شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لستَ أليساندرو موتي! احمل حلمك الأوروبي وعد من حيث أتيت

لستَ أليساندرو موتي! احمل حلمك الأوروبي وعد من حيث أتيت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 15 مارس 202109:22 ص

"لقد وصلتم إلى أثينا. هذه هي المحطة الأخيرة. أهلاً بكم"، كلمات تسمعها في القطار الآتي من مدينة سالونيك القريبة من الحدود التركية-اليونانية إلى العاصمة اليونانية أثينا.

توقف القطار في محطة "لاريسا". مددت بنظري نحو نافذته لأرى أثينا الجميلة التي سمعنا عنها، وإذ بي لا أرى سوى أبنية متهالكة ذات سقوف قديمة وأرصفة شوارع مليئة بالحفر.

أنظر إلى ساعتي لأرى الوقت، فإذا به نفس توقيت الوصول المكتوب على بطاقة القطار. لا أصدّق أن هذا المكان هو أثينا. أفتح خارطة على هاتفي الجوال لأرى أين أنا، والتأكد. نعم هذه هي أثينا التي أنجبت أفلاطون وأرسطو.

كثيرون يعتبرون هذه المدينة مهد الحضارة الغربية، ولكن بالنسبة لي ولغيري من اللاجئين، هي المحطة التي تفصلنا عن حلم الوصول إلى أوروبا، والتي لا تصل يد فرونتيكس (الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل) والكوماندوز اليوناني إليها لتعيدك إلى تركيا قسراً وقهراً، بعد رحلة عبور شاقة ومريرة نحو أوروبا.

نعم. إنها أثينا. وصلتها في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020 بعد أن أُغلقت كل الأبواب في وجهي وضاقت بي كل السبل. للوهلة الأولى، لم تسعفني قدماي على التحرك والخروج من القطار من أثر الصدمة، ولكن من أجل حلم العبور إلى أوروبا المنشود، قررت إكمال الطريق والخروج لمواجهة القادم المجهول.

الضاحية 13... منطقة آخرنون

عند متابعة فيلم "الضاحية 13" الفرنسي (2004) والذي تدور أحداثه في حي فرنسي في ضواحي باريس تنتشر فيه الجريمة المنظمة والقتل وتجارة المخدرات، لم أكن أتصوّر أو أصدّق أن هنالك مثل هذه الأحياء في الواقع، وكنت أفكر أن هذا ضرباً من ضروب الخيال.

ولكن بعد نزولي من القطار في أثينا، وعلى بعد خطوات قليلة من محطة "لاريسا"، وصلت إلى منطقة آخرنون، في القسم الشمالي الشرقي من المدينة، وهي تشبه إلى حد كبير المنطقة التي رأيتها في الفيلم، وتغصّ باللاجئين من شتى أصقاع الأرض. وكأنها أرض الميعاد.

تضم المنطقة لاجئين من عشرات الجنسيات، أغلبهم بدون أوراق ثبوتية. في شارعها الرئيسي، وأثناء ذهابي إلى منزل أخذني إليه شاب من حلب التقيت به صدفةً في محطة القطار، رأيت حولي محلات تجارية لعرب وأفغان وباكستانيين وبنغلادشيين وآخرين من دول آسيوية وإفريقية عدة. وخلال سيري نحو السكن، شرح لي الشاب عن حارات المنطقة المقسّمة بحسب جنسيات المهاجرين.

وأسهب الشاب في الشرح كيف أن آخرنون تضمّ مافيات للإتجار بالمخدرات والحشيش وعصابات سرقة وعصابات تهريب منظّم من اليونان إلى أوروبا عن طريق البر والبحر والجو.

التهريب إلى أوروبا هو ما جئت من أجله، وهو ما ذقت بسببه مرارة البعد عن عائلتي. وصلت الليل بالنهار مشياً قاطعاً أنهاراً وجبالاً وغابات بين منطقة أدرنة في تركيا وبين منطقة ألكسندر بولي في اليونان، حتى أنهكت قواي.

سأنسى كل هذه المشقة عند وصولي إلى هولندا، أقول لنفسي. نعم، هولندا التي اخترتها بالذات لأنها تسمح بلمّ الشمل بعد مدة ستّة أشهر فقط. سأستقبل زوجتي وأطفالي في المطار كما فعل صديقي حسام الذي سبقني إليها العام الفائت.

"أغرب المساكن"

السكن الذي وصلت إليه في منطقة آخرنون كان من أغرب المساكن في العالم. فيه ممثلون عن جميع المتحاربين في الساحة السورية. غرفتان صغيرتان وصالة يقطنها 12 لاجئاً، أحدهم من حلب وهو مَن استأجر المنزل ومن أشد مؤيّدي النظام الحاكم في سوريا. لم أكد أصل وأجلس في الصالة حتى التقف من يدي 100 يورو، كبدل سكن عن شهر، دون سؤالي إذا ما أعجبني المكان أم لا.

دخلت في عراك داخلي بين الواقع المرير من جهة والقيم والمبادئ من جهة أخرى. لم أكن أتخيّل يوماً منذ اندلاع الثورة السورية في 15 آذار/ مارس 2011 أن أعطي 100 يورو لشخص من مؤيدي النظام الذي تسبب بتشريدي وهروبي من سوريا مع عائلتي، وتشريد الملايين، وتدمير بلادنا. حتى ونحن في طريق أحلامنا وخلاصنا إلى أوروبا، لم نسلم من أحدهم ليستغلّ أوضاعنا، ولكن ما باليد حيلة، فأنا وصلت حديثاً ولا أعرف أحداً.

من بين القاطنين في السكن شاب ملتحٍ اسمه راضي من الحسكة، داعشي، وآزاد، كردي من القامشلي كان يقاتل سابقاً في صفوف قوات سوريا الديمقراطية (قسد). كانا على جبهتين متقابلتين على الجغرافيا السورية إذ دارت بين داعش وقسد معارك عدة في كوباني والرقة وآخرها في الباغوز. ولكن هنا، في آخرنون، يجلسان ويحتسيان القهوة معاً.

وفي السكن أيضاً محمد، من غوطة دمشق وكان يقاتل في صفوف جيش الإسلام، وأحمد وخالد، أخوان من القامشلي كانا يقاتلان في صفوف قوات الصناديد في ريف الحسكة، وهي من المكوّنات العربية التي تقاتل تحت جناح قسد، وأحمد ومحمد وأبو أيمن من إدلب، وحسين من حلب.

لم تمرّ إلا بضعة ساعات على جلوسنا في صالة السكن حتى عاد كل شخص إلى غرفته. في إحدى الغرف رأيت ثلاثة منهم يتناولون حبوباً مخدّرة، ويلفّون سجائر الحشيش، وفي الغرفة الأخرى اثنان يشربان الويسكي على أنغام أم كلثوم، وفي الصالة واحد يصلّي العشاء.

"من بين القاطنين في السكن شاب ملتحٍ اسمه راضي من الحسكة، داعشي، وآزاد، كردي من القامشلي كان يقاتل سابقاً في صفوف قوات سوريا الديمقراطية. كانا على جبهتين متقابلتين، ولكن هنا، في آخرنون، يجلسان ويحتسيان القهوة معاً"

الغريب في الأمر أن السكن كان هادئاً، على الرغم من جميع الاختلافات المذهبية والطائفية والسياسية بيننا، وكانت تسود بين قاطنيه علاقات ودية. متعايشون مع بعضنا البعض. أسباب هذا التعايش غالباً عدم رغبة الجميع في افتعال مشاكل أو جدالات عقيمة في هذه المرحلة من عدم الاستقرار، والتركيز على استكمال الطريق إلى أوروبا، وهو الأهم وحلم الجميع.

كنت أنا الجامعي الوحيد بينهم. ولكن، وعلى رغم الاختلافات الكثيرة بيننا، تمكنت من التأقلم واستطعت أخذ كثير من المعلومات عن الوضع في منطقة آخرنون.

كان الجميع ينادونني "أبا محمود"، فابني الكبير اسمه محمود وتركته هو وابنتي فلك ووزوجتي مريم في مدينة أنطاكيا في تركيا، في عهدة أخي، الطبيب الذي كان سنداً لي في كل الفترة الماضية، ويسكن مع عائلته في نفس المبنى حيث أسرتي الصغيرة. هذا ما كان يطمئنني وشجعني على السير في هذا الطريق الشاق والمتعب إلى هولندا، رغم الألم الذي يعتصر قلبي على فراقهم. ولكن وضعي في تركيا لا يسمح لي بتقديم حياة كريمة لهم، ولذلك آثرت طريق المخاطرة واللجوء للوصول إلى هولندا.

"حسن العراقي"

حسن العراقي هو أيضاً من القاطنين في السكن، وأوّل شيعي ألتقي به في حياتي. كنت أشعر بغضب من وجوده معنا، مترافقاً مع خوف وحذر منه، وكنت أتجنّب الكلام معه في جلساتنا أو حواراتنا والنوم معه في غرفة واحدة أو الخروج بصحبته إلى الشارع.

كنت كلما ظهر أمامي، أشعر بأنني أنظر إلى حزب الله اللبناني الذي دمر القصير وشرّد أهلها، والحشد الشعبي وحزب الله العراقي ولواء أبي الفضل العباس وألوية زينبيون وفاطميون وغيرهم ممّن أمعنوا قتلاً وتشريداً واحتلالاً في بلدي سوريا. صورة الشيعة التي رُسمت في ذاكرتنا خلال الثورة بطائفيتها ومجازرها لم تشفع لها بضع ساعات من التعرّف على حسن.

بعد عدة أيام ونحن جالسين في الصالة نشرب الشاي وبيننا حسن العراقي، ناداني أبو أيمن وكانت بلدته قريبة من بلدتي في ريف إدلب وقال: "يا عمر هل اتصلت برشيد الصومالي؟ يقولون إنه من المهرّبين الأقوياء في أثينا". كان حسن يرتشف كوب شاي. أنزله من يده على عجلة ونظر إليّ نظرة وكأنّ شيئاً قرصه وقال: "لكان اسمك عمر؟!".

ارتعدت فرائضي من نظرته، وبالكاد استطعت بلع ريقي، وكأنّ شيئاً وقف في بلعومي، ثم بكلمات متهادية خرجَت من فمي قلت له: "أي نعم اسمي عمر".

خيّم صمت رهيب على المكان لم يقطعه إلا رنين جوالي باتصال من مهرّب من أجل تنسيق لقاء بيننا. خرجتُ مهرولاً إلى غرفة أخرى لأتكلم مع المهرّب الذي كان اتصاله طوق نجاة بالنسبة إليّ من هذا المأزق.

خلال دقائق الاتصال المعدودة، كان تفكيري كله متوقفاً عند حسن. كيف ستكون ردة فعله؟ وهل سأصبح ضمن دائرة أهدافه؟ كيف سأتصدى له إذا قرر مهاجمتي؟ انتهى الاتصال، ورويداً رويداً اقتربت من الباب المطل على الصالة أنظر إلى حسن ماذا يفعل.

"كثيرون يعتبرون أثينا مهد الحضارة الغربية، ولكن بالنسبة لي ولغيري من اللاجئين، هي المحطة التي تفصلنا عن حلم الوصول إلى أوروبا"

أخيراً، قررت مواجهة قدري والعودة إلى الصالة، فمهما حدث لن ينال حسن أو غيره من عزيمتي وإصراري، ولن يوقفوا مسيرتي نحو بلد الأحلام، هولندا.

بهدوء، جلست بجانب أبي أيمن، الكبير في السن، وأكملت كوب الشاي ناظراً بطرف عيني إلى حسن. لم تمرّ إلا ثوانيَ حتى وجّه حسن الكلام إليّ قائلاً: "أبا محمود، لا فرق عندي إذا كان اسمك عمر أو أبا بكر أو الحسين أو العباس. ما يهمني هو جوهر الشخص ومعدنه. أنا كنت أعيش في بغداد ولديّ جيران من السنّة ولم أفكر يوماً في أن أعاملهم على الأسس الطائفية. هكذا علّمني والدي".

وأضاف: "أنا وجيراني من السنّة تربطنا أواصر من المحبة والاحترام، ولكن قيادات المنطقة لا تريد أن ننعم بالأمن والاستقرار، وتريد دائماً صب الزيت على النار بالتفجيرات والاغتيالات وغيرها، من أجل إغراق المنطقة بصراع مذهبي متواصل".

وتابع: "أنا هنا لاجئ غامرت بحياتي فوق أمواج البحر العاتية حتى وصلت إلى أثينا، وخرجت من دائرة الصراع السنّي الشيعي بحثاً عن حياة أفضل أنعم فيها بالأمن والأمان والحرية والكرامة حتى لو كانت في زيمبابوي".

آثرت ختام الموضوع بكلمات مختصرة رغبةً منّي في إغلاق هذا النقاش. فكلام حسن العراقي الذي لم أقابله إلا قبل أيام قليلة لن يمسح من ذاكرتي سنوات من القتل والدمار والخراب على يد الميليشيات الشيعية في سوريا. لن تتغير صورة الشيعة المرسومة في مخيلتي بين يوم وليلة.

اللقاء مع المهرّب

نبّهني محمد الإدلبي، ابن محافظتي، إلى استغلال المهرّبين لمأساتنا ومعاناتنا وروى لي عن ليلة لقائه مع مهرب يدعى "أبو فهد" وقال: "اتّصل بي أبو فهد من أجل تهريبي من مطار أثينا إلى هولندا. تلقيت رسالة منه عن مكان اللقاء للاتفاق على المبلغ والتفاصيل. كان الوقت مساءً وكنّا في الحديقة الكبيرة على أطراف آخرنون، وبدافع الأمل للوصول إلى أوروبا انطلقت بسرعة نحو الموقع. اقتربتُ من أسوار الحديقة المرتفعة. انتابني شعور مخيف. أشجارها في الداخل كثيفة متداخلة وبالكاد ترى فيها بعض الأنوار. أكملت الطريق إلى الموقع الذي كان في عمق الحديقة، فإذا برجلين واقفين أشارا إليّ بيديهما وقال أحدهما: محمد؟، فقلت: نعم. اقتربتُ منهما وكانا واقفين بعكس اتجاه الإنارة، فلم أستطع تمييز وجهيهما، وما إنْ وصلت إليهما عاجلني أحدهما بطعنة بسكين في خاصرتي اليمنى وسرَق الآخر محفظتي وجوالي ولاذا بالفرار. صرخت طويلاً والدم ينزف منّي ومشيت عدة خطوات ثم سقطت على الأرض من الألم، سمعتني امرأة يونانية تمارس الرياضة في الحديقة، اتّصلَت بالإسعاف ونُقلت إلى المستشفى حيث خاطوا جرحي ثم عدت إلى السكن بذيول الخيبة".

أثناء تحضيري وجبة الغداء في المطبخ، شارداً في ما قاله لي محمد الإدلبي، دخل محمد الشامي المقاتل السابق في جيش الإسلام في غوطة دمشق وقبله في إحدى فصائل الجيش الحر. كنت أراه يدخن سجائر الحشيش ويتعاطى حبوباً مخدرة. نصحته بتركها لما لها من تأثيرات مضرة على الصحة. فقال لي: "الضغوط النفسية التي واجهتها في حياتي، منذ أن انضممت إلى صفوف الجيش الحر ومروري فوق جثث أصدقائي خلال قتال النظام، وطريق رحلتي الشاقة من سوريا إلى مصر، ومنها إلى تركيا، والصعوبات بين تركيا واليونان، وإقامتي في منطقة آخرنون السيئة، كل هذه الأمور كفيلة بالإدمان حتى الموت".

أخبرني محمد أنه يشتري هذه المواد من "المافيا الألبانية" التي "تدير عمليات الإتجار بالمخدرات والحشيش في آخرنون، عن طريق مقاهٍ أو محال تجارية منتشرة في المنطقة". يشتري منها يومياً بقيمة 20 يورو ليهرب من واقعه المرير "إلى نشوة تهدئني وتعطيني قوة داخلية وتنسيني واقعي".

"التهريب إلى أوروبا هو ما جئت من أجله إلى أثينا. وصلت الليل بالنهار مشياً قاطعاً أنهاراً وجبالاً وغابات بين منطقة أدرنة في تركيا وبين منطقة ألكسندر بولي في اليونان. سأنسى كل هذه المشقة عند وصولي إلى هولندا"

بعدما أخذت بعين الاعتبار جميع النصائح، تواصلتُ مع أحد المهربين. التقيت به خلال النهار في أحد المقاهي واحتسينا القهوة. خلال جلوسي معه، كنت أضع ثقلي على محفظتي وأمسك جوالي بكل قوة حتى أكاد أكسره كي لا يُسرق أي شيء منّي، متذكراً كلام حسين من حلب عن سرقة جوالين له في شهر واحد خلال تجوّله في آخرنون.

ببطاقة هوية إيطالية مزورة، ومن مطار أثينا إلى مطار أمستردام في هولندا، كانت خطة التهريب التي اتفقنا عليها. من السهل الحصول على هكذا بطاقات وجوازات مزورة في آخرنون، وعلى أساسها يقوم المهرب بحجز تذكرة طائرة من أثينا إلى البلد الذي يريد اللاجئ الذهاب إليه.

طلب منّي المهرّب إيداع مبلغ 5500 يورو في مكتب للحوالات غير شرعي، وبعد أن أصل إلى هولندا أتواصل مع المكتب، فيقوم بتسليمه المبلغ كاملاً.

في آخرنون أكثر من 60 مكتباً للحوالات غير الشرعية. ذهبت إلى مكتب الحوالات المتفق عليه والذي ينسق بين اللاجئين والمهربين في أثينا ويعمل كصلة وصل بينهم ويشكّل ضمانة للجميع، وكان صديقي في تركيا قد أرسل إليّ مبلغ 5550 يورو كحوالة إلى المكتب نفسه.

وصلت إلى المكان الذي كانت واجهته عبارة عن محل تجاري لبيع الأحذية. أردت الدخول فمنعني شاب يقف أمام المحل، وقال لي "انتظر. هنالك شخص في الداخل. لا تقف هنا. ابتعد قليلاً حتى لا نلفت نظر المخابرات".

انتظرتُ بعيداً حتى خرج أحد الأشخاص. دخلت إلى المحل. في نهايته باب صغير ودرج خشبي ملتف يوصل إلى قبو تتوسطه طاولة يجلس عليها صاحب المكتب. أعطيته رقم الحوالة على جوالي وطلبت منه إيداعها باسم المهرب الذي اتفقت معه، فقال لي: "سوف أرسل رسالة للمهرب بالمبلغ الذي أودعته"، وأخذ 50 يورو أجور إيداع.

هذا المبلغ، بالإضافة إلى مبلغ 2500 يورو كنت قد دفعته للمهرب الذي أخرجني من تركيا إلى اليونان، هو التكلفة النظرية للرحلة الشاقة بين تركيا وهولندا، والتي انطلقتُ بها بعد أن استدنت مبلغ 7500 يورو من صديق لي في تركيا على أساس أن أعيد له النقود بالتقسيط عندما أصل إلى هولندا.

مكاتب الحوالات في آخرنون للمفارقة قريبة من مراكز الشرطة، فمثلاً مكتب محمد الصومالي الذي لم أتعامل معه شخصياً، ولكن جميع الأفارقة يودعون أموالهم فيه، يقع مقابل مركز الشرطة تماماً.

جميع الحوالات التي تصل أو تسلَّم في المكاتب هذه تكون تحت علم ومسامع قوات الشرطة والمخابرات اليونانية، والتي بشكل أو بآخر تتغاضى عن معظم ما يجري بسبب تقاضي عناصرها رشاوى من المهربين والمافيات ومكاتب تحويل الأموال.

أليساندرو موتي

أتى يوم المحاولة في المطار، اليوم الذي انتظرته طويلاً، يوم الحلم الذي من أجله تحملت كل المشاق والصعاب. استعدّيت نفسياً وجسدياً وحاولت خلال الأيام التي سبقت ذلك تقمّص شخصية السائح الإيطالي. تدرّبت عليها في المشي والنظرات، وكنت أشاهد عشرات الفيديوهات لسائحين إيطاليين في أثينا وماذا يلبسون وكيف يمشون وينظرون ويتكلمون...

تعلمت أيضاً بعض الكلمات الإيطالية الترحيبية مثل مرحبا (تشاو)، وقصصت شعري بما يناسب القصات الإيطالية الحديثة. اسمي على بطاقة الهوية الإيطالية المزورة كان "أليساندرو موتي". توجهت إلى المطار بلباس أنيق ووصلت إلى البوابة الأولى، وبكل ثقة عبرتها. نعم إنني أقترب من لمس الحلم، لا تردد، فأنا ذاهب إلى هولندا.

انطلقت نحو البوابة الثانية في المطار وفيها الفحص النهائي للبطاقات ومنها إلى الطائرة. وصلت إلى المضيفة. نظرَت إليّ ثم إلى بطاقة الهوية، وفوراً استدعت ضابطاً في المخابرات قرب البوابة. أخذ البطاقة المزورة وطلب منّي الجلوس قليلاً حتى تقلع الطائرة. لم أعرف كيف أنها بنظرة واحدة عرفت أن هذه البطاقة مزورة. فكرت بمئات بل آلاف الأشخاص قبلي الذين استخدموا بطاقات وجوازات مزورة حتى أصبحت موظفة طيران خبيرة في اكتشافها.

محاولات التهريب في مطار أثينا لا عدد محدداً لها. أخبرني المهرّب أنه في حال لم أوفَّق في هذه المحاولة واكتُشف تزوير بطاقة الهوية سيؤمّن لي جواز سفر مزور لأحاول مرة أخرى، حتى أصل إلى هولندا، وكان صديق لي قد أخبرني أنه حاول 12 مرة السفر ببطاقات وجوازات مزورة حتى وصل أخيراً إلى ألمانيا متوجهاً من مطار أثينا في العام الفائت.

أخرجني ضابط المخابرات من المطار بكل هدوء دون أن يسمح لي بالكلام.

"قررت العودة"

ما إنْ وطأت قدماي خارج المطار حتى وصلتني رسالة من طبيب صديق لي مقيم في تركيا، رسالة شكّلت منعطفاً كبيراً في رحلتي بل حياتي عامة.

أخبرني أن أخي دخل العناية المركزة بسبب إصابته بفيروس كورونا، وأنه لا يمكن التواصل معه.

كنت قد تكلمت مع أخي ليلة أمس للاطمئنان على صحته وكان وضعه مستقراً. لم أكن أتصور أن تتدهور حالته الصحية بين ليلة وضحاها.

لا أعرف ماذا أفعل. عدت حزيناً باكياً إلى السكن. جلست في الغرفة الصغيرة أفكر في ما الذي يجب أن أقوم به. لا يفصلني عن هولندا سوى جواز سفر أوروبي مزوّر وطائرة تقلني إليها وتنشلني أنا وعائلتي من العدم الذي وصلنا إليه.

إذا توجّهت إلى أوروبا، يعني أني سأترك أخي الذي ساندني في أوقات الشدة ليقاوم المرض اللعين لوحده. يجب أن أكون بجانب زوجته وأطفاله الستة القلقين عليه. ولو عدت إلى تركيا إلى أن يتحسن أخي، لن أضمن أن أستطيع العودة الشاقة إلى اليونان مرة أخرى، ولن أستطيع دفع ديوني إلى صديقي.

ساعات من الضياع. أخيراً تغلّب قلبي على وعقلي. قررت العودة إلى تركيا.

كان شهر كانون الثاني/ يناير 2021 قد انتصف. ودّعت حلمي وانطلقت في القطار حزيناً عائداً من أثينا إلى سالونيك، ثم بالباص إلى أقرب منطقة على الحدود اليونانية-التركية وهي مدينة ألكسندر بولي اليونانية التي
استغرق وصولي إليها من أثينا قرابة الـ10 ساعات.

خلال الطريق كنت أطمئنّ على حالة أخي ووضعه الذي كان مستقراً في العناية المركزة عن طريق أحد الأصدقاء المتواجدين مع والده في المستشفى ذاته.

فور وصولي إلى ألكسندر بولي، سلّمت نفسي مباشرة إلى مخفر المدينة. صادر الشرطي جوالي وأبقاني واقفاً على رصيف مقابل المخفر دون أكل أو شراب وبدرجة حرارة 2- لمدة 6 ساعات. بعدها، نُقلت إلى سجن على الحدود اليونانية-التركية. دخلت السجن بعد التفتيش وكان عبارة عن هيكل مبنى فقط، بدون أبواب داخلية أو نوافذ سوى قضبان حديدية محيطة به، وبدون أي شيء للنوم عليه. جلست على الأرض الباردة والتفّ جسمي على نفسه من شدة البرد، وحيداً بائساً أفكّر في أخي وأدعو الله أن يشفيه.

انضمّ إليّ في السجن نحو 40 لاجئاً ألقي القبض عليهم أثناء محاولتهم العبور إلى اليونان، منهم مَن تفاجأ كيف سلّمت نفسي لأعود إلى تركيا وهم قاسوا وعانوا للوصول إلى داخل الحدود اليونانية. بدون طعام وبوجود صنبور مياه في طرف الزنزانة، بقينا يومين في انتظار الترحيل إلى تركيا.

في المساء، أخرجونا من السجن إلى سيارة كبيرة مغلقة ومظلمة وأخذونا إلى منطقة قريبة من النهر الفاصل بين اليونان وتركيا لنقلنا بقارب مطاطي إلى الطرف التركي. أخرجونا من السيارة تحت الضرب بهراوات حتى وصلنا إلى طرف النهر.

لم أصدّق أن هذه هي اليونان التي تُعَدّ جزءاً من الاتحاد الأوروبي والتي يفترض أن تكون من المدافعين عن حقوق الإنسان التي تتغنى بها أوروبا.

على طرف النهر، من الجانب اليوناني، كان ينتظرنا رجلان يلبسان زياً عسكرياً ويتحدثان اللغة التركية، جالسين على طرفي قارب مطاطي. هما مرتزقين من جنسيات آسيوية تستأجر قوات الكوماندوز اليونانية خدماتهما لنقل اللاجئين من الطرف اليوناني إلى الطرف التركي.

نُقلنا إلى القارب تحت الضرب والرفس واللكم من قبل قوات الكوماندوز اليونانية وفرونتكس الأوروبية، وأُنزلنا على الطرف التركي بعد أن قطعنا نهر إيفرويس، وعاد الرجلان بقاربهما المطاطي إلى الطرف اليوناني.

بعد وصولنا إلى الطرف التركي، قسّمنا أنفسنا إلى أربع مجموعات لتسهل تحركاتنا أثناء هروبنا من الجندرما التركية. أحد الأشخاص ذكر لنا أن الجندرما تحاول إمساك اللاجئين العائدين من الطرف اليوناني وإما أن تبقيهم في النهر حتى الصباح وترسلهم إلى اليونان، أو تحتجزهم 15 يوماً في السجن وترحّلهم إلى بلدانهم.

في الوضع الذي كنت فيه، لا أستطيع مجرد التفكير بالبقاء في النهر أو بالسجن لأنه يتوجب عليّ الوصول بأسرع وقت ممكن لأكون بجانب أخي وعائلته، ولا مجال للمناورة.

في مجموعة تضمّ عشرة لاجئين، ستة منهم سوريون والباقون من جنسيات مختلفة، انطلقنا. وأثناء عبورنا طريقاً ترابياً يطل على النهر، تفاجأنا بأضواء سيارات للجندرما تتجه من الطرفين نحونا.

قبل وصولها، وبسرعة العدّاء في مضمار للسباق، ركضت مع المجموعة قاطعاً الطريق الترابي، هارباً في الظلام الدامس لأجد نفسي في منطقة ترابية مستوية مليئة بمياه الأمطار. لاحقتنا أضواء كشافات الجندرما، وهم يصرخون علينا باللغة الإنكليزية من أجل التوقف. لا مجال للتراجع. استمريت في الركض في الأراضي الزراعية وعبرنا ترعاً مليئة بالمياه بعد الغطس فيها والخروج منها.

بعد عبورنا لسبع منها، سقطنا جميعاً في ترعة كبيرة مياهها ضحلة، لم أستطع الخروج منها فتركني الباقون وتابعوا المسير دون الالتفات إليّ أو مساعدتي. بقيت وحيداً غارقاً فيها حتى رقبتي. لوهلة شعرت بأن نهايتي اقتربت. سيارات الجندرما لا تزال تلاحقنا من مكان إلى آخر. ولكنّي لم أستسلم واستجمعت قواي وأكملت السير في الترعة حتى استطعت الخروج منها.

مشيت وحدي باتّجاه أنوار المدينة التركية القريبة من الحدود وتسمى "أبسالا". بعد الوصول، كان الوقت بعد منتصف ليل الجمعة، صباح السبت، وكان حظر التجوّل المسائي المفروض كإجراء للسيطرة على انتشار فيروس كورونا في تركيا سارياً. الشوارع فارغة ولا توجد أي حركة. وصلت إلى مكتب تاكسي في وسط المدينة، فوجدت شخصاً نائماً فيه. طرقت على نافذته فتقدم نحوي، فأخبرته أنني أريد الذهاب إلى إسطنبول، وجهتي الأولى قبل التوجّه إلى إنطاكيا، ولكنه رفض بسبب الحظر.

طلبت منه إعارتي هاتفه لأطمئن على أخي في المستشفى، فجوالي صادرته الشرطة في مخفر ألكسندر بولي، وأنا معزول عن أية أخبار منذ 56 ساعة. كنت قد سجلت الأرقام المهمة في وقت سابق على سبع أوراق ولصقتها بلاصق ضد الماء ووضعت كل ورقة في جيب.

اخترت رقم هاتف الصديق الذي كان أبوه في العناية المركّزة في نفس المستشفى وعلى تواصل حثيث مع أخي. رنّ هاتفه. بصوت أتعبته مشقة الطريق وصقيع الجو، سألته، "طمني، كيف صار أخي؟" أجاب: "البقاء لله".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard