شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"الديانكسيت" يفيض في دمي وبيروت تفيض وجعاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 6 أبريل 202102:01 م

"مئة وخمسون ألفاً مشوا في جنازة معروف سعد"؛ عنوان قد يعني لكثيرين من الناصريين والقوميين وغيرهم. وقد يعني بشكل خاص لأهالي صيدا، كون سعد كان ابن المنطقة قبل أن يكون نائباً عنها. لست من أولئك أو هؤلاء، لكنني بكيت بكيت بحرقة عندما وقعت عيناي على الجملة وسط ازدحام السيارات! ينظر إليّ نضال بعينيه الحزينتين-أجمل عينين- كلما غافلتُه دقائق لأنصرف لنوبات البكاء القاهرة، وأقول له بصوت متقطع: "صعبة الكسرة يا نضال"، يكاد يغمى عليّ.

لقد كان عددنا يقارب المليون، هكذا بثت قنوات الأخبار المحلية والفضائية. مليوناً كنا في هذه البقعة المنفية، مليوناً أضاءت أعيننا في قلب العتمة! مليون نحن الآن، أضحينا مساجين هذا الجسد المتعب وضحايا الأوهام، ضحايا الانتفاضة والحقوق والمطالب المعيشية، ضحايا الأحلام الشعبية، ضحايا أغنية مارسيل خليفة: "ونحن نحب، نحب الحياة، متى استطعنا إليها سبيلا". أسترجع الوجوه في الساحات، الأصوات، لم يعد باستطاعتي تحمل التناقضات. أغمض عيني وأتساءل في كل مرة أرى فيها وجوهاً دون ملامح في أحلامي فاستفيق وجسدي مضجع على الأرض، هل يكون اضطراب ما بعد الصدمة؟

ولكن أية صدمة؟ حلم الثورة المصلوب والمسلوب؟ انفجار بيروت الذي جعلني في كل مرة أسير على الطرقات أتحسس أجزاء جسدي؟ أضع السبابة على الوسطة افركهما ببعضهما البعض، أتاكد أني لا زلت على قيد الحياة.

الابتعاد عن بيروت وعن رائحة الحزن والموت هو الحل. ولكن أين تكمن مدينة أفلاطون الفاضلة؟

وعند أي صوت مفاجئ، تنفجر عيني قبل أية عبوات ناسفة أو مادة نيترات الأمونيوم. لقد باتت لدينا فوبيا مجتمعية منها. وبتّ أدور في حلقة مفرغة حاملة ذاكرة من قش، أمام كل نكسة تتناثر رزمة منها. عندما بدأت بتناول الحبة الزهرية، لم يخبرني أحد أنني سوف أدخل ركوداً طويلاً وأن المشاعر جميعها تصبح سواسية، وأن البكاء لا يلاحظ إلا عند دخوله عرضياً في الفم وأن اللاوعي ينفتح على مصراعيه لينتج أفلاماً مرعبة كل ليلة. ولم يخبروني بأن النوم يصبح زائراً ثقيلاً في النهار وزوجاً متسللاً في الليل لا يعود إلا في ساعات الفجر الأولى لستر خياناته العميقة. لم أعد بحاجة للمسكنات والإبر المخدرة لأعراضي النفس-جسدية. بات الخدر يطال كل مساحة مني أولها افكاري، وآخرها مشاعري المستنزفة.

أجول في شارع "بليس"، أتناول أكبر كوب من المثلجات علّني أسترجع شعوري بلذة طفولية، بعبث يوقظني من خدري؛ طفل يسير بين الأنام له عظمتي دجاجة عوضاً عن يدي طفل تلعبان مع الغيم. وحده من أعاد الي لذة الشعور، لذة سادية بألم ينخر الرأس. من قال إن الحنين حنينٌ للذكريات المريحة فقط؟ فكرت لبرهة بأن الابتعاد عن بيروت وعن رائحة الحزن والموت هو الحل. ولكن أين تكمن مدينة أفلاطون الفاضلة؟ حيث لا بكاء يعلو على صوت الضحك، ولا أعين جائعة تبحث عن أعين أكبر منها لتلتهمها رغيفا رطباً، ولا شفاه ترتجف من البرد، ولا عجوز يمسح جبهته بالأرض لأن ظهره انحنى أكثر مما يجب، ولا مكان لصدمات متتالية تجعل من الكائن البشري صخرة تتجرد من إنسانيتها، تكتفي بالتحديق فقط. ينفجر قلبه.

قرأت ثلاثة مقالات عن ذكرى الثورة السورية، فيلمين وثائقيين ومقابلة تلفزيونية، لم أشعر بالأسى، لم أغطي عيني، كلانا يا سوريا خراب

كيف نعلم ما هو الموت استباقاً؟ أن أصعد إلى الباص وأفقد كل ديناميكية سابقة، أكتفي بالصمت، أرى العجوز تقع أرضاً. لا أستطيع الحراك. أن أخرج يدي من جيبي كان عملاً ثقيلاً. أشيح بنظري، تعبت من الرؤية، من الانتقال إلى الفعل، حتى إذا انزلقت قدمي من على متن الباص الكبير لن أتمسك بالباب، لن أتمسك بالراكب الأمامي، لن أصرخ، لن أقاوم ببساطة. لن أنتحر ولكني لا أمانع الموت. أيكون هذا انتحاراً؟ أم موتا استباقياً؟ أشغل عشرات الأغاني في طريقي إلى الشارع، المكان المفتوح أمامي في زمن الإغلاق والانغلاق. لا اسمع أي كلمة منها، ولا لحنا يخترق جدار الصمت داخلي. بدأت أقرأ أسمائها، هنا مجموعة لشيرين، لم تحرك داخلي الإحساس بحضن الحبيب. وهنا أغنية لبيغ سام، لم أشعر بالأسئلة الملحة أو بالخوف. هنا أغنية للـ"بو" عن ثورة ما، ما هي الثورة؟ انطفاء الأعين وبتر للأطراف والأحلام والآمال. لم أشعر أنني أريد أن "انيج" النخب والخطب، "إسرائيل"، "المعالي" "البيك" و"الاستيذ"، أفقد كل عدائية ممكنة أو غضب عارم. أفقد الرؤية؛ لا أميز الحروف والناس والظروف، ولا أميز الباص من غرفتي. داخل كلاهما أنهمر تشريناً حزيناً دون أن ألحظ. كيف لا وكمية "الديانكسيت" تفيض في دمي. لا أعرف الأسباب ولا النتائج، أعلم أنني أتنفس وأفقد كل رغبة بالرحيل وبالبقاء.

قرأت ثلاثة مقالات عن ذكرى الثورة السورية، فيلمين وثائقيين ومقابلة تلفزيونية، لم أشعر بالأسى، لم أغطي عيني، كلانا يا سوريا خراب. إلا أن واحداً قد سبق الآخر بعشر سنوات ونكس أعلامه استباقاً. وبيروت هنا لا تقصف، لا تهتك، لا تعنف، بيروت ساكنة تعيش على المهدئات، تنطفئ، لا تقاوم، تنتظر غرقها الثامن على نار هادئة دون عجل، كما يشرب درويش قهوته. كل من فيها تاجر فيها، وباتت قضية ممولة وجرحاً دامياً يسقي عطش المتأرجحين على حبال الحياة. وبين كل خطوة موت كثير واحتمالات أكثر.

بيروت ساكنة تعيش على المهدئات، تنطفئ، لا تقاوم، تنتظر غرقها الثامن على نار هادئة دون عجل

أعود إلى صيدا، تراودني في كل مرة جملة لغسان كنفاني يقول فيها "عندما وصلنا صيدا العصر كنا لاجئين". يتحرك شيء دفين داخلي، سنة وأنا أنكر فلسطين، أنكر القضايا وتنكرني هي، أنكر التعب ويتعرف عليّ هنا، أنكر البكاء على الأطلال والبيوت والأطفال، فيشق السيلان طريقه إلى عيني. أزيل عبء الكوفية عن كاهلي، ولكنني كلما وصلت صيدا شعرت بالحنين لأرض البرتقال الحزين. فلسطين تنكرني وأنا أعود إليها طفلاً صغيراً ضاع في حقول المستوطنات وتقاذفته خيبات الأنظمة العربية!

في فيلم "the secret life of bees"، لا أتذكر إلا مشهداً واحداً لشخصية ثانوية، عندما تخطو"May" خطوة نحو البحيرة حاملةً أثقال العالم صرة من حجر، لتضعها على صدرها وتتجه نحو قدرها المحتم، تترك رسالة تقول فيها إنها حملت العالم بداخلها أكثر مما يجب وحان الوقت لأن تستلقي قليلاً. وأنا أريد الاستلقاء ولكن "الديانكسيت" يفيض في دمي كما تفيض بيروت ذاكرة ووجعاً، إلا أني لا رغبة لي بأن أسرق من دودة القز خيطاً لأبني سماء لي.

 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard