شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عن أحلام الغربة... في ستة مشاهد

عن أحلام الغربة... في ستة مشاهد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 27 فبراير 202110:36 ص

1

حلمت اليوم أني مشيت في دمشق ومَشتْ إلى جانبي طفلة تأكل المعروك. سرنا وكأن جسدي الملبّد في تعب من يجهل الطريق ويتبع جسدها الصغير، وكأني فيل يركض خلف فراشة.
صعدنا الطريق المهجورة نحو حي المهاجرين. ألقيت نظرة إلى الوراء فرأيت مشهداً جعلني أحسّ بالغرابة والغربة؛ حتى هزّتني الطفلة من طرف قميصي ونظرتْ إليّ مبتسمة، آخذة بيدي لننعطف شرقاً مع شارع ناظم باشا، مروراً بالمصطبة، تاركان خلفنا حديقة تشرين، جهة حي العفيف.

هناك مررنا بمنزل زوجة عمّ والدي الجولانية، ثم تابعنا السير إلى شارع المدارس، لننتظر طفلاً خرج من الجموع ومشى إلى جانبها. ثم اتجهنا ثلاثتنا إلى قبر عبد الغني النابلسي ووقفنا نتأمل الورد الأبيض في باحته. 

خرجنا إلى شيخ محي الدين ثم انعطفنا يميناً عائدين إلى الميسات. توقفت هناك عند إحدى اللوحات فوق الطريق العام، وبدا لي وكأني أعرف اسم صاحبها. مضت بضع دقائق ثم تذكرت وجه مهنّد الأسمر، وتذكّرتُ صوته العذب الفرات.

ثم تذكّرتُني أقف خلف شباك في الطابق السابع، أراقب غيمة سوداء تعلو غوطة دمشق، وأفكر بعدد الأطفال الهائل الذين أثاروا كل هذا الغبار ليلة أمس عندما يلعبون، أو عندما كانوا يتهافتون للسماء.

فخفق قلبي واستدرت من حولي أبحث عن الطفلين، لكن خلال تلك الدقائق القليلة كانا قد اختفيا.
جننت. ركضت في كل الاتجاهات كالمجانين. ركضت وكأني فقدت طفليّ.

ركضت كثيراً... ساعات أو أيام!
ركضت حتى وجدتني خارجاً من دمشق نحو الجنوب أو الشرق... لا أعرف
فإذا بامرأة تخرج من أحد البيوت وتشدني من كتفي وتقول معاتبة: أين كنت يا عبد الرحمن؟ لقد انتظرتك عشرين عاماً.

مثلًا: أتذكرّ أبي؛ فأعرفه في الحلم أكثر. لكأنني بذلك أكمل صياغة مشهدٍ مُقطّعٍ من صورته في حياتي.

2

في حلم آخر، كنت أراني ماشياً على طول خرسانة رمادية، ظننتها يوماً أنها امتداد البيت الذي خرجت منه تلك المرأة في ذات الحلم.
كنت أمشي، وما استطعت أن أقول بوضوحٍ لماذا، وكيف كانت تتشكّل المطبّات فوق ذراعي إن تفاديتها؟
قلت في نفسي: ربما تحت النوافذ...
قلت: ربما ترمي الناس هناك الماء خلف الغائبين، فتلتئم المطبّات كما الجراح.

قطعت آخر مطبٍّ، فانبلجت النوافذ الصغيرة، وكأنها عيون عمياء.
يا إلهي... كيف لي أن أخفي زهرة هنا؟
هل تتشقّق زاوية في هذا الجدار إن دقّ قلبي بما يكفي لذلك؟

مشيت بخطوات متثاقلة، كمن يسعى أن أحدث شقاً يتّسع لساق زهرة واحدة!
وبينما كنت أسمع حفيف كتفي الأيمن على الجدار، خُيّل إليّ أنه صوت جيوش خافتة، أو أن أحداً ما أضاع الطريق، يركض الآن نحوي من جهة اليسار،
معتقداً أن يدي المدماة قطعة فسيفساء، أو أنها نبتة لبلاب تبحث عن النافذة.

توقّفت قليلاً وفكّرت في حيلة أنقذ بها الشخص الراكض نحوي، فأبدلت جهة السير، كي أخفي يدي.
ولكني لم أر إلا ذات الطريق وذات الجدار. هذا هنا، كذاك الذي كان هناك.
الجدار الرمادي ذاته! لم يكن هناك من نافذة أو صورة تطل منها أمّ على قلبها!
إنما خُيّل إليّ أن الجهات مختلفة أو معكوسة، فقط لأن أحداً ما بحث كثيراً في الهندسة الفراغية؛ لمّا حنّ إلى غائب ضاعت ملامحه في خطّ الأفق.

حلمت اليوم أني مشيت في دمشق ومَشتْ إلى جانبي طفلة تأكل المعروك. سرنا وكأن جسدي الملبّد في تعب من يجهل الطريق ويتبع جسدها الصغير، وكأني فيل يركض خلف فراشة

3

مع أني دوماً ما أنسى أرقام الهواتف وتواريخ ميلاد أصدقائي، لكنني لا أنسى وجوه الناس أبداً. فكيف لي أن أنسى وجه لمياء؟ هكذا قررت أن أسمّي تلك المرأة التي حفظت قسمات وجهها في اللاواقع وكأنها شخص حيّ، التقيته في زمن ما.
لكنها كانت في هذا الحلم هي الغائبة وأنا من الحاضرين، طفلاً في التاسعة من عمره في مخيم اليرموك.

قبل أن أدخل بيت الجيران، التفتّ إلى جهة اليمين ولم أجد من بيتنا إلا حطامه. اختفت شجرة النارنج وأواني المربى فوق السطح. اختفت أغاني ريم بنّا، رحل صوتها من تحت أكمام الأشجار على جانبي الشارع الرئيسي الذي امتلأ فجأة بالقطط الميتة.
اختفى أبناء الجيران والطباشير وصارت رائحة العجلات المحروقة تشوّش ذاكرة الشمّ لدي.
هل للرائحة شكل؟ أجل... آلاف من الصور... قلت: يا لبؤسي... كيف نسيت في الحلم رائحة فرن الخبز أمام بيتنا؟

دخلت بيت الجيران من الباب المفتوح على مصراعيه وعبرت الممر بصمت، منزلقاً من بين أكتاف الواقفين حتى وصلت غرفة نوم رحبة ومشمسة من كل الجهات. هناك، كان جسدها مطوياً، مثله كمثل الشرشف الأبيض على حافة السرير. عيناها مفتوحتان كما لو أنها لم ترغب إلا في الاستمتاع بلون البرتقال الموضوع بعناية في سلّة الخيزران، فوق منضدة السرير. نظرت إلى خدّيها وشعرت بالغبطة أني وحدي من اكتشف سرّ لونيهما، وأني وحدي من عرف آخر شيء نظرت إليه عيناها. أخرجوني والأطفال من غرفتها وأخذونا إلى المطبخ، وأخذوا جسدها بعيداً إلى حيث لا أعرف. وعندما جئت إلى المطبخ في مساء اليوم التالي، كان الجميع جالسين حول طاولة كبيرة، ولما انتهوا من طعام العشاء، مدّ أحدهم يده إلى سلّة البرتقال ووزّع حبّاتها علينا.
ثم بدأ الجميع يأكلون حبّات البرتقال بصمت وأدب. لكنني لم أفعل، لأنني شعرت حينها أننا نأكل من جسد جارتنا الفتيّ.

4

كمنفي أعيش في عالم ميتافيزيقي بين الواقع واللاوعي، يُسمّى "الحلم".
في أحلامي أدرك عمق انفصالي المادي عن كل الأماكن التي أسميتها يوماً "بيتي".
ومثلما تربك أماكني موظّفَ الهجرة الألماني، إذ يقرأ على أوراقي "موطن أصلي: حيفا، مواليد: دمشق"، ثم لا يجد بحوزتي جنسية أي من "الدولتين"، (staatenlos) أي بلا وطن، كذلك تشارك الأماكن بعملية إرباكي، إذ أستيقظ من النوم وأنسى في أي مدينة صرخت أو في أي شارعٍ أضعت من أحببت إلى الأبد.

ومن مفارقات أحلامي الملأى بالأماكن البعيدة، أنها ورغم شوقي لمغادرتها للأبد، تصير وكأنها وسيلتي لأهرب عن واقعٍ أتهرّب من منازلته.
ورغم ذلك كله؛ ثمة شيء واحد في الأحلام يعزّيني، ألا وهو أن أحلامي هذه لم تكن يوماً ما نوستالجيا الحنين للأشياء والشخوص والبيوت، لكنها كانت لي دوماً نوستالجيا إزالة الحدود بين قبل وبعد، بين الأمس واليوم، وبين الداخلي والخارجي في الذات الواحدة، بيني وبين نفسي، والأجمل من ذلك كله أنها كانت نوستالجيا إزالة الحدود بيني وبين الشعر، هذا لأنها دوماً ما تكون عناداً قاسياً ومستمراً في محاولة وصف مشهد كاملٍ بكلمة!
هكذا تعزّيني الكتابة وتخفف من وطأة الكوابيس التي تسرق ساعات عمري، حينما يجعل الشعر الحزنَ آسناً في وجه غرابة المشهد الذي يحوم في رأسي كل ليلة.

قبل أن أدخل بيت الجيران، التفتّ إلى جهة اليمين ولم أجد من بيتنا إلا حطامه. اختفت شجرة النارنج وأواني المربى فوق السطح. اختفت أغاني ريم بنّا، رحل صوتها من تحت أكمام الأشجار على جانبي الشارع الرئيسي الذي امتلأ فجأة بالقطط الميتة

5

 أغفو على نوافذ الباصات أو على صوت مذيع أخبار الثامنة، لكن حين أسلّم جسدي للسرير آخر الليل، يأتي النوم ويوقظني من غفوتي، حاملاً أحلاماً تطفو كسرب حشرات سوداء معلّقة في صالة متحف فارهة.

النوم متحف الذاكرة والصور ذئاب، فابحث عن جسد يضلّل الزائر الفظّ
ولا تبحث عن المسدّس إذا صرخت وأنت تنهض من نومك قبل المنبه.

أما في الصباح؛ هو هواء الصباح على فمك الجاف، وأنت تمشي بين أشجار التنوب الميتة.
هو الأرق القاتل مزروعاً في عظم قدميك، ككلّ طرقات أمس، هو جلدك الشاحب مشدوداً تحت السّتر الصوفية، ونفسك الضبابي في البرد، يدفعك خلفه ويغادرك.

6

تذكّرني الأحلام بكمّ المجلات برتقالية اللون، التي كانت تملؤ غرفة الضيوف في بيتنا القديم، فأتذكر أشياء لم أفكر بها يوماً، وأعيشها من جديد.

مثلًا: أتذكرّ أبي؛ فأعرفه في الحلم أكثر. لكأنني بذلك أكمل صياغة مشهدٍ مُقطّعٍ من صورته في حياتي.

"شؤون فلسطينية هي من قتلت سمير"، هكذا كانت تفسّر جدتي رحيله المبكر، بعد أن احتلّت أعداد المجلة رفوف الفاترينا في غرفة الضيوف، ولم تترك مكاناً لصحون "روميو وجوليت".

هي كانت تحب أن تروي قصص الفدائيين ولا ترضى بالموت العادي، لكنّها كانت تتنازل عن رأيها قليلاً، موضّحة أن ما وراء اغتيال رفيق الحريري آنذاك - وإن كان مجهولاً بالنسبة لها- هو ما زاد حزن والدي وهتك فؤاده المثقل بفوضى الحياة الظالمة.

ثم تتناسى قصة الحريري، لتتذكّر ابنها "سعيد" الذي اختفى في لبنان، ليظهر اسمه بين أسماء الشهداء في إحدى صفحات الجريدة التي أخفاها والدي عنها. 

في جميع الأحوال، كانت جدتي تشبّه سمير أيضاً "بالشهيد". 

ربما قاتل والدي في الجيش، هنا وهناك وقرأ جميع أعداد مجلة "شؤون فلسطينية" منذ أولى إصداراتها. 

لكنه لم يكن فدائياً.
لقد كان حزيناً، وكان يحلم كثيراً فقط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard