شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"إلهي قُل لي من خلا من خطيئةٍ"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 23 مارس 202103:39 م

إلهي قُل لي من خلا من خطيئةٍ/ وكيف تُرى عاش البريء من الذنبِ

إذا كُنت تُجزي الذنبَ مني بمثلهِ/ فما الفرق ما بيني وبينك يا ربي؟!

عمر الخيّام.

"إذا كُنت تُجزي الذنبَ مني بمثلهِ/ فما الفرق ما بيني وبينك يا ربي؟"... عن العقاب والنعيم والجحيم 

الوحدة والاتحاد

هناك أسطورة فارسية قديمة تقول: "إن الذكر والأنثى كانا متحدين في جسد واحد، إلا أنهما انفصلا عن بعضهما بمشيئة إله النور"، أو كما يدعونه في الزرادشتية: أهورامزدا. وكانت العديد من الاعتقادات القديمة – كما نقرأ في ملحمة الأنوما إيليش البابلية وجلجامش السومرية – لديها ذات الصورة حول الأرض المؤنثة والسماء المذكرة اللتين كانتا متحدتين، فيطأ إله الحكمة والقوة، خالق الأشياء وبارئها على الأرض، فيفصلها عن السماء.

ويبدو أن هذه الصورة بقيت متوارثة في معتقدات منطقتنا، حتى تثبتت في سفر التكوين والقرآن: "أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما"، (الأنبياء).

ومذاك والإنسان يبحث عن الحب، عن نصفه الآخر، أو بالأحرى عن إكمال ذاته الناقصة. عن جمع السماء بالأرض أو الأرض بالسماء، كما نجد في تجربة الصوفيين، أو كما في علاقات الحب الإنسانية، حيث يشعر الإنسان في الحب أنه أعظم من ذاته، أن روحه قادرة على الحلول في جسد آخر أو أن جسداً آخر يعتني بروحه. ولكن أليس مؤلماً هذا الحنين للحظة الاتحاد البدئي، والذي يدفعنا نحو الرغبة في الاتحاد الروحي، ومن ثم تفترق الأشياء فراقاً أبدياً؟ إذ كيف تكون بيننا كل هذه المشاعر والتفاصيل، ولكن في لحظة ما يصبح كل شيء مجرد ذكرى؟

السعادة في النعيم والألم في الأرض

إن حقيقة الآلام الناتجة عن العاطفة المفقودة في العالم الفاني جعلت الإنسان منذ القدم يحاول إيجاد حلول وعوالم أخرى يلمُّ فيها شتات المحبين. لكني كنت دائماً ما أجد أن المحاولات الدينية السائدة لمعالجة هذه المشكلة الوجودية، وفي تأكيدها على الحياة الآخرة، ما يجعل الحياة في الحقيقة مثار قلق أكبر، فالأحباء لا يجتمعون بالضرورة هناك، إنما الفراق الأبدي هو ما يحدث بينهم نتيجة ما اقترفوه ولو بمثقال ذرة. تلك التي تحدد مكانهم، إما في الجحيم أو النعيم. لذلك يحاول الإنسان جاهداً أن يمتنع عن أبسط اللذات والمباهج كالموسيقى أو الرقص، أو حتى طريقة اللباس، فكل ما يدخل ضمن قائمة المحرمات يقف حائلاً بينك وبين الظفر بالجنة، واجتماعك مع من تحب في دعة وراحة.

إني متيقن أن الصورة التي أرى الله بها هي ذاتها التي يراني بها

كنت مرة أحادث صديقي، فكان يقول بأنه كان جالساً مع عمته، وكانت أميّة لا تعرف القراءة ولا الكتابة، فقال لها: "إنك يا عمتي إن لم تكوني من أهل الجنة، فلا خير في الجنة". فأخذت العمة تستغفر الله، كونها ترى بأنها مليئة بالخطايا، ويصعب عليها أن ترضي ربها أو أن تكون مستحقةً عطاياه، وهذا ما أسماه سبينوزا بالأهواء الحزينة أو تأثيم الذات، الذي نجد له غرارات كثيرة في الأدعية الدينية. إنك تجد هذه الأهواء عند الطيبين والبسطاء أكثر من الأشرار والذين يؤذون الخلق ويسرقون أموالهم ويفسدون في الأرض.

أخذت أتخيل نفسي وأنا أقف في يوم الحساب وبجانبي أمي، وقد عرضت علينا الأعمال، وبأن واحداً منا كانت أعماله تخوله للدخول للجنة بمثقال ذرة عن الآخر، فتساءلت: هل يمكن أن يكون ربي بهذه القسوة؟ أو هل يمكن أن أجد في الجنة تلك اللذة المفقودة بعيداً عمن أحب؟ أو يا تُرى هل هذه هي المكافأة بعد كل المشاعر التي كانت بيننا؟ وهل أن الله، كمحرك دمى، يستأنس بتحطيمها كما يرى الآخرون؟ ألا يمكن أن يشفع كل محب لحبيبه ونسكن جميعاً في عالم من الأرواح المتآلفة، حتى لو كان في العالم السفلي بدل جنة عدن؟

ذلك ما أخذني لحب الاطلاع على أديان الآخرين والأديان القديمة، لأرى كيف كان الإنسان يعالج هذه المشكلة. قرأت مرة أن حضارات وادي الرافدين القديمة كانت تعتقد أن الإنسان خُلِق من دم واحد من الآلهة الصغار، الذين ثاروا بعد تكليفهم من قِبل آلهة الأنوناكي العظيمة بمهمة إعمار الأرض وحرثها، وبما أن الآلهة الصغرى أيضاً من جملة الآلهة، فإنه يحق لها أن ترتاح من العناء، فثارت على باب "إنليل"، وهكذا تم خلق الإنسان من دم واحد من الآلهة الصغرى ليحمل العناء عنها والألم والتعب، ويقدم القرابين ويبني معبداً للصلاة.

ولأن معتقدات وادي الرافدين كانت طقوسية ولم ترتبط بالأخلاق، أي ليست هي التي تخبر الإنسان بما يجب أن يفعل وما يجب أن ينتهي عن فعله، لم تكن هناك بالمقابل فكرة حول الثواب والعقاب الأخروي جراء الأعمال التي يقترفها الإنسان على الأرض. فتنظيم الأخلاق كان من شأن حكمائهم الذين يضعون القيم والحدود والضوابط لحفظ المجتمع، فالأخلاق نابعة من مسؤولية الفرد تجاه الأرض والناس الذين يعيشون فيها، قبل مسؤوليته تجاه السماء والآلهة. أما بعد الموت، فإن الناس جميعاً، أخيارهم وأشرارهم، يذهبون للعالم السفلي ويعيشون معاً، هذا ما جعل جلجامش يسافر بعيداً في محاولة البحث عن إكسير الحياة أو ماء الخلود، لأن هذه الحياة هي الحياة الوحيدة التي تُمنح للإنسان بجسد وروح معاً، إلا أنه مات وحيداً بأرض دلمون، ورحل إلى العالم الذي طالما هرب منه. ولو كان جلجامش بيننا لربما كانت معضلته أكبر وهروبه من الموت يستحق مغامرة أشقى.

الثواب والعقاب من وجهة نظر أخرى

في الإسلام كانت هناك خروقات على هذه الفكرة، ويبدو أن من يتسع في الفلسفة ومباحثها تتولد لديه أسئلة كثيرة حول فكرتي النعيم والجحيم، حتى لو كان من أكثر الناس إيماناً، فإننا نجد ملا صدرا الشيرازي، صاحب كتاب "الحكمة المتعالية" وهو الفيلسوف المسلم المؤمن، لا يكاد يستسغ فكرة أن يعاقب الإنسان عقاباً أبدياً مقابل أعمال اقترفها في حياة مؤقتة، لكن رجلاً مثل ملا صدرا كيف يمكنه أن يفلت من الآيات القرآنية الصريحة التي تتحدث عن النار والجحيم، فقرر أن يعالج تلك الآيات الصريحة، بقوله إن أجساد أهل النار تصبح من جنس النار بعد دخولهم فيها، فإن لذتهم تصبح في النار وعذابهم في الخروج منها. هكذا يعالج فيلسوف مرهف وحساس جداً قضية مُلِّحة عند المسلمين، بل لا يجد المسلمون جدوى من وجود الله إذا لم يكن قادراً على المثوبة والعقاب.

كذلك رأى إخوان الصفا، وهي طائفة موسوعية ظهرت في القرن الرابع الهجري بالبصرة، أنه من غير المنطقي أن يذهب الإنسان للجحيم بعد حياته الفانية، لأن هذه الحياة بمثابة مطهر بما فيها من عذابات، إذا ما كانت الحياة أصلاً نتيجة وزر اقتُرِفَ من قِبل أبينا وعلينا حمله، أو بأن غاية الوجود هي أن يحمل الإنسان هَمَّ الاختبار الذي يحسم المعركة بين الله والشيطان.

كان إخوان الصفا يرون أن الجنة صورة روحانية وليست جسمانية، لأن الجسم محكوم بالعلات والمشقة، كما أن اللذائذ ليست جسدية، لأن وجود هذه اللذائذ محكوم بوجود الإنسان على الأرض لا غير. وأن الجحيم هو عالم الكون والفساد الذي يعني عالم الموت والولادة الذي نعيش فيه بهذه الأجساد الحيوانية، فنعاني من خلاله المرض والجوع والأوجاع والآلام والفقد، وهذه الرؤية مخالفة للشريعة الإسلامية في رأيها للجنة والنار.

نعم، بالنسبة لإخوان الصفا ما نعيشه الآن هو المطهر الذي ذكره دانتي في كوميدياه الإلهية، فمن لم يتطهر يُحكم عليه بالموت والفناء، أما النفوس التي تطهرت فإنها تحصل على النعيم. وهذه ربما كانت رؤية عمر الخيام الفيلسوف، والفلكي والشاعر والرياضي، الذي رأى أن فكرة العقاب والانتقام لا تليق بالرب، فكأن الرب مثل الحكيم الذي يضع عقله مع الجاهل، أو حاكم ذي عرش وجند يحاكم من يخرج على طاعته، ولكن من منا ليس له خطيئة؟

إن الحياة مليئة بالعذابات التي ترتبط بالوجود الجسماني، فعلى حد القياس مع قول إخوان الصفا، نحن نعيش الآن في المطهر، الذي هو كفيل بتطهير النفوس الشريرة أيضاً. لذا، نحن بحاجة إلى أن نستبدل صورة التوحش الإلهي إلى صورة العشق الإلهي، فلا يكون الله حاكماً لا يقبل إلا من يمنحه صك العبودية، بل رفيقاً وحبيباً رحمانياً، يفتح باب رحمته ويجمع شمل المحبين.

ليس الله حاكم تفتيش للأفكار التي ما للعقل الضئيل قدرة البحث عن الحق بين شتاتها، بقدر ما هي من تبحث عنا وتندسّ في عقولنا عنوة

ليس الله حاكم تفتيش للأفكار التي ما للعقل الضئيل قدرة البحث عن الحق بين شتاتها، بقدر ما هي من تبحث عنا وتندسّ في عقولنا عنوة. إن الله معين يعيننا على البلوى والمرض والفقد، وإني متيقن أن الصورة التي أراه بها هي ذاتها التي يراني بها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard