شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كيف لم أصبح مجاهداً

كيف لم أصبح مجاهداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 4 مارس 202101:50 م
Read in English:

How I Missed Becoming a Jihadi

في تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً في عام 1992، كان الظهور الأول والعلني للجماعة الإسلامية في حي إمبابة. كانت المنطقة تعاني من الفزع والدمار عقب الزلزال الشهير الذي ضرب مصر في ذلك الحي. أذكر أن أهل المنطقة تكدسوا عند خط السكك الحديدية؛ تلك التي أنشأها محمد علي لتربط بين ترسانة القمح وباقي المحافظات، ونصبوا فيها المخيمات. كان الجميع يخشى من عودة الزلزال مرة أخرى، من تهدّم البيوت المتصدّعة فوق أدمغتهم، من بطش الطبيعة وألاعيبها. فتجمّعت الأُسر وتعاونت على مواجهة الأزمة. وهنا ظهرت الجماعة لتقدم المساعدات اللازمة وتشارك في ترميم المنازل، وتدعو الناس إلى إعادة النظر في الدين والتقرب من الله. استقبلهم أهل الحي بمحبة صادقة. وفرحوا برعاية الجماعة لهم.

توقف الزلزال حتى بات كذكرى قريبة ترتجف منها النفوس. غير أن نشاط الجماعة لم يتوقف، بل امتدد ليشمل جلسات الصلح بين العائلات الكبيرة، ومساهمات في زواج الفقيرات، وشنط بلاستيكية مكتظة بالأطعمة والأغذية توزع على أصحاب الحاجة. تلك الأفعال حصرت دور الحكومة ووسعت من دوائر الجماعة التي اكتسبت ثقة أهل المنطقة الذين دفعوا بأبنائهم للانضمام بتلك الجماعة. وكنتُ أنا واحداً من هؤلاء الأبناء. وبذلك أصبحت أصغر عضو في الجماعة.

الموسيقى والأغاني الشعبية اختفت من المحال وعربيات الأجرة،  ليحل محلها شرائط الشيخ كشك والشيخ عمر عبد الرحمن المؤسس الحقيقي والأب الروحي للجماعة

مع صلاة الفجر، أتجه إلى مسجد الرضوان الصغير. أصلي مع الإخوة، وأتمتع بعناية خاصة من قبل أميرهم الشيخ خالد. أحضر حلقات الدروس، وأدور معهم في الشوارع لمخاطبة الناس وحثهم على التمسك بدينهم وأنا أرتدي الجلباب القصير جداً، وألف رأسي بغترة وعمامة.

لم يصبني هذا التحول وحدي فحسب، بل أصبحت المنطقة، تدريجياً، ذات طابع جديد. وكأنها تنتمي إلى ثقافة أخرى تخص عصر بعيد، بعيد ومختلف. لم أعد أرى امرأة إلا وهي تلبس النقاب، أما الفتيات فقد عرفن الإسدال والخمار، والشباب في زيهم الباكستاني المعروف. حتى أنّ الموسيقى والأغاني الشعبية اختفت من المحال وعربيات الأجرة ليحل محلها شرائط الشيخ كشك والشيخ عمر عبد الرحمن المؤسس الحقيقي والأب الروحي للجماعة. كذلك الأفراح؛ التي اشتهر بها حي إمبابة، تغيرت أيضاً. فلا يوجد راقصة أو مطرب، إنما هي أفراح إسلامية يعتلي فيها العريس حصاناً أبيض يجوب به الشوارع والحواري، بينما العروس مع غيرها من النساء. على وقع الأناشيد الجديدة والدفوف.

لقد صار في كل بيت عضو أو أكثر من أعضاء الجماعة. لا أحد بإمكانه أن يفكر في معصية. الجميع يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حتى داخل بيته. أذكر مثلاً أن شقيق صديقي الأكبر كسر جهاز التلفزيون بمنزله لأن والده كان يشاهد فيلماً لإسماعيل ياسين.

أما يوم الجمعة فكان دائماً غير باقي الأيام. نستيقظ من النوم قبيل الفجر ونتجه إلى مسجد الرحمة بالبصراوي وهو أكبر مسجد للجماعة، وإليه يتوافد كل الإخوة من كل صوب. نصلي الفجر ونذهب إلى المعسكر؛ وهي أرض فضاء واسعة، ونشكل فرقا. لكل مسجد ومنطقة أمير وأمير مساعد. نلعب كرة القدم والبنج بونج ونشارك في المسابقات الدينية ونحتفل بالفائز. وقبيل صلاة الجمعة نعود إلى المسجد، نسمع الخطبة من كبيرنا الشيخ جابر ريان؛ وهو أمير الجماعة بإمبابة الذي أطلقنا عليه اسم أمير المؤمنين. كانت الخُطب في معظمها تناهض الحركة الصهيونية وتلعن اليهود والنصارى وكل إنسان على وجه الأرض لا يعرف الإسلام، مع التركيز على الاضطهاد الذي يعاني منه كل مسلم في بلدان العالم. وبعد صلاة الجمعة نتجمع على الطعام، نلتف في دوائر حول الصواني ونأكل بأصابع أيدينا الثلاث ونحن نجلس القرفصاء. ونعود إلى بيوتنا بعد الغروب بعد شحنة هائلة من الإيمان والرغبة القوية في الجهاد.

الجميع يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حتى داخل بيته. أذكر مثلاً أن شقيق صديقي الأكبر كسر جهاز التلفزيون بمنزله لأن والده كان يشاهد فيلماً لإسماعيل ياسين

في ليلة تمنيت أن يكون لدي مازنجر) بطل مسلسل الكرتون). تخليت نفسي وأنا أقوده مثل ماهر، أواجه به أعداء الإسلام وأقتل جيش الكفرة، وأحرر القدس من يد اليهود. سيطرت عليّ تلك الأمنية لفترة طويلة، حتى جاءت ليلة الرباط، وهي ليلة خاصة جداً لا يحضرها إلا الأعضاء الموثوق فيهم. كانت تُقام هذه الليلة كل فترة في مسجد مختلف. هذه الليلة كانت من نصيب مسجد الرضوان؛ مسجدي. بعد صلاة العشاء بكثير أُغلق باب المسجد من الداخل، وصعد أخ على المنبر ووضع جهاز تلفزيون وجهاز فيديو، وبدأ العرض: تدريبات للإخوة في بلاد بعيدة، جبال، وصحاري، وأسلاك نارية يزحفون تحتها بالأسلحة. يظهر شخص ويعرف نفسه بأنه أيمن الظواهري، وأنه مصري، ويطلب من الإخوة أن يلتحقوا بالمجاهدين في كل مكان. مشاهد أخرى من البوسنة والهرسك، جثث يعف عليها الذباب، قتل وذبح، أكوام من أجساد متعفنة. مشاهد أخرى للانتفاضة الفلسطينية، دبابات تجرف المنازل وتقتلع أشجار الزيتون، امرأة تحتضن صغيرها وتبكي، طفل في مثل سني تقريباً يقذف حجر نحو مدرعة وهو يتلو "وما رميت وإذ رميت ولكن الله رمى"، ويلقي بالحجر فتنفجر المدرعة.

أُخذتُ بالحدث؛ حماس ومذلة وعزة ورغبة محمومة في المشاركة، مشاعر متضاربة ومتناقض. ومع ذلك، عيني منشغلة بالشيخ الأكبر الذي كان يجلس في زاوية تحت الإضاءة المنعدمة. لاحظت أن الجميع يتجنب التقرب منه. لا أحد يقترب غير الشيخ جابر، يتبادل معه كلمة أو أكثر ثم يهز رأسه بتفهّم واحترام مبالغ فيه. عرفت أن الشيخ الأكبر هو الشيخ عمر عبد الرحمن. كان في زيارة لنا، وقد حكى عنه الإخوة كثيراً من قبل، ونسجوا الأساطير حول شخصيته الجبارة، وقدرته على التلاعب بالأمن رغم كونه أعمى. كان لديهم فناً خاصاً في صياغة القصص عن كبيرهم، ربما يدعي فن صناعة الأسطورة، وها هو الأسطورة يطلب رؤيتي: "أنا! لمَ؟" أسأل الشيخ جابر فيقول لي: "لا تخف. حدثته عنك. لا ترد سوى بكلمة واحدة".

"تحب تكون مجاهد معانا يا شيخ عمروش؟" بالطبع أحب، وأكدت له أنني سأكون محارباً عظيماً مثل خالد بن الوليد

تلك الواقعة كتبت عنها في روايتي الأخيرة "قانون البقا"، وسأظل أكتب عنها وأحكيها. حينها اقتربت من الشيخ الهرم. بياض يغطي الأعين. إنه ضرير. دفعني الشيخ جابر برفق فتقدمت رغماً عني خطوة إلى الأمام حتى أصبحت بين يد الشيخ الذي سألني عن اسمي، ثم عن أخوتي. وحين عرف أن لي أخ أصغر مني بدت عليه الراحة. ثم عاد لتساؤلاته: "تحب تكون مجاهد معانا يا شيخ عمروش؟" بالطبع أحب، وأكدت له أنني سأكون محارباً عظيماً مثل خالد بن الوليد. ابتسم ثم سأل: "وانت أبوك شغال إيه؟" فقلت له أن أبي يرسم في معظم أوقاته، كما أنه يحب نحت التماثيل. لا يمكن أن أنسى أبداً رد فعله؛ تقلب وجهه كأن حشرة سقطت في فمه، لم يرد، أشار بيده أن أرحل، ورحلت. لم أكن أعرف وقتها أن الفن أنقذني من مصير مجهول، وبشع، وأن الفن سيظل دائماً السلاح الأقوى في مواجهة الأفكار الرجعية. ولأنه كذلك، فقد كان عدو تلك الجماعة. وبالطبع شُمل الفنانون في هذا العداء. فشكراً للقدر الذي وهبني أباً من هؤلاء الفنانين.

 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard