شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"الغزالة والحسناء"... سيرة ليبية لتمثال ونساء وشعب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 17 فبراير 202104:34 م

كانون الأول/ ديسمبر 2008، كنتُ في السابعة عشرة من عمري، وجدتني في ميدان الغزالة بالكورنيش القديم لمدينة طرابلس، أول مرة أقف أمام تمثال لامرأة في طريق عام، بملامح ليبية بالقرينات تنسدل على كتفها، تعانق بيدها اليمنى غزالاً شامخاً، رافعاً رأسه للسماء ناظراً نحو الجنوب، وممسكة بالأخرى جرّة مياه، تستحمُ داخل نافورة، فتنزل قطرات المياه على صدرها العاري، تحيط بها أشجار نخيل باسقة، كان مشهد التمثال محرجاً لفتى بدأت رغباته تتفق.

لا أذكر إن كنتُ قد أدرتُ نظري عنها خوفاً من الشهوة أو أطلتُ فيها النظر، لكن ما زلتُ أذكر أنها كانت مفاجأة.

 كما أحب مبدعها أن يناديها بنبع الحياة.

تمثال الغزالة والحسناء أو كما أحب مبدعها أن يناديها بنبع الحياة، رائعة أنجيولو فانيتي شيّد بطرابلس عام 1932.

فانيتّي كان رسّاماً، ونحّاتاً، وجندياً إيطالياً، وأباً لمجموعة من التماثيل حول العالم، ورغم تنوّع ما رسمه ونحته من حيوانات وشخصيات سياسية وتاريخية، ونساء ورجال، فإنّ "الغزالة والحسناء" أقواها، ليس فقط في قيمتها الفنيّة، بل في رمزيّتها كذلك. هناك من ينقل عن فانيتّي مقولة يمدح فيها ليبيا قائلاً: "أحلى ما في هذا البلد، الغزال والمرأة".

الرمزية Symbolism هي تحويل شيء (ليس من الضرورة أن يحمل معنى في ذاته) إلى معانٍ عديدة، تتغير حسب علاقته مع الثقافة المحيطة به، وبهذا يكون لبس "خاتم الخطبة" في مشهد بفيلم يعني الحب والارتباط، ونزع نفس الخاتم في نهاية الفلم دون أن يفصح البطل عن أية نية يعني أمراً آخر تماماً.

"الغزالة والحسناء"... سيرة ليبية لتمثال ونساء وشعب

ميدان الغزالة أو نافورة الغزالة والحسناء في العاصمة الليبية طرابلس

 التحولات الأولى للتمثال البرونزي:

لم يكن اختيار فانيتّي لشكل التمثال وعناصره مجرد تجلٍّ عشوائي لفنان ما، كان مقصوداً وجود الغزال وجرّة المياه كما كان مقصوداً وجود المرأة العارية في الكورنيش القديم للمدينة، حيث تلتقي شوارعها، ومساربها، المؤدية لشرقها وغربها وجنوبها، بالبحر.

كانت غالبية نساء طرابلس الليبيات آنذاك يعشن حياتهن داخل جدران المنازل، وإذا احتجن للخروج إلى السوق، يضعن على أنفسهن شرشفاً أبيض بخامة لا تظهر شيئاً من أجسادهن، كان يُدعى "الفرّاشية"؛ بهذا، كان وجود هذا التمثال في البلاد يعد صدمة لليبيين والليبيات، في فترة كان يحرّم فيها المفتي الليبي ذهاب الليبيين إلى المدارس الإيطالية.

ولكن فانيتّي لم يصمم التمثال للسكان المحليين رغم احتفائه بالثقافة المحلية، كان وجود هؤلاء السكان في عهد الإدارة الفاشستية شراً لا بد منه، ولهذا لم تلتفت حكوماته لهم، كانت تسعى لبناء رقعة إيطالية بحتة في الشاطئ الرابع، رقعة تشبه روما حتى يشعر الإيطاليون أنّهم في وطنهم، إذ كانوا كذلك بالنسبة للفاشست. رغم ذلك، فأخذ المرأة الملامح الليبية كان يبدو كوعد لليبيا بالحرية، وبالحياة، وهذا ما حدث، مع مرور الوقت صارت المرأة الليبية تكتسب حقوقاً جديدة عليها، حقوقاً كان التمثال شاهداً عليها.

تماثيل أخرى زُرِعت في المدينة في ثلاثينيات القرن الماضي لفنانين آخرين ولفانيتي، تمثال لأسديْن يتعاركان نحَته فانّيتي، أميطت أثار الزمان على قوس ماركوس أوريليوس ليعود قوساً بعد أن كان مخزناً وحانة ودكانة ومقهى، وجُلِب تمثال للإمبراطور الليبي الروماني سبتيموس سيفاروس، ووضع أمام مدخل سوق المشير، وانتشرت تماثيل أخرى في بقية أرجاء البلاد، أحدها عبارة عن نافورة من النقوش الرخامية، تؤرخ لملحمة المناضل الإيطالي جوزّيبي غاريبالدي في قرية غاريبالدي بمصراتة (أو ما كان يسميها الليبيون الدافنية)، النافورة الرخامية أيضاً كانت من إبداع فانّيتي.

ومع مرور الوقت خفّت صدمة المجتمع كما خفت صدمتي اتجاهها في أول مرة أراها فيها، جعل موقع التمثال المميز المجتمع المحيط يتفاعل معها ويرتبط بها، فمنذ الأربعينيات صارت نافورة الغزالة مزاراً في الأعياد والعُطل تلتقط فيها العائلة صورها التذكارية، لتتذكر طرابلس، مدينة المعالم الرومانية.

"الغزالة والحسناء"... سيرة ليبية لتمثال ونساء وشعب

نافورة غاريبالدي قبل أن تحذف من التاريخ الليبي

في الخمسينيات، شهد أحد تماثيل فانيتّي في العالم حادثة لم تتناقلها الألسن في ليبيا، في كوبا نُزِع أول التماثيل نحته للرئيس الكوبي ألفيردو زاياس من قبل الثوار الكوبيين. بعد ذلك بسنوات شهدت ليبيا انقلاب الفاتح من سبتمبر، قرر العقيد الشاب معمر القذافي الثورة على أشكال الاستعمار، فوقع عمل فني آخر لفانيتّي للفصل عن مكانه، نزعت نافورة جوزّيبي غاريبالدي وحُفظت في متحف بلبدة، وأعيد بعد ذلك تمثال سبتيموس سيفاروس إلى "حيث مكانه الأصلي" كما أخبر العقيد، لم يلتفت العقيد للحسناء وغزالها، ربما لنزعته التحررية تجاه المرأة، إن صحّ هذا التعبير.

تماثيل أخرى لفانيتي دُمرت في أنحاء العالم، واحد للرئيس الأمريكي روزفلت في بنما، ثمانينيات القرن الماضي، وأخيراً تمثال للذئبة الرومانية أطيح به عام 2010 بتشيلي.

في النصف الثاني من الخمسينيات أيضاً أغلقت بيوت "الدعارة" المقننة في عهد المملكة الليبية في شارع الكِندي، وجرمت "الدعارة" وفتح عام 1962 أول السجون النسائية في البلاد ليتلقف "المجرمات"، هذا قبل أن يصبح حد الزنا عام 1973 حداً إسلامياً بعدما كان مصير العقوبات الجنسية في عهد المملكة الحبس فترة قصيرة، وجدت عاملات الجنس ميدان الغزالة ملاذاً لهنّ يبحثن فيه عن زبائنهن، كما وجد العشاق في حديقته ملاذاً بعيداً عن المجتمع. التحول الثاني لرمزية التمثال وميدانه.

كنتُ في فترة ما في حياتي بعد حادثة " اختطاف الغزالة" عام 2014 أجلس في مقهى للأرقيلة صحبة أصدقاء الدراسة، كان المقهى يدعى مقهى الخضراء، وهو أحد المقاهي الملاصقة لميدان الغزالة، الذي أصبح حديقة عامة شبه خالية من الرواد، للمقهى تاريخ ملاصق للميدان ولرمزية الغزالة ذاتها، كان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ملاذاً للمثقفين والفنانين والكتّاب الليبيين، وبهذا تمكنت الغزالة أن تكون مزار الثقافة في ليبيا، وأن يُربط اسمها بثقافة طرابلس، بأدبها وفنونها، وهو التحوّل الثالث لرمزية التمثال.

كان منظر تمثال حسناء ليبية عارية صادماً، وهي تستحم بمياه النافورة، رافعة رأسها، جاذبة بائعات الهوى والعشاق حولها، بعيداً عن الناس... حكاية تحولات المرأة والشعب الليبي هنا

بقيت الغزالة جسدياً على ما هي عليه، إلا أنّ لونها بدأ بالشحوب مع عوامل التعرية، تحول بعض جسدها من البرونزي إلى الإخضرار، تحوّلت أحوال المرأة الليبية وأحوال التمثال.

ومن أهم ما حدث هو دخولها الإجباري للتدريب العسكري في المدارس صحبة الرجال واعتبارها شريكاً رسمياً في الثورة، دعا "القائد" لتشكيل حركات نسوية ثورية تبشر بالجماهيرية، دعوات القذافي لها أن تتحرر من الرجعية، أصبحت المرأة الليبية أكثر من ذي قبل في كل مكان، وبدأت تتراجع موضة الفراشية التي صار أغلب جمهورها من العجائز.

صارت المرأة الليبية شاحبة بشعارات عشوائية تلقى عليها.

صارت المرأة الليبية شاحبة بشعارات عشوائية تلقى عليها، بدون نيلها حقها الكامل الذي يساويها بالرجل، لم تُلغَ الكثير من القوانين المجحفة في حقها، يمكن القول إنّ جسد المرأة الليبية بدأت تنتشر فيه عوامل التعرية والصدأ، كالتمثال. التحول الرابع لرمزية التمثال.

مع مرور الوقت، قررت حكومة "الشعب" للعقيد في التسعينيات أن تبعد طرابلس عن بحرها، لم يعد الكورنيش القديم كورنيشاً، استحدثت طريق شاطئية عريضة وكورنيش واسع جديد، في نهاية التسعينيات أيضاً طرأ أول التحولات الفيزيائية على التمثال، دمرت نافورته القديمة التي كانت قريبة من الناس في تصميمها البسيط، حيث بإمكانهم أن يلمسوا الحسناء والغزالة ويجلسوا على النافورة، وُضع التمثال في نافورة زرقاء جديدة أكبر، نافورة جعلته يرتفع عالياً بعيداً عن الناس، مسوّر بالحديد الحاد، كانت النافورة الجديدة وطريق الشط بداية لعزل التمثال عن المدينة، لم يعد المكان متنزهاً، أصبح مجرد معلم يمر به الناس في سياراتهم، محميين من الالتحام والتفاعل معه. التحول الخامس لرمزية التمثال.

ورغم أنّ الدولة لم تلمس النافورة، ابتدعت طريقة حاولت فيها إخفاء نهدي الحسناء، أعادت تصميم نافورة المياه والطريقة التي تخرج بها المياه، أصبحت المياه الكثيفة تنتشر كحجاب رقيق يعتمد على ضوء الشمس الذي تمنحه للعاصمة طيلة أشهر السنة، المياه القديمة كانت تغسل التمثال وتحتفي بعريه. وبهذا لم تصبح عملية النظر للتمثال سهلة، كعملية النظر للمرأة الليبية التي تحولت من "الحرية المزيفة" التي خلقها الأخ القائد وعادت إلى الحجاب. التحول السادس لرمزية التمثال.

"الغزالة والحسناء"... سيرة ليبية لتمثال ونساء وشعب

منحوتة غاربيدالي التي نزعها القذافي من الدافنية

التحولات الأخيرة لثورة وشعب

عام 2012، بدأت جماعات من "الثوار" تستهدف مجموعة كبيرة من أضرحة المرابطين، معالم وصروح للصوفية في ليبيا، طالت الهجمات أكبر الصروح الصوفية، وصلت لسبعين مزاراً.

الطائفة الوهابية، التي طاردها القذافي في تسعينيات القرن الماضي، بدأت تعلن وجودها وطموحاتها على العلن، بدأت حملات التحريض على التماثيل، ضد تمثال الغزالة بالتحديد. تمثال جمع كبيرتيْن: العُري وكونه صنماً يجب هدمه.

يمكن البحث بسهولة عن التمثال في الصفحات الليبية والنظر في تعليقات بعض الليبيين في تلك الفترة، كان هناك من يشاركهم نفس الرؤية للتمثال. وفي 24 شباط/فبراير، بدأت أولى محاولات إخفاء التمثال عن الأعين، لف التمثال بروب أزرق أخفاه لأيام، اتهم الوهابيون بمحاولاتهم تغطية التمثال، وعلا صوت المناصرين لهم بعد نشر صور للتمثال وهو داخل روبه الأزرق. التحول السابع لرمزية التمثال.

تزامنت حملات التحريض الوهابية ضد تمثال الحسناء العارية التي تستحم بمياه النافورة مع مضايقات متزايدة للمرأة الليبية، خطف واغتصاب، ورمي أجسادهن في الشوارع

في الفترة ذاتها، أصبحت المرأة الليبية تتعرض لمضايقات متزايدة، عمليات خطف واغتصاب وقتل، ترمى أجسادهن في الشوارع، حملات ودعوات لـ"التنقيب" وانتشار للنقاب الذي كان يحمل العقل الجمعي الليبي في عهد القذافي اتجاهه توجس، وبعد نشوء الحرب الأهلية الثانية في عام 2014، وفي صيف ذلك العام بالتحديد تلقى التمثال أولى الضربات الموجعة، اخترقت قذيفة آر بي جي بطنه، خلقت فجوة كبيرة فيه، كانت تلك الضربة إعلاناً جديداً لطرابلس ولنسائها.

بعد ذلك، انتشرت عمليات الاغتيال المتعمد لناشطات وحقوقيات في البلاد، ولم يعد يحق للمرأة أن ترفع صوتها في العلن، اغتيلت نساء دافعن عن الحرية وحقوق الإنسان في كل شبر من ليبيا. كان ذلك التحول الثامن لرمزية التمثال.

في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، استيقظت على خبر "اختطاف" تمثال الغزالة والحسناء، كانت وسائل التواصل الاجتماعي تعجّ بصور للنافورة الزرقاء بدون تمثال المرأة التي احتلت المكان لأكثر من ثمانين عاماً، عم حزن شديد في طرابلس، لم تعد المدينة كما هي، لم تعد نساؤها كما كنّ، أصبحت قاسية. عشتُ وغيري أيام رعب خفي يلف بنا في المدينة، سيطرت على المدينة الجماعات الدينية، ولم يعد ممكناً العيش فيها. ظلت النافورة بما تبقى من الحجارة المدمرة على أطرافها فارغة وقبيحة، تذكر كل من يمر بها أنّ البلاد ليست على ما يرام. التحول التاسع لرمزية التمثال، الاختفاء، اختفاء الحياة وأحلام الحرية.

تحول التمثال لمجرد مخيال شعبي.

تحول التمثال لمجرد مخيال شعبي يكتب عنه الأدباء ويرسمه الفنانون ويتحدث عنه أبناء المدينة بحسرة، وحل شحوب غريب بميدان الغزالة الذي غزته القمامة وتوحشت أشجاره، وابتعد عنه العشاق، والمثقفون وبائعات الجنس، استمر هذا الأمر، حتى كانون الأول/ ديسمبر 2020، عندما أحاطت بلدية المدينة النافورة بجدار مؤقت، غزت بعض الناس موجة من الأمل، تساءلوا هل هناك عودة مرتقبة للتمثال.

وفي النهاية، أزاحت الحكومة النقاب عن عملها الفني، لتخرج النافورة من جديد، نظيفة بإضاءات زرقاء وحمراء، وأشجار نخيل صغيرة، وصحن من الماء فارغ، لا غزالة فيه، ولا جرة، ولا امرأة عارية.

كان الأمل زائفاً، ليعلن التحول العاشر والأخير لرمزية التمثال (الذي كان من المفترض أن يكون عمره هذه السنة 89 عاماً).

حياة جديدة، على الجميع أن يعتادوها، حياة مزيفة بدون تمثال نبع الحياة، وذلك في شباط/ فبراير 2021.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard