شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أمبراطورية اقتصاد الجنرالات في السودان... من الهيمنة إلى التفكيك

أمبراطورية اقتصاد الجنرالات في السودان... من الهيمنة إلى التفكيك

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 22 مارس 202105:06 م

في 18 آذار/ مارس 2021 صدرت الصحف حاملة خبر "الجيش السوداني يتخلى عن شركاته ومصانعه للمدنيين".

الخبر بدا مفرحاً لكثير من السودانيين، فها هي المؤسسة العسكرية تأخذ طواعية خطوة للخلف متخلية عما يمكن وصفه بالمكتسبات الاقتصادية للمدنين، وهو ما اعتبره البعض قفزة صوب دولة مدنية حقيقية.

إمبراطورية ضخمة وعُمر قصير

ظهرت منظومة "الصناعات الدفاعية"، للوجود في نيسان/ إبريل 2017، حين أقر البرلمان السوداني، المهيمن عليه في ذاك الوقت، حزب المؤتمر الوطني، مرسوماً قضى بتغيير مسمى "هيئة التصنيع الحربي" إلى هذا المسمى الجديد مع إجراء عدد من التعديلات القانونية تمكّن المؤسسة من التوسع في النشاطات الاقتصادية المدنية، والأهم أن تكون فوق القانون "بشكل مقنن" على أن تتبع مباشرةً رئيس الجمهورية. وبذلك أصبح للمؤسسة الحق في استثمار أموالها دون مراجعة من أي جهة، بما فيها المراجع العام، على أن يُعيّن رئيس الجمهورية مراجعاً خاصاً لها ويكون هو فقط من يحق له إنهاء خدمته. 

طعن الكثيرون في ذلك المرسوم وما شاب عملية تمريره من خلل إجرائي، إذ لم يكتمل النصاب القانوني لحضور النواب (ثُلثَي الأعضاء) وقت التصويت عليه، الأمر الذي تغاضى عنه رئيس البرلمان والقيادي الإخواني د. إبراهيم أحمد عمر.

توسعت المؤسسة العسكرية في أنشطتها وزاد حجمها، فشملت شركات عدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: زادنا للاستثمار الزراعي، شيكان للتأمين، الخرطوم للتجارة والملاحة، بنك أمدرمان الوطني، مجموعة جِياد الصناعيّة "تعمل في صناعة السيارات والشاحنات والدراجات النارية"، توباز لصناعات المعدنية، كما تمتلك المنظومة شركات كبرى وصغرى تنشط في مجالات شتى كتجارة اللحوم وتربية الدواجن.

باختصار سيطرة شبه كاملة على السوق من تجارة دقيق الخبز حتى الصناعات الثقيلة.

الحرية ونضال الغرف المغلقة

وبعد الثورة السودانية والإطاحة بحكم البشير، تغيرت المعادلة وخرج الحديث عن أمبراطورية الجنرالات المالية إلى الملأ، ولأول مرة يخرج قيادي عسكري كالفريق أول ياسر العطا، عضو المجلس السيادي، في مؤتمر صحافي متحدثاً عن شركات الجيش ليقول: "إذا كان هنالك مواطنون لديهم شركة وتم تسجيلها بصورة صحيحة وكل التزاماتهم يتم دفعها هل يحق للدولة أخذها منهم؟"، في إشارة إلى أن الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية هي ملكية خاصة بها وتدفع ضرائبها.

المدهش أن رغم المكاسب المهولة التي حققتها مشاريع الجيش، وفّرت وزارة المالية وفرت حجماً كبيراً من الإعفاءات الضريبية والجمركية.

صراع حول تركة الجيش

ظهر الصراع القوي والشديد الحساسية حول تركة منظومة الصناعات الدفاعية إلى العلن مع بداية عام 2020، عندما صرح المتحدث باسم الجيش السوداني، العميد ركن عامر محمد الحسن، عما أسماه إعادة هيكلة المؤسسة، في إشارة لإنهاء خدمة 25 قائداً يدينون بالولاء للرئيس المخلوع بالإضافة إلى تسريح مئات العاملين المحسوبين على تنظيم الإخوان المسلمين. لكن هذا لم يعدُ أكثر من تغيير وجوه وولاءات مع الإبقاء على الوضع غير الطبيعي للمؤسسة والحفاظ على الهيمنة العسكرية عليها.

"هناك أسباب محلية وإقليمية وأخرى دولية دعت لتراجع الجيش، فمحلياً تتزايد الضغوط لإنهاء عملية تشكيل الحكومة الائتلافية الثانية والمكونة من المكون العسكري والمكون المدني وحركات الكفاح المسلحة، والأمر المرتبط كذلك إقليميًا بتنفيذ السلام"

تزامن ذلك مع بدء المكون المدني بمجلس السيادة السعي لانتزاع الشق المدني من تلك الأمبراطورية الاقتصادية بكل السبل القانونية والسياسية، حتى يعود لمكانه الطبيعي تحت سلطة الوزارات المختصة، مثل المالية والتجارة والزراعة إلخ. 

التحرك الذي أعطى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إشارة البدء فيه يوم 22 أب/أغسطس الماضي خلال كلمته بمناسبة مرور عام على توليه منصبه قائلاً: "قضية استعادة الشركات الاقتصادية التابعة للقطاعين الأمني والعسكري، هي محط اهتمام الحكومة وقد بدأت فيها خطوات عملية لمعالجتها". ورد عليه الفريق أول عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة ورئيس المجلس السيادي، بعد يومين خلال كلمته بمناسبة الاحتفال بالعيد 66 للقوات المسلحة السودانية: "شركات القوات المسلحة لم تحتكر تصدير المواشي أو الذهب، ولم تحجر على أحد للاستفادة من موارد البلاد. الفاشلون هم من يريدون أن يجدوا شماعة ليعلقوا عليها الفشل ولا أحد يمكنه تعليق فشله على القوات المسلحة".

الاشتباك بين الرجلين استدعى دخول تجمع المهنيين على الخط عبر بيان في اليوم التالي لخطاب البرهان، أعلنوا فيه أن لا خيار سوى تعزيز الانتقال المدني الديمقراطي مهما كانت التحديات، ولا سبيل لإكمال هذا الطريق في ظل استئثار قيادات القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى باقتصاد الدولة.

من جانبها شكلت د. هبة محمد علي، وزيرة المالية السابقة، لجنة خاصة لدراسة وضع المؤسسة الكبرى، وأوصت اللجنة بضرورة تسريع إعادة هيكلة منظومة الصناعات الدفاعية، فيما يتعلق بعملها التجاري المدني. 

لماذا الآن؟

الباحث مصطفى دردق يجيب على ذلك السؤال لرصيف22: "هناك أسباب محلية وإقليمية وأخرى دولية دعت لتراجع الجيش، فمحلياً تتزايد الضغوط لإنهاء عملية تشكيل الحكومة الائتلافية الثانية والمكونة من المكون العسكري والمكون المدني وحركات الكفاح المسلحة، والأمر المرتبط كذلك إقليميًا بتنفيذ السلام (المرحلة الأولى) طبقًا لاتفاق جوبا للسلام.

ومن غير الخفي وجود تقارب في وجهات النظر بين المكون المدني وحركات المقاومة المسلحة حول العديد من الملفات، أهمها ملف إحلال السلام الداخلي وإنهاء حالة الاقتتال، التي اندلعت في الأساس لغياب العدالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ليصبح بذلك الفريقان متفقين على شعارين من شعارات الثورة وهما (السلام والعدالة).

ويضيف الباحث السوداني: "أما على الصعيد الدولي فتحركات "المكون المدني" على المستويين الإقليمي والدولي أتت بالكثير من الثمار، مثل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والحصول على العديد من الامتيازات والمنحة المادية، بجانب توقيع اتفاقية السلام سالفة الذكر".

"ما حدث يزيد من فرصة حدوث تحول ديمقراطي آمن وسلس. نتحدث عن خطوة كبيرة داعمة للحكومة الانتقالية في مواجهة التحديات الاقتصادية الضخمة وهي أيضًا تشير لتقارب مرحلي بين المكونين المدني والعسكري"

بالإضافة لنجاح الفريق المدني في التقارب مع الإدارة الأمريكية بشكل جيد في ضوء الإهتمامات المشتركة، أعلنت الإدارة الأمريكية عن دعمها إعادة إشراك السودان في المجتمع الدولي، وحرصها في الوقت نفسه أن يتم ذلك عبر التعامل المباشر مع الحكومة المدنية.

وترجمت هذا عبر إقرار الكونغرس الأمريكي مشروع قانون باسم: "قانون الانتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية للعام 2020"، الذي تضمن نصه توصيات للرئيس الأمريكي بدعم جهود وقيم حقوق الإنسان بالسودان، ومساءلة أجهزة الأمن السودانية عما أرتكبته من انتهاكات جسيمة. كما تحدث القانون عن مراقبة أموال الجيش وأجهزة الأمن المختلفة، والكشف عن أسهمها في جميع الشركات العامة والخاصة.

وهذه النقطة تحديدًا أكد عليها مصدر مقرب من المكون المدني تحفظ على ذكر اسمه.

تسارع التحركات

في ضوء الخطوات الدولية والإقليمية التي أشار إليها دردق، نجد أن توقيع اتفاقية جوبا جاء بداية تشرين الأول/أكتوبر 2020، وفي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر قرر مجلس الوزراء السوداني وبناء عن تقرير لجنة وزارة المالية السالف الذكر فرض ولاية وزارة المالية على الشركات التابعة لكافة الأجهزة الأمنية، الأمر الذي صرح به وزير شؤون مجلس الوزراء، السفير عمر بشير مانيس قائلًا: "هناك أهمية قصوى لتأكيد ولاية وزارة المالية على المال العام وإشرافها على جميع الشركات الحكومية والمملوكة للقوات النظامية المختلفة".

ثم بعد يومين أعلن وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأكد في بيانه التاريخي على دور الجانب المدني من السلطة السودانية في إتمام الأمر. قال: "أمكن تحقيق هذا الإنجاز بفضل الجهود التي بذلتها الحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيون في السودان لرسم مسار جديد جريء بعيدًا عن إرث نظام البشير".

وخرج بعدها حمدوك، في 14 كانون الأول/ديسمبر، مكللًا بالنصر الدبلوماسي الكبير ليعلن صراحة عبر حسابه على موقع تويتر وتحت وسم عهد_جديد: في عالم اليوم لا يوجد مكان للاختباء، وكوننا نطالب بالشفافية المالية والمحاسبة في الشركات الموجودة عند الحكومة ولا المكون العسكري، ده مطلب اساسي ولازم يحصل، فما ممكن تدير موارد خاصة بالشعب السوداني من غير شفافية ومساءلة، فده أمر ما فيه تنازل.

وهو ما تلقفته المواقع الإخبارية ونشرت على لسان رئيس الوزراء في اليوم التالي: "إن مشاركة الجيش السوداني في شركات القطاع الخاص أمر "غير مقبول"، وإن مثل هذه الشركات يجب أن تتحول إلى شركات "مساهمة عامة"".

وقبل انقضاء الأسبوع الأول من العام الجديد كان العالم يشهد توقيع وزارة المالية السودانية والخزانة الأمريكية مذكرة تفاهم لتصفية متأخرات السودان للبنك الدولي وتمكينه من الحصول على ما يناهز المليار دولار سنويًا.

هذه الخطوات وغيرها على المستويين الإقليمي والدولي زادت من الوزن السياسي للمكون المدني داخل المجلس السيادي. بالمقابل أرخت من قبضة المكون العسكري، ما مهد للخطوة الأقوى في لعبة مصارعة الديناصورات، أي الإعلان عن انتقال ملكية الشركات والمصانع المدنية التابعة للمؤسسة العسكرية لتصبح تابعة للمدنيين.

ما أفق هذا التحرك؟ وماذا بعد؟

مصدر مقرب من المكون المدني (رفض ذكر اسمه) يقول لرصيف22: "ما حدث يزيد من فرصة حدوث تحول ديمقراطي آمن وسلس. نتحدث عن خطوة كبيرة داعمة للحكومة الانتقالية في مواجهة التحديات الاقتصادية الضخمة وهي أيضًا تشير لتقارب مرحلي بين المكونين المدني والعسكري".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard