شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ما الذكريات التي أيقظتها رغد في نفوس مصريين عملوا في العراق؟

ما الذكريات التي أيقظتها رغد في نفوس مصريين عملوا في العراق؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 25 فبراير 202101:53 م

تزامناً مع لقاءات قناة "العربية" مع رغد صدام، ابنة الرئيس السابق لدولة العراق صدام حسين، ارتفع صوت ثرثرات كثيرة متعددة المرجعيات والآراء، حول ما قالته رغد في حق والدها وحقبة حكمه، ليعود صدام حسين في حديث العالم العربي من جديد، بعد أن اندثرت سيرته أو كادت.

عاد المفكرون والمؤرخون والمثقفون وقادة الأحزاب السياسية ليتحدثوا عن حقبة حكمه، في ظل ما قالته رغد، خلال سلسلة لقاءاتها مع "العربية"، متناولين بشكل خاص أزمة شعبه مع الديمقراطية وحقوقهم الدستورية ومجازره الإنسانية ودكتاتوريته الفظة. ولكن في نفس الــوقت، كان لعدد ليس قليل من الرجال المصريين الذين عملوا في دولة العراق أثناء حكم صدام، رأي آخر، فهل كان صدام حسين حاكماً رائعاً حقاً، إن تجنبنا النظر لنصف وجهه الآخر "وجه الديكتاتور"؟

"اللي يسيء لمصري كأنه أساء لصدام حسين نفسه"، ما الأثر الذي تركه صدام حسين في نفوس مصريين عملوا في العراق في فترة حكمه؟

في محاولة للتعرف على تفاصيل ما وراء وجهات النظر التي تعزز وتمدح حقبة صدام، بالأخص من قبل شريحة كبيرة، يشكلها رجال تعدى عمرهم الخمسين عاماً اليوم، وفي ظل جيل يشكله أبناؤهم اللذين قاموا بثورات على حكامهم من أجل الديمقراطية، كان لرصيف 22 حديث خاص مع بعضهم، لتفسير ملامح هذه المنطقة الرمادية الواقعة بين بياض وسواد فكرين، يعيشان في بيت واحد.

فيقول عبد الناصر عوض، البالغ من العمر 58 عاماً، والذي كان يعمل كعامل بناء ومحارة في العراق عام 1984، أنه عاش أفضل سنوات حياته في العراق، فهو ترك قريته في محافظ الغربية وتوجه لبغداد في البداية، لشق طريق عمله. فيذكر سحر جمال بغداد وعراقة البناء ومظاهر الحداثة، وتعامل العراقيين مع العمالة المصرية وحسن ضيافتهم، مؤكداً أنه عمل بعد حرب العراق والكويت في عدة دول عربية، وانه لم يجد حسن معاملة وحسن معيشة كما في العراق، مستدلاً بجملة يقال إنها قيلت على لسان صدام حسين: "اللي يسيء لمصري كأنه أساء لصدام حسين نفسه"، كدليل على شدة حب صدام واحترامه للمصريين آنذاك.

أمّا عن عدوي إبراهيم حسن، البالغ اليوم من العمر 60 عاماً، والذي عمل في دولة العراق كحارس مستودعات أدوية زراعية عام 1989، لمدة 8 أشهر فقط، ثم غادرها بسبب حرب العراق والكويت، فيقول إنه خلال إقامته في بغداد كان كل شيء يثير انبهاره، بالأخص إصرار صدام على تعليم شعبه، فيذكر أنه رغم عدم قدرته على القراءة والكتابة، إلا أن رغبة الرئيس في جعل دولته متحضرة متعلمة كان أمراً يثيره، ويتمنى لو كان حدث في بلاده مصر.

"صحيح صدام مكنش بحب الدم كان بيدفن معارضيه أحياء رحمة ليهم"

فحينها كان هو على الأقل حصل على شهادة تساعده في هذه الحياة، بالإضافة إلى ضمان تعليم أولاده وكل الجيل بشكل سهل وجيد، فيذكر أن جيش صدام كل يوم كان يمر على المنازل صباحاً، والطالب الذي يغيب عن مدرسته يتعرض والداه لعقاب شديد، بداية من الغرامات المالية الكبيرة حتى السجن المشدد، غير المليارات التي صرفها على البحث العلمي والعلماء، وأن من كان يحالفه الحظ ويدرس في جامعة بغداد هو فقط من يستحق لقب متعلم، مضيفاً أنه تمنى كثيراً لو لم تحدث الحرب، لأنه كان يشعر برغد ورخاء لم يعد يشعر بهما من بعد تلك الفترة، مثله مثل الملايين .

أما عن إسحاق جمال الذي عمل مدرس لغة عربية في العراق عام 1980، في محافظة كربلاء، لمدة تسع سنوات، فهو يذكر أن العام الذي ترك فيه العراق هو عام حربها مع الكويت، وقد بلغ عدد المصريين وقتها 7 مليون ونصف مصري، يعملون في العراق، مقارنة بدول أخرى اليوم يصل عدد المصريين فيه إلى ملايين.

 كان وقتها لا يتعدى عددهم خمسة آلاف مصري، وكان الدينار العراقي عام 1989 بمثابة ثلاثة أو أربعة جنيهات مصرية، وكان هذا مبلغاً كبيراً وقتها. ومن أشهر الأشياء التي تركت داخله أثراً عن ثراء ورخاء العراق أثناء عمله فيها، أنه خلال موسم أعياد الشيعة، كان المصريون وغيرهم من العمالة الوافدة، ينتشرون حول مقامات العبادة التي تقام فيها الاحتفالات والطقوس الدينية، ليساعدوا السيدات الآتيات لهذه المقامات في حمل قفف كبيرة، فيتناولون هذه القفف من السيدات القادمات من أعلى عربات الحنطور التي يتنقلن بها، ويساعدونهن في حملها حتى يلقى بمحتويات هذه القفف في أرض المقام، والتي كانت تحتوي على ذهب خالص، تقدمه السيدات للمقام في الأعياد كطقس ديني للتقرب والتودد .

عمل رمضان محروس خمس سنوات في العراق كبائع في متجر تجاري. بدأ حديثه معنا بجملة: "وأنا ماشي في العراق لقيت جثة"، وقبل أن أذهب في نوبة ضحك، لأن هذه جملة شهيرة للفنان يحيى الفخراني، في أحد مسلسلاته التي تدور بين ماضيه في العراق وحاضره في مصر، أكد السيد رمضان أنه لا يمزح، وأنه حقيقي حين كان يسير ليلاً في العراق بعد عمله، وهو متوجه نحو بيته وجد جثة في الطريق العام.

جيش صدام  كان يمر كل يوم على المنازل صباحاً، والطالب الذي يغيب عن مدرسته يتعرض والداه لعقاب شديد، بداية من الغرامات المالية الكبيرة حتى السجن المشدد

 تسير الناس وتقضي حوائجها في الشارع دون أي اهتمام لوجود جثة مشوهة لشخص ما، وحين سأل وتحرى عن الأمر، قيل إنه معارض كان يسير في الشارع وكلما وجد فرصة كتب على الجدران "يسقط صدام"، وحين سألته عن رد فعله وما شعر به وقتها بعدما عرف سر قتل وإهمال جثة ميت، قال بكل هدوء: "ولا حاجة. يستاهل اللي حصله، مهو لو يسقط صدام نعيش إحنا منين؟ وبعدين واهو يا ستي سقط صدام، هما عايشين إزاي! أسوء عيشة ولعياذ بالله".

مضيفاً أن العمالة العربية أصبحت اليوم تعاني من صعوبة المعيشة في الدول التي تلجأ اليها للعمل فيها، غير صعوبة إتمام الأوراق والحصول على كفيل، وتكاليف تصريح العمل، غير المبالغ الكبيرة التي تترتب على هذه الخطوة من البداية، والتي قد تساوي سعر بيع قطعة أرض لأجل الحصول على عقد للعمل في الخارج. يقول: "بعد صدام كله اتذل".

وبعد طرح سؤال: "هل كانت مجازر صدام ودمويته تجاه شعبه أولاً ثم شعب الكويت في تلك الحرب التي أقيمت في حضوركم، وكانت سبباً في نزوحكم بشكل قاس من العراق، نزوة رئيس كما وصفها الكثير من المؤرخين، أم هناك أغراض سياسية حقيقة؟". فأجابنا على هذا السؤال مكرم حسنين، الذي كان يعمل في أكبر مخابز بغداد وقتها: "انا مبفهمش في السياسة، بس الرئيس صدام يعمل اللي عايزه، دي كانت أيامه، أيام العزّ وأكل الوزّ".

سكنت تغريد عبدالله بغداد مع زوجها الذي كان يعمل محاسباً في إحدى شركات القطاع الخاص، تقول: "طيب هي نزوة صقر زي صدام هتكون عاملة ازاي؟ هيخون مراته مع رقاصة يعني زي رجالتنا؟ ما لازم تكون نزوته حرب دموية. ده رئيس دولة مش هيتكرر".

وبإطلاع الأستاذ الدكتور بركات حمودة (اسم مستعار)، أستاذ السياسة في كلية الحقوق، على هذا التحقيق ومناقشته بما جاء فيه من ذكريات لبعض المصريين الذين عاصروا الرئيس صدام في فترة حكمه، ونفض الغبار عن فترته وتقديسه في أذهانهم حتى اليوم، قال إن "هؤلاء جزء صغير من شريحة يمكن أن يصل عددها إلى ملايين الجاهلين، الذين عاشوا لأجل هدف واحد هو الحصول على المال لأجل البقاء.

جميعهم من خلفيات بسيطة مهمشة فقيرة، تم نقلهم في يوم وليلة، من صعوبة ضغوط خلفياتهم إلى عراقة وحداثة المدنية، وسواء كانت هذه المدنية في بغداد أو غيرها كان سيحدث لهم نفس الانبهار، وستمجّد داخلهم كل شعرة ساهمت في شعورهم بالحياة، شعورهم بقبولهم اجتماعياً بالاستقرار الوظيفي والدخل الوفير مقارنة بحياتهم القديمة، وتميز ما أصبح يرفعهم فوق غيرهم من أقرانهم اللذين ما زالوا يعيشون في جحور مسقط رؤوسهم. فكيف لا يكون صدام أو أي ديكتاتور غيره عظيماً؟ ما حاجة هؤلاء للديمقراطية أو لحقوق الإنسان، وهم في معضلة لا تنتهي من الصراع لأجل البقاء.

جميع ذكريات هؤلاء تحمل أحداثاً دموية واضحة وتسلطاً غير عادي، حتى إن كان هدف هذا التسلط الاستقرار الأمني، التقدم الحضاري بالعلم أو الحفاظ على هيبة الدولة. الدم لا يغفر، والقهر والظلم واحد، ولو عاش واحد منهم فقط عوائد نزوة حربية لصدام أو عذب لأجل رأي سياسي خرج منه على شكل نكتة سطحية في جلسة (أنس وفرفشة) لما كانت ذكراه بهذه العظمة في أعينهم. أي ديكتاتور في حياة البسطاء الذين لا يحتاجون أي حقوق لهم في الحياة سوى الطعام والسكن، هو إنسان عظيم، فرعون طيب وعصره ذهبي".

"بعد صدام كله اتذل"

مضيفاً أن ما جاءوا به من بطون ذكرياتهم مجرد حكايات نابعة عن حنين لوقت رخاء في حياتهم، مقارنة بما حدث لهم بعد ذلك، حتى آراءهم السياسية هي آراء سطحية مجوفة ومزعجة مثل الطبول الكبيرة، لا يمكن اعتبارها نقاشاً سياسياً أو حتى نقاشاً عقلانياً. مجرد حكايات تسرد وتتداول، وجائز جداً أن يشكل أكثر من نصفها الخرافات والادعاءات، لأنها حكايات شخصية تنقل من لسان للسان كأي أسطورة، وكل شخص ورغبته في تعظيمها أو تحقيرها يلعب دوراً في حجمها ووصولها.

مضيفاً أن بداية شعوره بالضيق في موجة إحياء ذكريات صدام، جاءت مع سماعه جملة رغد في لقائها مع "العربية" وهي تقول بلغة متكبرة: "نحن أسياد العراق وبابا ما يحب الدم". ورغم أنه تم تداولها بكثرة في الأيام الماضية بين رواد السوشيال ميديا، إلا استخدام هذه الجملة بشكل فارغ استوقفه، مثل الذي قال: "إنهم حقيقي أسياد العراق، ويجب أن نؤمن بأن الناس طبقات فوق بعضهم، ونتخلى عن الحقد النفسي، وأن رغد ابنة لرئيس عظيم مثل صدام، وليست ابنة فراش مكتبنا"، مؤكداً أن سبب غضبه ليس تأييد جملة متكبرة مليئة بالإهانة من ابنة دكتاتور دموي لشعب بأكمله، بل غياب المنطق في حديث هذا الرجل والاستدلال بآية في غير موقعها تماماً، وإسناد الغضب المبني على أمور واقعية مؤلمة بهراء مثل استخدامه لكلمة حقد نفسي، ورفع شأن رغد لأجل أصولها القبلية، وليس لقيمتها الحقيقة وما فعلته في حياتها كإنسانة، وممارسة العنصرية على رجل بسيط مثل مستخدم يعمل في مكتبه، وابنته التي تكافح من أجل تجنب مثل هذه التصنيفات.

"انا مبفهمش في السياسة، بس الرئيس صدام يعمل اللي عايزه، دي كانت أيامه، أيام العزّ وأكل الوزّ"... كيف ينظر المصريون لفترة حكم صدام حسين؟

أما عن جملة "بابا ما يحب الدم"، فتم التعامل معها على نحو يثير الغضب والغثيان في نفسه، فتداولها محبو الراحل معقبين عليها: "صحيح صدام مكنش بحب الدم كان بيدفن معارضيه أحياء رحمة ليهم"، وما يزعجه بشدة أنهم لا يسخرون بل يتحدثون بجدية كبيرة، ويمجدون فعلة مشينة لا إنسانية، مثل دفن معارض سياسي حياً، لأن قتله سيؤلمه ويخيفه، فكم هي عظيمة تلك الميتة ورحيمة، وأن الأمر تحول من حق وسياسة ومنطق وعقل حتى في الخلاف والجدال إلى شيء يشبه مثل مصري شعبي يقول: "حبيبك تبلعله الزلط وعدوك تتمناله الغلط".

خاتماً أن صدام، وغيره من الديكتاتوريين، هم بالفعل حكام رائعون في حالة حكمهم لقطيع غنم يعيش في السهول يبحث عن الطعام والشراب، ولكن حكم صدام حسين وأمثاله للبشر، يا رغد، كان مريعاً لأقصى الحدود!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard