شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"عين الساحرة"... أول كاميرا مراقبة في العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 14 مارس 202112:55 م

ما من وسيلة لمعرفة الذات غير تلك المواجهة عبر المرآة، حيث يرى الإنسان نفسه وهو يرى نفسه، ويعرف نفسه كما يعرفه الآخرون، وجهاً لوجه، من خلال تقاطع النظرات.

وقبل صناعة المرآة الزجاجية، كما نعرفها اليوم، في مستهلّ القرن السادس عشر، في البندقية على وجه الخصوص، استخدم الرومان والعرب الزجاج لصنع المرايا، عن طريق طلاء سطحه بمزيج من الفضة والزئبق، لكن أرضية هذه المرايا كانت معتمة بحيث لا تظهر عليها الصور واضحة وضوحاً كافياً، فكانت بذلك أقرب إلى الصور المنعكسة على سطح المعادن المصقولة.

ورغم ذلك اكتسبت مكانة رفيعة باعتبارها أعجوبة العصر التكنولوجية، مثل آلة التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر.

وقد تجلّى هذا الإحساس بالعجب إزاء المرآة في ميادين متعددة، إذ صارت تدريجياً من مستلزمات الموضة التي لا غنى عنها، توضع في علب أو حقائب من العاج أو المعدن النفيس، وكانت تربط في شريط من القماش أو سلسلة معدنية رقيقة وتعلق حول الخصر. أما المرايا الأكبر، فكانت تُصمّم مقابضها وقواعدها من الذهب أو الفضة أو القصدير، وتوضع في أطر مزخرفة ومطعّمة أحياناً بالأحجار الكريمة، نجدها اليوم مرسومة على هوامش المخطوطات والكتب النادرة، وفي الرسوم الدينية متعددة الموضوعات.

عُلّقت على حيطان الكنائس، ثم ظهرت بأحجام أكبر في المباني العامة والمنازل، ثم أصبحت مركز جلب الأنظار في غرف وصالات المرايا التي كانت تملأ قصور وقلاع القرن الـ17... عن سحر المرآة

عُلّقت في البداية على حيطان الكنائس، ثم ظهرت بأحجام أكبر في المباني العامة والمنازل، وأخيراً أصبحت مركز جلب الأنظار في غرف وصالات المرايا التي كانت تملأ قصور وقلاع القرن السابع عشر.

المرآة... شغف العلماء والفلاسفة والفنانين

وأكثر من كونها أداة من أدوات الموضة، صارت المرآة موضوع الاهتمام أو البحث العلمي، وأثارت شغف العلماء والفلاسفة الطبيعيين. ليوناردو دافنشي على سبيل المثال، اعتبرها "دليلاً نافعاً لا بد أن يهتدي به الفنان في عمله الإبداعي"، أثانيسيوس كيرتشر كان معنيّاً ببيان الخصائص البصرية التي تتميز بها، أما ديلا بورتا فقد قام بتجارب على تلك المرايا التي تمسخ الأشكال وتُحوّلها، وصمّم تخطيطات لغرفٍ من المرايا تُضاعف وتكرّر الانعكاسات إلى ما لا نهاية. ومنذ ذلك الوقت نجد إشارات إلى خصائص المرآة و"أفعالها الغريبة"، مثل قلب الصورة أو عكسها، وتجميع أشعة الشمس في نقطة واحدة لإحراق ما يُراد إحراقه، وغير ذلك من أفعال كانت آنذاك مثيرة للخيال وتدخل في باب "سحر المرآة".

تمسخ الأشكال وتُحوّلها، تقلب الصورة أو تعكسها، تجمّع أشعة الشمس في نقطة واحدة لإحراق ما يراد إحراقه، وغير ذلك من الأفعال المثيرة للخيال... سحر المرآة

أصبحت المرآة أيضاً موضوعاً أثيراً لدى الفنانين، نجدها في النحت والتصوير والحفر على الخشب والمعدن، وأكثرها شعبية هي "مرآة الساحرة" أو"عين الساحرة" التي ظهرت في العديد من لوحات الرسامين الفلامنكيين في القرن الخامس عشر، رأوا فيها طريقة لتثنية الصور وإدخال زوايا جديدة ومناظر محيرة من خارج اللوحة أحياناً، تُعطي الوهم بمشهد يمتد. وتتحول "عين الساحرة" إلى عالم مجهري مستقلّ، يضغط ويضاعف المشهد في آن، في لوحات كلّ من جان فان إيك في الزوجين أرنولفيني (1434)، بيتروس كريستوس في صائغ الذهب في ورشته (1449) وكونتن ماتسيس في المرابي وزوجته (1514).

وتختلف مرآة الساحرة عن غيرها من المرايا الدائرية بكونها مجهّزة بزجاج محدّب، يختزل الأشياء اختزالاً تصير معه بالغة الصغر والدقة. هذه الميزة ليس لها تأثير جمالي فحسب، ولكن وظيفي أيضاً، فقد سمحت لأصحابها برؤية شاملة للمكان دون الحاجة للتحرك أو الالتفات. وُضعت في الأماكن التي توجد فيها كاميرات المراقبة اليوم، وتحديداً في المصارف والمتاجر وسُمّيت "مرآة المصرفي". وسرعان ما تبنتها الطبقة البورجوازية كأداة للردع ومراقبة الخدم المثيرين للشكوك، الذين كانوا أميين في غالب الأحيان وأكثر ميلاً للإيمان بالسحر والخرافة، وكانوا يعتقدون أن المرآة قوة عُلوية مفارقة لهذا العالم الأرضي وغريبة عنه وغير قابلة للإدراك أساساً، وأنها تظل تراقبهم وترصد تحركاتهم حتى في غياب الأسياد. ومع إدراك الأثرياء للقوة الرادعة لهذه المرايا، اتجهوا نحو اقتناء أخرى أكبر حجماً، مزخرفة بالذهب ومطعّمة بالأحجار الكريمة للتعبير عن البذخ وإثبات السلطة.

لطالما اعتبرت المرآة أداة سحرية ذات قدرات خارقة، يغلب عليها الطابع الأسطوري، مثل مرآة نرسيس، مرآة ديونيسوس ومرآة ميدوزا

ولطالما اعتبرت المرآة أداة سحرية ذات قدرات خارقة، يغلب عليها الطابع الأسطوري، مثل مرآة نرسيس، مرآة ديونيسوس ومرآة ميدوزا. وضع الإغريق "علم المرايا" الذي ينطوي في آن واحد على دقة الرياضيات وشطحات التصوف، على قياس زوايا سقوط الضوء وانعكاسه عن أسطح المرايا، وما تسببه هذه المرايا وتثيره من أغلاط وأوهام، وكان المتصوف نصير الدين الطوسي، رياضياً ومحرراً لكتاب إقليدس في "علم المناظر".


المرآة... للتكهّن والنبوءة

استخدمت المرآة أيضا كوسيلة للتكهّن والنبوءة، تتجلى وتنكشف فيها وعن طريقها خبايا النفس وخفايا المستقبل

استخدمت المرآة أيضا كوسيلة للتكهّن والنبوءة، تتجلى وتنكشف فيها وعن طريقها خبايا النفس وخفايا المستقبل. نقرأ عن محاربين يستشيرون المرآة قبل الذهاب لمحاربة إسبرطة، ويُروى عن الإمبراطور الروماني ديديوس جوليانوس، أنه لما انتابه القلق من التقدم العسكري الذي أحرزه غريمه، استدعى السحرة لكي يعرف منهم مصير الحرب. لكن الرواية تضيف أنه كان يلجأ أيضاً إلى التجليات التي تصدر عن مرآة، يحدّق فيها أطفال ويحكون ما يرونه من علامات وأسرار. شكسبير هو الآخر استعان بهذه المرآة السحرية في العديد من مشاهده الدرامية في "مكبث"، وألّف غولار، المؤرخ الفرنسي، كتاباً بعنوان "كنز الأخبار العجيبة"، ذكر فيه أن ملكة فرنسا كاترين دي مديتشي، كانت تلجأ إلى مرآة لترى فيها مصير آل بوربون، حيث يظهر كل شخص وهو يقوم بدورات على قدر السنين التي سيحكم خلالها: "قام الملك هنري الثالث بدوراته وعبرها دوق دو غيز بسرعة خاطفة كالبرق، وبعد ذلك قدّم أمير نافار نفسه في اثنين وعشرين دورة ثم اختفى".

مرايا المقريزي

مرايا سحرية من مختلف الأنواع نجدها أيضاُ في "خطط "المقريزي: مرايا دفاعية ضد الأخطار، تمنع الوحوش البحرية من إلحاق الأذى بالسكان، مرايا محرقة تستقطب أشعة الشمس وتسقطها على سفن الأعداء وهي آتية من جزر نائية، على نحو ما كانت تفعل مرايا أرخميدس في دفاعها عن أسوار سرقسطة، ومرايا تلسكوبية تتوجه إلى داخل البلاد وخارجها، تبيّن مُدناً قائمة على الجانب الآخر من البحر، ومرايا تكهنية تُري، مُقدماً وقبل سنة كاملة، الأقاليم التي ستصير خصبة وتلك التي ستصير قاحلة، وتكشف بالتالي أحداث البلاد ووقائعها المقبلة.

"مرآة الشمس"

هذه الروايات العجيبة جعلت المرآة أداةً تنتمي إلى الخرافة أكثر من انتمائها إلى العلم، ومن الطبيعي أن تثير "عين الساحرة" كل هذه الريبة، لكنها أصبحت تدريجياً من كلاسيكيات التصميم والديكور الداخلي، منحها المصمم جيلبير بوالورا، في الأربعينيات، اسماً جديداً هو "مرآة الشمس". صُنعت في الألب البحرية ودوّخت جامعي الفن الذين لا زالوا يتعقبونها بصبر في المزادات العلنية. وقبل بضعة أيام أصدرت دار "sentou" الفرنسية التي تتعاون مع العديد من المصممين الشباب، تصميماً جديداً ذا طابع مينيميالي، يحمل اسم "endora"، مثل الحماة المتلصصة في مسلسل "بيوتشد" الكوميدي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard