر… هو مجرد ناقل وسيط من ثقافة لأخرى".

ولفتت إلى وجود فرصة للمترجم للتعليق أو التوضيح على النص لكن في "الهوامش" فقط. شارك "كتب محرمة" من قبل حادثة تدخل فيها المترجم بالتعليق داخل النص وليس الهامش. 

وأقر أحمد سمير سعد، مترجم وكاتب مصري، بأن التلاعب في النصوص المترجمة "يحدث بوتيرة متكررة خصوصاً في التعامل مع العناوين لأغراض أحياناً تكون تجارية وليست دينية أو ثقافية"، يعتقد سعد أن حتى التعديل في عنوان المؤلّف الأصلي "غير مستحب" لأن "العنوان يعبر عن الكتاب وتغييره يعد تدليساً".

"في كل الأحوال حذف الجملة لن يلغيها. وهنا ينبغي التأكيد أن المترجم يفترض أن يكون ناقلاً أميناً ولا يفرض رأيه أو توجهه حتى إذا كان المحذوف لن يؤثر على السياق".

كما أبو أحمد، لم يُطلب من سعد من قبل التعديل أو الاجتزاء من النص الأصلي. لكنه روى لنا: "حين ترجمت كتاب ‘مقدمة إلى فلسفة الرياضيات‘ كان هناك جملة أوردها (الفيلسوف الإنكليزي برتراند) راسل وقمت بترجمتها وكنت أعرف أن د. (أحمد فؤاد) الأهواني ترجمه من قبل، وهي ترجمة نادرة تمكنت بصعوبة من الوصول إلى الفصل الذي وردت به هذه الجملة لأجده قد حذفها تماماً".

أوضح سعد أن الجملة المحذوفة كانت "جملة اعتراضية حذفها لم يكن يؤثر في السياق لكنها تعبر عن رأي راسل الديني أو الوجودي أكثر من أي شيء آخر"، مرجحاً أن ذاك كان السبب وراء حذفها.

وعاد ليؤكد: "في كل الأحوال حذف الجملة لن يلغيها. وهنا ينبغي التأكيد أن المترجم يفترض أن يكون ناقلاً أميناً ولا يفرض رأيه أو توجهه حتى إذا كان المحذوف لن يؤثر على السياق".

تعقيباً على التعديلات المشار إليها في "الأختان"، قال سعد: "لفتني أن الأمر لا يتعلق بحذف جملة أو تغيير معنى… ما حدث هو تدخل كامل في النص وكأنهم (في دار النشر) تفاجأوا بالرواية بعدما اشتروا حقوقها".

اتفق سعد مع القول إن عدم التنويه بالتعديلات لا يقل سوءاً عن فعل التلاعب بها في حد ذاته. وأضاف: "من المفروض أننا تجاوزنا هذا الأمر؛ كان مقبولاً حدوث ذلك في بدايات حركة الترجمة لكن، الآن، في عالم منفتح تماماً، ينبغي أن نتعرف على الآخر كما هو ونطلع على كافة الآراء دون إقصاء. وهذا في جوهره أحد أهداف الترجمة وليس تصدير الآخر وفق أهوائنا".

وأيدته أبو أحمد التي وصفت التغييرات في "الأختان" بأنها "جريمة يُحاكم عليها قانوناً" و"خيانة أدبية" و"خداع للقارىء"، مستنكرةً التخلي عن آداب المهنة لأجل "زغزغة عين القارىء وعدم إغضابه".

أما صاحب "كتب محرمة"، فيشدد على أن "مهزلة الترجمة الدينية أو الترجمة المحافظة يجب أن تتوقف حالاً. لا يمكن الاستمرار بغش العقل العربي وتزييف ما يقرأه بحجة المحافظة عليه. يجب أن يطرح هذا الموضوع للنقاش بين المترجمين. كفاكم كذب ودجل".

ويزعم البعض أن دور النشر ليست الحلقة الأقوى في هذه العملية، وإنما القارىء. في إجابة عن سؤال لرصيف22 في هذا الصدد قبل سنوات، قالت رنا حايك، المترجمة والمحررة في دار هاشيت أنطوان اللبنانية الفرنسية، إن دور النشر "لا تمارس ضغطاً بالمعنى الدقيق، إنما هي التي تتعرض للضغوط" للتغيير في النصوص المترجمة، مبرزةً أن هاشيت أنطوان كما هي حال معظم دور النشر "تتحفظ على تلميحات إلى ازدراء الأديان أو جماعات معينة مثلاً (وأمور أخرى) احتراماً للقراء وأحاسيسهم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard