شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"درنة" الليبية... سنوات النيران من القذافي إلى "السرب"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 22 فبراير 202101:24 م

أعلنت شركة الإنتاج المصرية Synergy Films  المملوكة للمخابرات المصرية عن إعلان ترويجي لفيلم "السرب" المستوحاة أحداثه من قصة حقيقية للغارات التي شنتها القوات الجوية المصرية  في شباط/فبراير 2015 على أهداف تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا (داعش) رداً على نشر التنظيم فيديو يُظهر عملية إعدام 21 قبطياً مصرياً في ليبيا.

أثار الإعلان ردود أفعال متباينة على صفحات التواصل الاجتماعي الليبية.

وبين مؤيد ومعارض، فخور وساخر، تاهت أسماء الضحايا وتوارت أحزان ذويهم في معركة جديدة وُظفوا فيها دون اختيار.

لماذا الآن

يأتي إنتاج الفيلم في إطار توجه عام مصري بتقدم فيض من الأعمال الدرامية، التي تتبنى وجهة نظر النظام صوب ملفات الإرهاب بالأساس، من خلال التسويق لمنجزات الجيش والشرطة في ذلك المجال، وهي الموجه من الأعمال التي شملت أفلاماً عدة مثل الاختيار، كرموز، الممر، ومؤخراً السرب.

أحدث الفيلم انقسامًا واضحاً بين المغردين الليبيين. فمنهم من كذّب جزءاً من الرواية التي على أساسها كُتب الفيلم، مشيراً الى يد الجيش المصري بحسب وصفه ليست خالية من دماء ضحايا أبرياء، إذ أسفرت الضربة الجوية المصرية عن مقتل مجموعة من المدنيين، وقد استندوا في ذلك إلى تقرير هيومن رايتس ووتش، الذي رصد سبع وفيات مدنية، فضلاً عن إصابة 20 مدنياً على الأقل، جراء تلك الضربة.

مع اندلاع ثورة فبراير، بدا أن التربة مهيأة لظهور التشكيلات المسلحة داخل مدينة درنة. وهو ما حدث وغرقت المدينة في بحر من التشكيلات المتناحرة، ولعل أبرزها وأكثرها تأثيراً كتيبة شهداء أبو سليم، التي أسسها سالم ديربي أحد الأعضاء السابقين في الجماعة الليبية المقاتلة، والتي اشتهرت بسبب مشاركتها في الحرب الأهلية الأولى ضد نظام القذافي

وهي السردية التي اشتبك معها اليوتيوبر الإسلامي / عبدالله الشريف ليقدم حلقة من برنامجه مبينة على شهادة الحقوقي الليبي جوهر علي، وهي الشهادة التي شكك فيها مغردون آخرون ووجهوا اتهامات لجوهر نفسه بأنه كان أحد أهم الأذرع الإعلامية للتنظيمات المتطرفة في درنة، ونشروا صوراً له مع أعضاء من التنظيم أثناء إحدى المذابح.

على جانب آخر، استند الفريق المؤيد من المغردين الليبيين لفيلم السرب، الى رواية الفريق صقر الجروشي، رئيس أركان القوات الجوية التابعة للبرلمان الليبي بطبرق، الذي أكد في مقابلة تلفزيونية أن الغارات الجوية المصرية على درنة استهدفت مقارّ تدريب وأماكن اسلحة لداعش، مشيراً إلى أن الحصيلة هي بين 40 و50 قتيلاً من أعضاء التنظيم، دون ذكر وجود ضحايا من المدنيين. ولم يفت أعضاء ذلك الفريق أن يوجهوا أصابع الاتهام صوب التنظيمات المسلحة التي ارتكبت مذابح في درنة

درنة قصة تستحق أن تروى

في خضم سعي الأنظمة المختلفة لترويج روايتها وتثبيت مصالحها في ليبيا، وما صحبه من تناحر بين المغردين المنتمين لكل فصيل، تظل القصه الأهم منسية: قصة "درنة" ذاتها. 

بدأت علاقة درنة بالتنظيمات المسلحة في منتصف عام 1995، حين عادت إليها مجموعة من المقاتلين الليبيين الذين شاركوا في الحرب السوفياتية بأفغانستان، ليعلنوا رسمياً عن تأسيس الجماعة الليبية المقاتلة، والتي تسعى الى  إسقاط نظام العقيد معمر القذافي.

وهي الجماعة التي قامت بتنفيذ مجموعة من العمليات المسلحة على مواقع أمنية عدة، فكان الرد مباشراً من نظام العقيد أن وجّه ضربات جوية وهجمات أرضية وحملات اعتقال جماعية داخل المدينة.

في كتابه "السلفية في المغرب العربي: السياسة والتقوى والتشدد" يقول فريدريك ويهري، الباحث في شؤون الشرق الأوسط وليبيا، إن موجة الاعتقالات والعقاب الجماعي التي شهدتها درنة في تسعينيات القرن الماضي، من قمع وقطع المياه والكهرباء وهدم المنازل، والمذبحة التي راح ضحيتها أكثر من ألف سجين في أبو سليم بطرابلس 1996 سوف تساهم لاحقا في تطرف الجيل الثاني من الجهاديين. وهو ما حدث بالفعل. 

اندلاع الثورة وتناحر التشكيلات المسلحة

مع اندلاع ثورة فبراير، بدا أن التربة مهيأة لظهور التشكيلات المسلحة داخل مدينة درنة. وهو ما حدث وغرقت المدينة في بحر من التشكيلات المتناحرة، ولعل أبرزها وأكثرها تأثيراً كتيبة شهداء أبو سليم، التي أسسها سالم ديربي أحد الأعضاء السابقين في الجماعة الليبية المقاتلة، والتي اشتهرت بسبب مشاركتها في الحرب الأهلية الأولى ضد نظام القذافي. 

وبعد الثورة فرضت كتيبة شهداء أبو سليم سيطرتها على أجزاء واسعة من درنة، إلا أنه في سنة 2014، نجحت كتائب الدولة الإسلامية (داعش) في انتزاع تلك السيطرة منها. وذلك بعد اشتباكات عنيفة بينهما للاستحواذ على السلطة والموارد بالمدينة، وقد انتهت تلك الاشتباكات بمقتل سالم ديربي قائد كتيبة شهداء أبو سليم الذي فشل في الحصول على لجوء سياسي إلى تركيا.

أحدث الفيلم انقسامًا واضحاً بين المغردين الليبيين. فمنهم من كذّب جزءاً من الرواية التي على أساسها كُتب الفيلم، مشيراً الى يد الجيش المصري بحسب وصفه ليست خالية من دماء ضحايا أبرياء، إذ أسفرت الضربة الجوية المصرية عن مقتل مجموعة من المدنيين

لكن "كتيبة أبو سليم" و "تنظيم داعش" لم يكونا وحدهما بالمدينه، فقد دخلت على الخط سريعاً "كتيبة البتار" التي شارك مقاتلوها مع المعارضة السورية في ثورتهم ضد بشار الاسد. وكانوا الوجهة الرئيسية للمقاتلين الليبيين في سوريا، قبل ان يعلنوا في منتصف عام 2013 مبايعتهم لتنظيم داعش داخل الأراضي السورية.

لكن عام 2014 أي بعد عام من مبايعتم لداعش سوريا، قرر بعض مقاتلي كتيبة البتار الانفصال والعودة لمدينة درنة، وهناك قاموا بتشكيل تنظيم جديد باسم مجلس شورى شباب الإسلام والتي أعلن هو الآخر عن بيعته لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وبذلك دانت السيطرة على المدينة الى داعش خصوصاً بعدما انضمت لهم مجموعة أفراد منشقين عن كتائبهم, مثل بعض المنتسبين إلى كتيبة أنصار الشريعة، فرع درنة، وغيرهم من سائر الفصائل.

الاغتيالات والاعدامات لا تتوقف في درنة

أحد مسؤولي الاتحاد الأوروبي والذي اشتبك مع الملف الليبي تحدث إلى رصيف22 ( شريطة عدم ذكر اسمه) عن الأوضاع في درنة قائلاً: "الحياة في درنة كانت شبه مستحيل، لا يمكن تخيل كم المعاناة التي عاناها قاطنوها، تخيل ان تخرج من بيتك كل يوم وانت لا تعلم إن كنت ستعود لاسرتك أم لا، فإنك إن نجوت من ان تفقد حياتك جراء تبادل لإطلاق النار بين كتائب متقاتلة، قد تفقدها لان احدهم اوشى بك انك متعاون مع فصيل ضد الآخر. الحياه كانت سلسلة من الدم والذعر في درنة".

هذا وقد شهدت مدينة درنة مجموعة من الاغتيالات والإعدامات العلنية التي تبناها مجلس شورى شباب الإسلام، ففي تقرير نشرته هيومن رايتس وتش في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 رصدت فيه مجموعة من الاعدامات العلنية التي كان من بينها إعدام مصري في 27 يوليو/تموز من ذلك العام.

وطالت أيضاً عمليات الاغتيال مجموعة من السياسيين وأفراد من السلك القضائي، مثل: فريحة البركاوي عضو تحالف القوى الوطنية، ونجيب هويدي رئيس محكمة الاستئناف، وعبدالعزيز الحصادي النائب العام السابق، والقاضي محمد المنصوري وغيرهم من الذين فقدوا حياتهم اعدامًا او اغتيالاً دون مبررات مفهومة في كثير من الأحيان.

الغارات الجوية المصرية

وكأن ما يعانيه اهالي درنة من دم ودمار لا يكفي، ليُجلب إليها دمار من الخارج على يد القوات الجويه المصرية، التي أتت للانتقام من تنظيم داعش لاستهدافه الاقباط المصريين بالمدينة.

ففي 27 كانون الأول/ديسمبر 2014 تعرّضت مجموعة من الاقباط المصريين في سرت للخطف من قبل المجموعات التي تنتسب لتنظيم الدولة الإسلامية، وفي بداية عام 2015 حصلت عملية اختطاف ثانية لمجموعة أخرى من الأقباط، ليُعرضوا بعد ذلك في 12 شباط/فبراير على مجلة "دابق" التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، زاعمين أن سبب الخطف كان ردا على "اختطاف الكنيسة القبطية بمصر لعدد من النساء المسلمات". وفي 15 شباط/فبراير نشر التنظيم فيديو مدته خمس دقائق يعرض فيه عملية إعدام 21 قبطياً مصرياً قطعاً للرأس على سواحل مدينة سرت الليبية.

رداً على عملية الإعدام، فجر 16 شباط/فبراير ذلك العام، شنت القوات الجوية المصرية غارات على مواقع في درنة تقول إنها اماكن تدريب لداعش وتخزين أسلحة لها، وإن الحصيلة كانت مقتل نحو 50 من أفراد التنظيم كما صُرّح على لسان الفريق صقر الجروشي، رئيس أركان القوات الجوية التابعة  للبرلمان الليبي بطبرق.

في المقابل، نُشرت مجموعة من الفيديوهات والصور على مواقع التواصل الاجتماعي تُظهر تعرض مجموعة من المواقع المدنية للقصف مما سبب في مقتل وجرح عدد منهم, ففي تقرير نشرته هيومن رايتس ووتش في 24 شباط/فبراير 2015 تُؤكّد فيه توثيقها مقتل سبعة مدنيين جراء الغارات الجوية التي شنتها القوات الجوية المصرية على مدينة درنة.

رصيف22 تحدثت إلى سند العوام، الطالب الجامعي المقيم بمدينة درنة، والذي استهل حديثه عن مدينته ومعاناة اهلها قائلاً: "منذ سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على المدينة وربما من قبل ذلك بقليل ودرنة تشهد حقبة مأسوية وغير إنسانية، من حيث انعدام الأمن وانتشار الاغتيالات، بالتزامن مع تردي الحالة المعيشية بصفة عامة، والتي أحالت حياة قاطنيها جحيماً".

وعن ليلة القصف المصري يقول العوامي متذكراً: "في تلك الليلة  سمعنا أصوات تحليق الطائرات في السماء، وهو ما بدا لنا غريباً أن تحلق الطائرات الحربية ليلًا، وسرعان ما بدأ صوت دوي الانفجارات في الظهور، وقد قُصف منزل عمتى في تلك الليلة وتوفي نجلها أسامة اشتيوي (ورد اسمه في تقرير هيومن رايتس ووتش)". يختتم العوامي حديثه مؤكداً أن ابن عمه لم يكن عضواً في أي تنظيم مسلح ولم يحمل سلاحاً في حياته.

"منذ سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على المدينة وربما من قبل ذلك بقليل ودرنة تشهد حقبة مأسوية وغير إنسانية، من حيث انعدام الأمن وانتشار الاغتيالات، بالتزامن مع تردي الحالة المعيشية بصفة عامة، والتي أحالت حياة قاطنيها جحيماً"

تدمير المدينة

في 20 شباط/فبراير 2015 تبنى تنظيم الدولة الإسلامية ولاية برقة التفجيرات الثلاثة التي حصلت في مدينة القبة غرب درنة وراح ضحيتها ما يقارب 40 شخصاً وأُصاب فيها أكثر من 75. استهدفت التفجيرات مديرية أمن القبة، ومحطة توزيع للوقود، ومنزل رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، وفق ما أفادت به وكالة "فرانس برس".  

معللا الهجمات، قال التنظيم في بيانه إن الهجمات كانت بسبب الضربات التي شنتها القوات الجوية المصرية على مدينة درنة.

لاحقاً، دخلت مدينة درنة في سلسلة من الحروب ستكون السبب في تدمير المدينة وتغيير هيكليتها الاجتماعية. 

ففي منتصف عام 2015 بلغت حدة الاستقطاب بين المليشيات المسيطرة على المدينة أقصاها، فبعد أن قتل تنظيم الدولة الإسلامية "ناصر العكر" أحد قادة مجلس شورى مجاهدي درنة التحالف العسكري الذي شكّله أعضاء سابقون في الجماعة الليبية المقاتلة من ضمنهم كتيبة شهداء أبو سليم، اعتبر إشارة الانطلاق لحرب ستستمر أشهراً داخل المدينة.

وفي نيسان/أبريل 2016 طُرد تنظيم الدولة من المدينة من قبل تحالف مجلس شورى مجاهدي درنة بعد خسائر كبيرة في الأرواح، وبعد تلغيم الكثير من منازل المدينة بالمتفجرات، تبعها فرض الجيش الوطني الليبي التابع لبرلمان طبرق حصاراً كاملاً على درنة في آب/أغسطس 2016 بُغية طرد تحالف مجلس شورى مجاهدي درنة منها. 

وفي 30 أكتوبر/تشرين الأول 2017 شنّت طائرات مجهولة الهوية ضربات جوية على مدينة درنة، مما أسفر عن مقتل ما يقارب 16 شخصاً، من بينهم 12 طفلاً، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها، ولم تحقق السلطات الليبية في الحادثة. 

وبعد سلسلة من المعارك استمرت لأعوام، انتصر الجيش الوطني الليبي على تحالف مجلس شورى مجاهدي درنة. لكن التكلفة كانت باهظة على المدينة، فنصفها قد دُمّر، وشهدت نزوحاً قسرياً لكثير من العائلات منعها الجيش الوطني الليبي من العودة الى مدينتها بدعوى دعمها للارهاب.

درنة المدينة البائسة التي باتت محاصرة داخل دوامة من الجلادين, بين انتهاكات ناجمة من صراعات فكرية، وبين أطراف دولية تُصَفّي حساباتها عليها. لم يُنصف التاريخ المدينة، واكتفى الحاضر بإقصائها، فهل خصّص المستقبل مكاناً لها؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard