شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
سامي سرحان... حين يكون الظلّ بطلاً سينمائياً

سامي سرحان... حين يكون الظلّ بطلاً سينمائياً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 16 فبراير 202101:57 م

نبحث دائماً عبر فيسبوك عمن فقدناهم من سنواتنا الفائتة؛ عن زميل دراسة، عن معرفة أو حب قديم مات مؤقتاً، لتُحييه ذكريات موقع أزرق للتواصل... هناك!

 في المساحة العليا المخصصة للبحث أوقفت المؤشر، لا لأبحث عن ذكرياتي القديمة، بل لأنقب عن صفحات كوميديا تُعينني على التقاط ما يبشر بحياة أخفّ وأجمل. فيسفر بحثي عن كم كبير من صفحات السخرية والكوميكس، ومن بينها تقفز أمام عيني صفحة بها عدد متابعين قُدّر بمئات الآلاف، أُنشئت فقط للضحك.

لم تكن الصفحة باسم نجوم معروفين، أحياء أو أموات... كانت لرجل ربما لا يعرف اسمه 10 أشخاص خارج عائلته… ألا وهو "جابر الشرقاوي"، الشهير في الواقع باسم الممثل المصري سامي سرحان.

وجه حاد وجاد، ربما تنفر منه إلى أن ينطق، فتنهار المسافة بينك وبينه، كأنك تعرفه من سنوات طويلة.

وجه حاد وجاد، ربما تنفر منه إلى أن ينطق، فتنهار المسافة بينك وبينه، كأنك تعرفه من سنوات طويلة.

صوت أجش خشن، تشعر أنه مدبب من كل ناحية. لو وقفت بقدميك على نبراته لوجدت دماً يسيل من كعبيك. تضحك من فرط ما هو بائس، شديد الجدية. تضحك من ذوبان المسافة بينكما، كأنك متعطش لاكتشاف هذا البطل الذي لا يعرفه أحد.

حسن سير وسلوك لسفاح ظريف

عرف الجمهور اسمه على شاشة السينما، قبل ظهوره بنحو 3 سنوات، تحديداً في فيلم "إحنا التلامذة"، الذي أُنتج عام 1959، إذ جسّد شخصيته شقيقه الممثل المصري الكبير شكري سرحان، وهو فيلم مأخوذ عن قصة حقيقية لـ 3 شباب، كان سامي أحدهم، وقد اشتركوا جميعاً في ارتكاب جريمة قتل بعد اقتحامهم مقهى شهير، وحُكم على سامي بالسجن المؤبد، وأُفرج عنه بعد 10 سنوات لحسن السير والسلوك، بعدما قدّم أخوه شكري، التماساً إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، خلال تكريمه في عيد الفن عن دوره في فيلم ثورة يوليو الأشهر، "رُدّ قلبي".

يقول عالم الأعصاب كريستيان جاريت: "إن الحياة خلف القضبان، إذا طالت مدتها وزادت قسوتها، قد تؤدي إلى تغيير شخصية السجناء على نحو تعيق إعادة إدماجهم في المجتمع بعد إطلاق سراحهم".

وأمام فترة سجن 10 سنوات، كان سامي سرحان مضطراً إلى التأقلم مع عالم ما وراء الأسوار، خاصة أنه بالتأكيد كان حبيس عنابر مخصصة للخطرين الذين أدينوا في جرائم مماثلة لجريمة القتل التي ارتكبها، بحسب نظم السجون.

صوت أجش خشن، تشعر أنه مدبب من كل ناحية. لو وقفت بقدميك على نبراته لوجدت دماً يسيل من كعبيك. تضحك من فرط ما هو بائس، شديد الجدية. تضحك من ذوبان المسافة بينكما، كأنك متعطش لاكتشاف هذا البطل الذي لا يعرفه أحد

ليل وقضبان

تؤثر فترة السجن، طالت أو قصرت، على الإنسان، ليس فقط على أبعاده النفسية بتعريضه لأمراض كالاكتئاب -إذا كان ممن لديهم استعداد لذلك- لكنها تؤثر سلبياً أيضاً عليه عضوياً، بسبب نقص الفيتامينات وقلة التريّض والحركة، وربما هذا ما يُفسر البُنيان الهزيل لسامي سرحان وهو في أواسط عمره، إذ بدت عليه علامات العجز المبكر، في تناقض عجيب مع صوته الذي يزداد عنفواناً كلما تقدم في السن.

هكذا يعوّضه العمر بحنجرة، قُدّر أن تكون طوق نجاته وطوق وداعه.

ربما لو لم يكن صوته هذا لما كان، سامي أمين الحسيني سرحان، ممثلاً حاضراً بقوة في نهاية مسيرته. هذا الصوت، الذي تماهى مع حدة أنف وعينين وفورمة شعر كثيف، جعل للرجل -غير مألوف الملامح- مساحة خاصة في عالم الضحك، خاصة إذا ما تم توظيفه بأداء يتسم بالعدوانية في ظاهره، وبالحسم المثير للفكاهة في باطنه. هذا التناقض بالضبط ما يجعل من المَشاهد التي يظهر فيها مادة سخية للكوميكس، التي عاشت بعد ذهابه إلى عالم آخر.

لو خرج هذا السفاح البلطجي الظريف من أسرة أخرى غير تلك التي وُلد وانتمى إليها، لكان قد التقى نصيباً مختلفاً مما تستحقه موهبته المميزة.

شقيقه الأكبر صلاح سرحان، هو كبيره الذي علمه سحر التمثيل، وقدوته الذي حاول أن يسير على نهجه، وشقيقه الأوسط شكري سرحان، كان بمثابة عُقدته في الشهرة والنجاح والبطولة، لكن النجومية طاردت الرجل في شخصياته المؤداة في نهايات عمله الفني، ليطارد ما تبقى من تراب البطولة، فيتحول إلى صنم صغير من أصنام الكوميديا.

كنت أتخيل دائماً أن هذا الرجل يصلح أن يكون بطلاً فذاً لدراما مصرية طويلة وكثيرة الحلقات.

"آه لو امتد العمر به قليلاً"

كثيراً ما نسمع ونكرر هذه الجملة في أولئك الذين رحلوا صغاراً قبل أن يتركوا أثراً أكبر. كنا نظن أنهم سيصنعون المعجزات لو عاشوا أطول. 

نعم، كنت أتخيل دائماً أن هذا الرجل يصلح أن يكون بطلاً فذاً لدراما مصرية طويلة وكثيرة الحلقات. دراما عن باطن الشارع الواقعي، دراما عن متحدث رسمي باسم السواد الأعظم لهذا الشعب ابن النكتة، لا عن مُتفرنجين وذوي بدل.

 دراما عن "لص حكيم" –جابر الشرقاوي في فيلم "فول الصين العظيم"- ربّى أبناءه بسُمعته الناصعة في عالم السرقة والمخدرات، محاولاً نقل هذه الخبرات العميقة لفهم الحياة في مصر، إلى نسله وامتداده المتمثلين في حفيده محيي (زَلَطة) جابر الشرقاوي، الذي يفشل دائماً في تعلم دروس البلطجة. دراما عن فُتوّة عصري، كلاسيكي الملامح، حداثي الأداء. فتوة لا يعتمد على قوة بنيانه، بل على فنون الصعلكة. دراما بلطجي بحجم وتركيبة وسخرية سامي سرحان. ربما سيكون منهجه في الفتونة قائماً على مليح الاستظراف، وربما استخدم صوته، كما استخدم شمشون قوة شعره، لحسم معارك الحارات والأشقياء، ولعله يُنهي الخناقات بإلقاء جملة مقطوعة النفس مثله، تنم عن حسم شديد للأمور.


يقول محسن سرحان، حفيد سامي، لموقع أخبار اليوم المصري: "كان جدي ابن منطقة شعبية، يعشق أهلها السخرية، عاش لفترة من حياته في منطقة بولاق، وظل يتردد على منطقة السيدة الزينب التي نشأ فيها. حتى بعد شهرته، قعداته كلها كانت من خارج الوسط الفني مع الناس البسيطة، كان ابن بلد... يروح يقعد في المطاعم الشهيرة بالمنطقة زي (بَحّة) و(حبايب السيدة)".

أتته الشهرة متأخرة جداً، وفي مثل هذه المواقف يقولون "أنْ تأتي متأخرة خير من ألا تأتي".

تؤثر فترة السجن، طالت أو قصرت، على الإنسان، ليس فقط على أبعاده النفسية بتعريضه لأمراض كالاكتئاب -إذا كان ممن لديهم استعداد لذلك- لكنها تؤثر سلبياً أيضاً عليه عضوياً، بسبب نقص الفيتامينات وقلة التريّض والحركة، وربما هذا ما يُفسر البُنيان الهزيل لسامي سرحان وهو في أواسط عمره

لكن أحياناً يحزن المشاهد والناقد معاً لظهور طاقة تمثيل في الوقت الضائع من مباراة العمر، ويندمان على أن هذه الطاقة جاءت في هذا التوقيت، لتقدم لهما حسرة بالغة على ما فات من استثمار لموهبته سيئة الحظ. إنها لعنة ولعبة الوقت المناسب والنجاح. معادلة الحسرة والندم.

 لو كان قد ظهر مبكراً لشبعنا منه أكثر... لو اختفى مبكراً ولم يعلقنا بالأمل لكان أفضل وأرحم. جمل كثيرة لا تؤدي إلى شيء سوى إحساس بخسارة من نطمح في بقائه أكثر، مثل سامي سرحان، الذي تحل ذكرى رحيله السادسة عشرة اليوم، بعدما عاش على الأرض 65 عاماً في الظل، وفي أشباه الظل بأدوار ثانوية، أو ثانوية جداً، فرضتْها عليه أيام الحبس الأولى، وأيام الحبس الأخيرة في حياته، عبر أداء شخصيات شريرة جداً، تخصه بقدر ما وغريبة عن خفة دمه بقدر ما أيضاً، لكنها تبقى أدواراً -بفعل المصادفة- صاخبة الكوميديا وأيقونية الخلود من بعده.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard