شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عودة الابن البار إلى العائلة الضالة

عودة الابن البار إلى العائلة الضالة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 6 أبريل 202105:32 م

"الدور جاي عليكي"، تلقت صديقتي حنان، وهي باحثة في الشؤون الاجتماعية تهديداً من أحد المخبرين بحبسها إذا ما استمرت في رفع منشوراتها المطالبة بالإفراج عن صديقتها الصحفية.

منذ ذلك الوقت، وهي تترقب دخول أحدهم بيتها، في السيدة زينب، وقد راودتها كوابيس تتعلق بشخص ما يدخل غرفتها، ويفتشها، ويكتشف علبة السجائر، أو منشورات سرية، ثم تصحو.

ذكرتني أحلامها بحلم مشابه يتكرر معي هذه الأيام، وهو أنني في "بيت العيلة"، ومعي قطعة حشيش أحاول إخفاءها، وكان معنا عقيد في أمن الدولة، طوال الحلم المتكرر أحاول أن أخفيها، وهو ينظر لي بشك، ولكني لاحظت وأنا أدونها، أن تلك الأحلام المرتبطة بما يحدث هذه الأيام من اعتقال واستباحة المساحات الشخصية خاصة للنشطاء والحقوقيين، قد تعود بداياتها لزمن الطفولة.


المدرسة والقراءة الحرة

في الفصول الدراسية بالسعودية (حيث ولدتُ وتعلمتُ حتى المرحلة الثانوية العامة) اعتاد مدرس اللغة العربية أن يعطيني كتباً تصنف بأنها محرضة على الإلحاد والفسق، معظمها شعر لمحمود درويش ونزار قباني، وكل مدرسة كانت تضم أفراداً نسميهم الـ"مطوعين"، أي متدينين، كانوا يفتشون الحقائب بشكل مفاجئ.

وكذلك كنت، مثل العديدين من أبناء جيلي، نخبئ روايات "ما وراء الطبيعة" و"رجل المستحيل"، في كتب المدرسة، ونحن نتظاهر بالمذاكرة، حتى لا يضبطنا آباؤنا متلبسين بالقراءة الحرة.

عندما تركت بيت العائلة، وتشاجرت مع والدتها، سعياً وراء حلم الاستقلال، تمشت في الشوارع، شعرت بالجوع والبرد، وتحول جسدها الأنثوي الشاب، إلى رجل عجوز، تتسول على قارعة الطريق، في انتظار من ينتشلها ويعيلها

أخبرتني صديقتي أيضاً أن والدتها اعتادت، وهي صغيرة، أن تقتحم غرفتها، وتفتش شنطتها، فيما هي كانت تتفنن في تخبئة سجائرها، وتعيش الرعب بشكل يومي إذ تخشى أن تلاحظ والدتها ذلك.

بعد أن تناقشنا، بدا لها محيراً هذا الربط بين والدتها والشرطة، اقتحام أمها غرفتها، والتفتيش في شنطتها ودولابها بحثاً عن السجائر أو أي ممنوعات أخرى، واقتحام أمن الدولة لبيتها، وبعثرة أثاثه، واعتقالها، لتلتحق بصديقتها.

العائلة والنظام العاطفي

إحساسك ليس مجرد إحساس في الهواء، الواقع ليس فراغاً، ومشاعرك ليست طاقات محايدة، يعتبر مدير الصحة السلوكية الأمريكي بليك جريفين إدواردز أن كل ما نشعر به يوجد دائماً في "مجالات عاطفية"، تشكلت إلى أن تموت تقريباً في تلك الوحدة الاجتماعية الصغيرة التي ازدهرت مع ازدهار الدولة والحضارات المركزية، وانبثقت في بداياتها البكر حول الأنهار، وتوهجت على ضفاف نهر النيل منذ ثلاثة آلاف عام، ويسميها العرب الأهل، والبيت، والأسرة، ويفضل المصريون تسميتها العائلة (وهي مفردة لها معنى آخر عند العرب قديماً وهي المرأة المعوزة الفقيرة).

المجال العاطفي الأسري مثل مجالات الجاذبية للكواكب الدوارة حول النظام الشمسي، كل عضو في الأسرة يعمل مع الآخر، بوعي وغير وعي، للحفاظ على التوازن العاطفي، وخلق ما يشبه النظام العاطفي.

ويشير إدواردز إلى أن النظام العاطفي في الأسر هو قوة لا واعية بدرجة كبيرة، الأسرة مثل النظام الطبيعي، الأكسجين والتنفس، العائلات هي "وحدات عاطفية، ومنظَّمة عاطفية أساسية، ضمن المجتمع الأكبر".

توجد العمليات العاطفية داخل العائلات في كل بُعد، وفي كل طبقة اجتماعية بطريقة معقدة ومتزايدة.

كتب طبيب نفسي آخر، وهو هاري أبونت عام 1976: "أعضاء الأسرة يجب أن يمتلكوا سلطة كافية ليكونوا قادرين على حماية مصالحهم في الأسرة طوال الوقت، بينما يستمرون في الحفاظ على رفاهية الآخرين، والأسرة كلها".

وتتدفق القواعد داخل هيكل السلطة، وتتشكل استجابة لمتطلبات الشخصية أو التقاليد أو الاضطهاد المتدفق عبر الأجيال.

والنمط الشائع في طريقة التربية في الأسر المصرية، بحسب مراقبين، هو الاستبداد والحماية المفرطة، ومن ثم "اعتاد الأطفال في مصر قمع ميولهم الفضولية والاستكشافية".

"رفقاء الديكتاتور في السلاح"

يحاول الطبيب إريك مايزيل في مقال له استكشاف العلاقة بين الأب (أو الأم) المستبد والديكتاتور، ولاحظ أنه في أدبيات الشخصيات الاستبدادية، التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في سياق محاولة فهمه لهتلر وأتباعه، تم التمييز بين القادة الاستبداديين والأتباع الاستبداديين.

كان شائعاً بين علماء النفس آنذاك أنهم (الأتباع) عدوانيون مثل زعمائهم، ولكنهم أكثر خضوعاً، ومحافظة، وتديناً من قادتهم، ولا يشعرون بالحاجة كثيراً إلى السيطرة وممارسة السلطة على الآخرين.

ولكن مايزيل يختلف مع وجهة النظر تلك، يقول إن الآباء الديكتاتوريين قد يكونون في الساحة السياسية أتباعاً للاستبداديين، ولكنهم قادة سلطويون في بيوتهم.

ويضيف: "هما نفس النوع من الأشخاص، الفرق بينهما هو مجال استبدادهما".

إذا نظرت لامرأة معتدلة تدعم بقوة زعيماً سلطوياً، فقد ترى أنها تابعة بشكل جوهري للمستبد، وتم التلاعب بها، واستغلالها، ولكن قد تكون أنت المتلاعب بك، فتحت السطح تمتلك القبضة الحديدية التي للديكتاتور.

ويشير مايزيل إلى أنه في الكثير من الطبقات الاجتماعية، والدول، والثقافات المختلفة، سمع كثيراً عن أشخاص يصفون آباءهم وأمهاتهم بأنهم ودعاء وذوو أخلاق حسنة بين زملائهم وأصدقائهم وفي وظائفهم، أو "أن والدهم أكثر المخلوقات سحراً بين أصدقائهم"، ولكن هو الوالد ذاته، الطاغية الشرير في المنزل.

هؤلاء يسيرون جنباً إلى جنب مع جيش من المتنمرين المتشابهين في التفكير، مما يسهل علينا رؤية أتباع المستبدين ليس باعتبارهم ضحايا، علينا تعليمهم، وإيقاظ وعيهم، ولكن يجعلنا نوجه طاقتنا لهزيمة جيش حقيقي من الآباء المستبدين.

يكتب مايزيل: "اهتمامي بشكل خاص موجه لهؤلاء، ديكتاتوريي الأسر، والضرر الذي يلحقونه بأطفالهم، إنهم يعرضون كل ملامح الشخصية السلطوية، بما فيها الحاجة الملحة للعقاب، العار، السخرية، البلطجة، والتطفل، إنهم يرهبون أطفالهم".


هؤلاء الأطفال لا يملكون أي دفاعات ضد الآباء المتنمرين، إنهم مجبرون على العيش معهم. أن تعيش مع آباء مستبدين هي تجربة طفولة يمكن أن تسبب صعوبات لك مدى الحياة

وما الحل؟ لا يمكن للطغاة أن يستسلموا من تلقاء أنفسهم، ولن يغيروا أساليبهم، والحل كما يقترحه الطبيب مايزيل هو الهروب.

يكتب: "لا يمكنك أن تغير الديكتاتور، لا الشخص الذي يشغل منصب الرئاسة، ولا الذي يدير بفساد وتدمير العائلة".

 "أتباع الديكتاتور ليسوا ضحايا، علينا تعليمهم، وإيقاظ وعيهم، ولكن علينا توجيه طاقتنا لهزيمة جيش حقيقي من الآباء، هم رفقاء المستبد في السلاح، يمارسون أمراضهم على أبنائهم"

بحثت عن قصص وأفلام تعبر عن هذه "التيمة"، الابن المختلف الذي يريد الفرار من أهله المستبدين، وأبرز عملين جسدا فنياً تلك الحالة، ولها التأثير الأكبر على مخيلة أبناء جيلي، فيلم "عودة الابن الضال" للمخرج يوسف شاهين، ورواية "قلب الليل" لنجيب محفوظ، التي تحولت لعمل سينمائي أخرجه عاطف الطيب.

باختصار، البطلان علي وجعفر الراوي تمردا وفشلا، الأول عاد للعائلة مستسلماً مجسداً الكلمة ذات النكهة التوراتية "عودة الابن الضال"، والآخر كان مصيره السجن والضياع.

"العائلة جعلتنا نرجسيين"

ومن مصر حيث يقمع الأطفال ميولهم الاستكشافية بفعل الأسرة، إلى الولايات المتحدة، حيث موظفو "غوغل" المتحكمون بنسبة كبيرة بطريقة تعاطينا المعرفية مع الشبكة العنكبوتية، يحاضر فيهم الباحث النفسي الشهير روبرت غرين.

يذكرنا الباحث أن لأسلافنا، في عصور ما قبل تشكيل الأسر، تواصلاً تخاطرياً محملاً بمشاعر إيجابية حيال الآخر ومعاناته، كانت منطقة في جبهة المخ نشطة للغاية، هي المنطقة ذاتها التي وقعت فيها الانتكاسة.

بعد اعتماد الأسرة وحدة اجتماعية أساسية في تنشئة الأفراد، تحولت مشاعر الإنسان إلى نفسه بدلاً من الآخرين، النرجسية المفرطة بدلاً من التعاطف مع الآخر، يقول غرين: "إن لم نحصل "ونحن صغار" على الانتباه اللازم من الآباء والأمهات، نحاول طيلة حياتنا خلق صورة مقبولة ومحترمة لأنفسنا".

وبعد مرور العمل، نتحول إلى أشخاص يهمنا صورتنا، وقبولنا اجتماعياً، ونكاد لا نشعر بوجود الآخرين.


ذكرتني كلماته بقصة قرأتها صغيراً لهانس أندرسون، عن فرخ البط القبيح الذي ولد خطأ بين البط، وهو من نوع آخر، احتقره أقرانه، وضغطوا على أمه أن تتركه، فأمرته بالسفر بعيداً، لأنه يجلب لها المشاكل، ثم وقع الفرخ في مشاكل ونبذ اجتماعي لا حصر له، وفي النهاية، حالما رأى طيور النورس، أحبها، لم يكن يصدق أن جناحيه تقويان على الطيران مثلها، وأن ألوانها رائعة، ومختلفة.

أحلم كثيراً بالطيران فوق المدينة، وبأشخاص يطاردوني ولكنهم يعجزون عن الإمساك بي لأني أطير، وفي مرة طرت فوق السحب، من مستوى إلى مستوى آخر، أقابل بشراً وكائنات خرافية، تحولت السحب لمنطقة صحراوية، وأشخاص بدوا لي أنهم يمثلون الرسول وأصحابه، وشاب أسمر يؤذن فيهم، كنت خائفاً من الطيران، أشعر وكأني سأحرق في نار جهنم لو طرت.

ولكني طرت، تحديت خوفي وطرت، المرة الوحيدة التي لم أستطيع فيها الطيران، عندما كنت على سطح بيتنا القديم، كان أبي يجلس على كرسي، ويقول لي إن الناس تخبره بأني أعرف الطيران، فقال لي: أرني إذاً. حاولت أن أطير أمامه فلم أستطع.

ضحكت صديقتي عندما حكيت لها هذا الحلم الأخير، وأخبرتني بحلمها، الذي هو أكثر مأسوية من العجز عن الطيران.

بعد وفاة والدها، وسفر أختها، لم يتبق من عائلتها سوى والدتها، التي توبخها كثيراً لأنها تسكن وحدها في القاهرة، ولم تتزوج، وتسافر إلى دولة أخرى، وبعد لقاء مع والدتها رأت في حلمها نفسها، مع والدتها تتشاجر، في "بيت العيلة"، وتركتها، ولكنها عندما تمشت في الشوارع، شعرت بالجوع والبرد، وتحول جسدها الأنثوي الشاب، إلى جسد رجل عجوز، وهي مادة يدها على قارعة الطريق، في انتظار من يحن عليها، أو ينتشلها ويعيلها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard