شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"منيش مبطّل"... الحشيش في تونس بين الفراديس المصطنعة والزنازين الرمادية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأحد 14 فبراير 202110:52 ص

في كتابه "الفراديس المصطنعة"، يخاطب الشاعر الفرنسي شارل بودلير المتسائلين عن نشوة الحشيش/ القنّب الهندي فيقول: "يجب إذن على الناس وعلى الجهلة الذين لديهم فضول التعرف على ملذات استثنائية أن يعرفوا أنهم لن يجدوا في الحشيش أي شيء خارق، أي شيء مطلقاً سوى الطبيعة في صيغتها المضاعفة والمفرطة".

حاول بودلير في كتابه المذكور (ترجمة ناظم بن إبراهيم، دار المتوسط 2018) تدوين تجربته الخاصة مع الحشيش، ملاحظةً ثم ممارسةً، رفقة عدد من المثقفين الفرنسيين في نادي الحشاشين السري، كما حاول سبر أغوار العلاقة بين الحشيش والكتابة الإبداعية.

في مكان آخر، وفي زمن لاحق، لم يغب الحشيش عن طاولة بعض المثقفين من مجموعة "جماعة تحت السور" التونسية، وهي مجموعة مثقفين وفنانين تونسيين اعتادوا الجلوس في مقهى "تحت السّور" العتيق في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كعلي الدوعاجي مع نديمه محمد العريبي. وكذلك كان حاضراً في أكواخ العاملين في مناجم الفسفاط كما روى البشير خريف في روايته "الدقلة في عراجينها".

منذ اندلاع الثورة التونسية، لم تتوقف الاحتجاجات والمطالبات بإلغاء العقوبة السجنية على تدخين مادة القنّب الهندي المعروفة محلياً بـ"الزطلة". تخبو أحياناً إلا إنها تظهر من جديد، مع كل إيداع في السجن لأحد مغني الراب أو أحد الوجوه المعروفة في الأوساط الشبابية.



ومؤخراً، أثار الحكم بـ30 سنة سجناً على ثلاثة شباب ضُبطوا وهم بصدد تدخين الحشيش موجة استياء كبيرة بين العديد من الناشطين في المجتمع المدني والفاعلين السياسيين بمَن فيهم رئيس الحكومة هشام المشيشي الذي اعتبر الحكم "مبالغاً فيه".

وبين رافضين ومساندين، تنقسم في كل مرة الساحة السياسية والحقوقية التونسية حول عدد من القضايا المماثلة ثم تدخل النخب في مزايدات ومشاحنات حتى يُفرَّغ الجدل من مضمونه الاجتماعي والحقوقي والإصلاحي، تمهيداً لدفنه، كما جرت العادة، حتى بيان لاحق.

من حرق بضاعة المروّجين إلى سجن المستهلكين

إلى حدود سنة 2000، كان عدد المدانين بتهمة استهلاك مادة مخدّرة حوالي 723 شخصاً. تطور هذا العدد لاحقاً ليبلغ 5744 محكوماً. وحسب وثائق توصّل إليها النائب زياد غناي من وزارة العدل التونسية، بلغ عدد المحكومين 12430 (تقريباً نصف العدد الإجمالي للسجناء)، بين عاميْ 2016 و2020، أدينوا في 9109 قضية بمقتضى القانون 52 المثير للجدل، والخاص باستهلاك وترويج مادة مخدرة.

إلى حدود ساعة كتابة هذه الأسطر، يوجد 324 مستهلكاً و1919 مروجاً (من جملة 4840 محكوماً حسب نفس الوثائق)، بصدد قضاء عقوبتهم في السجون التونسية التي تعاني من اكتظاظ خانق.

وحسب دراسة لخلية الإجرام التابعة لمركز الدراسات التشريعية والقضائية في تونس، تُعتبر مادة الزطلة/ الحشيش المادة المفضلة في السوق التونسية بنسبة 92%، تليها المواد المخدرة المستنشقة والمحقونة. وحسب ذات الدراسة، يمثّل الشباب، ما دون الـ25 سنة، أغلبية المستهلكين.

هذا ما دفع عدداً من الناشطين والجمعيات والمنظمات إلى دق ناقوس الخطر، خصوصاً بعد تفشي هذه "الظاهرة" بين التلاميذ في المعاهد الثانوية، والدعوة إلى إلغاء العقوبة السجنية واتّخاذ خطوات وقائية للإحاطة بالمراهقين عموماً وأخرى علاجية للمدمنين.

لكن، إلى أي مدى يمكن اعتبار تدخين الزطلة ظاهرة بما تعنيه الكلمة من ظهور لفعل-حدث بصورة مباغتة أو تدريجية؟ وكيف كان تفاعل السلطة مع ذلك؟

أسماء مختلفة لموروث واحد

بحسب ما ورد في كتاب حسين خوجة "ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان" (تونس، 1986)، يعود تاريخ الحشيش في تونس، وكان يُسمّى "التكروري" ("الزطلة" هي "تكروري" ممزوج مع منكهات ومواد أخرى)، إلى القرن السابع عشر. ودرج استهلاكه في الفضاء العام، مثله مثل القهوة والتبغ.

كذلك، اتّخذ الحشيش طابعاً تصوفياً، إذ يرجَّح أن الطرق الصوفية المنتشرة آنذاك ساهمت في انتشاره، بحسب ما جاء في دراسة أنثروبولوجية للأستاذ عبد الواحد المكني.

ويروي المؤرخ التونسي أحمد بن أبي ضياف، في كتابه الإتحاف (ج3، ط1979، ص121)، حادثة وقعت سنة 1814، حين قام عثمان باي بحرق كل ما في العاصمة تونس من الدخان الأخضر، وهو هنا الزطلة/ الحشيش/ التكروري، بعدما اتهمه الأهالي بتدخينه. ويمكن اعتبار عملية الحرق هذه أول إجراء تتخذه السلطة تجاه المخدرات.

كما يتضح أن تدخين التكروري كان منتشراً في أوساط الطبقة الحاكمة، وله أصول تاريخية في البلاد ما يجعله أقرب إلى الموروث الثقافي/ الحضاري منه إلى الظاهرة الاجتماعية.

"لا يمكن مواصلة السياسة الانتقامية التي تنتهجها السلطة التونسية منذ عقود إزاء مَن أراد الإبحار في فلك خياله هرباً من مستنقع الوحل السياسي الذي يغرق البلاد"

ستزدهر لاحقاً تجارة التكروري مع الاستعمار الفرنسي الذي دفع الباي إلى احتكاره وتقنين بيعه تحت علامة "البيليك" التابعة للدولة حينها، قصد دعم مواردها المالية.

ولأن الأدب مرآة الشعوب، يظهر الحشيش في أعمال روائية عدّة لكتاب تونسيين كالبشير خريف (الدقلة في عراجينها - 1959)، محمد صالح الجابري (من أيام زمرا - 1968) ومحمد العروسي المطوي (التوت المر - 1967). تتناول هذه الروايات حضور تدخين الحشيش بين مختلف الفئات التونسية، خاصة الفئات الضعيفة والمهمشة، في النصف الأول من القرن العشرين.

مع هبوب رياح الاستقلال، وتحت ضغط رواد الحركة الوطنية كالدكتور محمود الماطري وغيره، صدر في تشرين الأول/ أكتوبر 1955 قرار بالمنع النهائي لزراعة واستهلاك وبيع الحشيش (التكروري). لاحقاً، بادرت دولة الاستقلال إلى سن قانون 47/1964، القاضي بحظر زراعة القنب الهندي والأفيون وغيرها من النباتات المخدرة، في إطار إرساء الترسانة التشريعية للدولة الفتية، وتبعاً لانخراط تونس في التوجه العالمي حينها نحو تطويق وردع تجارة المخدرات بعد التوقيع على عدد من الاتفاقات الدولية كاتفاقية جنيف 1961.

في 18 أيار/ مايو 1992، وبعد مبادرة وزير الصحة الدالي الجازي، صادق مجلس النواب على القانون 52/1992 الذي ألغى القانون 47 واتّخذ صيغة أكثر ردعية تجاه جملة من المواد المخدرة، وردت مرفقة في "الجدول ب" المصاحب له. وبموجبه، ألزم المشرعون القضاة، وبدون أي مراعاة لوجدان القاضي أو فسح مجال للاجتهاد، بتوقيع عقوبة لا تقل عن سنة سجن مع غرامة مالية على كل مَن يدان باستهلاك أي مادة من المواد المنصوص عليها في القانون، ومن دون أي مراعاة لتباين تأثير هذه المواد ومدى خطورتها، إذ تخضع كل المواد المخدرة للعقوبة نفسها، وهو ما يمكن اعتباره من أهم نقائص المقاربة التشريعية في مجال مكافحة المخدرات في تونس.

كل ممنوع مرغوب... العود الأبدي للزطلة

إضافة إلى الارتفاع المتسارع لمدخني الحشيش/ الزطلة في السنوات الأخيرة، فإن نسبة العود، أي العودة لتدخين الحشيش بعد قضاء العقوبة، بلغت 54%، وأغلبهم بعد قضاء أكثر من عقوبة لنفس "الجرم"، حسب تقرير لشبكة الملاحظة للعدالة التونسية.

بحسب ما ورد في كتاب حسين خوجة "ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان"، يعود تاريخ الحشيش في تونس، وكان يُسمّى "التكروري"، إلى القرن السابع عشر، ودرج استهلاكه في الفضاء العام، مثله مثل القهوة والتبغ

وتشير نفس الدراسة إلى أن 94% من المتضررين من القانون 52، يعودون للسجن لارتكابهم جرائم أخرى. أكثر من ذلك، جرى "عرف سري" بين المحكومين لتدخينهم الزطلة، بأن أول ما يقومون به بعد انقضاء مدة العقوبة ومغادرتهم السجن هو تدخين سيجارة حشيش كتحدٍّ للسلطة بمنظومتها القضائية وأداتها السجنية.

وتم اللجوء إلى تنقيح القانون 52 عام 2017، بما يفسح مجال الاجتهاد للقضاة، حسب ما تقتضيه حالة المتهم الاجتماعية، في اتخاذ إجراءات التخفيف كإخلاء السبيل والحكم بعدم سماع الدعوة.

تقول الحقوقية ماري كارولين موتا، الناشطة في منظمة "محامون بلا حدود"، في تصريح لموقع نواة: "على مستوى التشريع، التنقيح كان جيداً، لكن الوقائع تقول عكس ذلك". ومن هنا، يتجه عدد من مكونات المجتمع المدني في تونس، بالإضافة إلى أطياف من الساحة السياسية، نحو تسليط الأضواء على هذه القضية للدفع باتجاه إعادة النظر في طريقة المعالجة التي انتهجتها تونس منذ 3 عقود والتي زادت الطين بلة.

يُذكَر أن إلغاء العقوبة السجنية كان أحد الوعود الانتخابية لحزب نداء تونس ورئيسه الراحل الباجي قايد السبسي. وصيغ هذا الوعد في مشروع القانون 79/2015، لكن لم ينجح الحزب في تمريره في البرلمان لاعتبارات سياسية.

مبادرة "كولاك": لوبيينغ على الطريقة الأمريكية

في كتابه "أفول السيادة"، يتناول المصرفي والتر ريستون تراجع قدرة الدول على السيطرة على شعوبها لصالح الثقافة المعولمة. لم تعد السلطة السياسية الوحيدة القادرة على رسم أقدار شعبها. وصار كل من الرأي العام العالمي، والمجتمع الدولي، والمؤسسات الأممية مشاركة في التطور الداخلي للمجتمعات.

بناءً على توصيات منظمة الصحة العالمية في شباط/ فبراير 2019، أعادت الأمم المتحدة مؤخراً تصنيف مادتي "القنّب والماريخوانا" لتكون من المواد المخدرة الأقل خطورة. ومنذ إعلان منظمة الصحة عن توصياتها قبل عامين، أطلق الناشط كريم شعير، رفقة ناشطين آخرين، مبادرة "الائتلاف من أجل تقنين القنّب الهندي (COLEC)".

بعد اندلاع الثورة التونسية، أطلقت مبادرات كثيرة لتنقيح القانون 52، كمبادرة السجين 52 الحقوقية. تتمحور كل هذه المبادرات تقريباً حول إلغاء العقوبة السالبة للحرية والمضي في تحويل قضية استهلاك القنّب/ الزطلة/ الحشيش من طابعها الجنائي نحو اعتبارها مسألة صحة عامة.

لكن لكريم، ورفاقه، وجهة نظر أخرى في الموضوع. يسعى ائتلاف "كولاك" إلى حث السلطات التونسية، ليس فقط على إلغاء العقوبة السجنية، ولا فقط على تقنين الاستهلاك، بل على العمل على دخول سوق القنّب الطبي الذي بلغت حجم معاملاته حوالي 16.5 مليار دولار سنة 2019، ومن المتوقع أن تبلغ 50 مليار دولار في أفق سنة 2026.

وفي هذا الإطار، يسعى ناشطو الائتلاف إلى حشد أكبر عدد ممكن من الناشطين في المجتمع المدني، وحث السياسيين على تبني مبادرتهم لتكون مبادرة تشريعية في البرلمان.

من بين هؤلاء، نجد النائب المعارض زياد غناي عن حزب التيار الديمقراطي، والنائبة في الائتلاف الحكومي آمال الورتتاني عن حزب قلب تونس. عبّر كل منهما، في أكثر من ظهور إعلامي، عن إيمانهما بضرورة مراجعة القانون 52 وإلغاء العقوبة السجنية على الأقل.

من جهة أخرى، يرى النائب المعارض ياسين العياري عن حركة أمل وعمل، أنه لا يحب تنقيح قانون المخدرات. برأيه، على الدولة احتكار التسويق لقطع دابر المروجين والسوق السوداء وفرض ضرائب مرتفعة على "القنب" قصد استغلال ذلك في توفير مصحات لعلاج المدمنين ورعايتهم، حتى لا تتكبد منظومة الصحة العامة، المنهكة أساساً، أعباءً أخرى فوق أعبائها.

بأي حال، لا يمكن إنكار الآثار الجانبية لاستهلاك أي مخدر مهما قلّت خطورته. بتجمّع ظروف معيّنة، يمكن أن يتسبب التناول المفرط للحشيش/ الزطلة للمستهلك بالخنوع والسلبية، وربما التحوّل إلى الاغتراب الذهني عن الواقع (Mental Alineation).

ويبقى الضرر الصحي، والذي يمكن معالجته سيكولوجياً وطبياً، أخف الأضرار مقارنة بالوصم الاجتماعي الذي يلحق بضحايا القانون 52، وما ينتج عن ذلك من نبذ مجتمعي وإقصاء من سوق العمل، وبالتالي من الحياة العملية، بعدما صار للضحية سوابق عدلية جنائية (تُضَمَّن في البطاقة عدد 3).

ختاماً، تبقى تساؤلات عدّة مطروحة:

ـ كثرة المستهلكين تعني توفّر البضاعة، فلماذا تعجز الدولة منذ سنوات عن مجابهة ظاهرة الترويج والتهريب، لتقتصر على مطاردة المستهلكين؟

ـ تستمر الدولة منذ سنوات في ترقيع الموازنات المالية عبر فرض ضرائب استثنائية مجحفة على المشروبات الكحولية، كما لا تبذل أي مساعٍ تذكر لرعاية الشباب وتوفير فضاءات ترفيهية ورياضية في أعماق الأحياء التونسية، فأين يتوقع المسؤولون أن يتجه الشباب؟

ـ لا زالت السلطات تتخبط بين الاستقطاب السياسي الشاحن للأجواء، ولا زال النموذج الاقتصادي الفاشل الذي أوقد نيران الثورة منذ 10 سنوات، جاثماً على الأرزاق وغير قادر على استيعاب مئات آلاف العاطلين عن العمل، فكيف تتوقع السلطات، والمجتمع، أن تكون نتيجة هذا التخاذل؟

وفي انتظار الإجابة عن هذه التساؤلات، لا يمكن مواصلة السياسة الانتقامية التي تنتهجها السلطة التونسية منذ عقود إزاء مَن أراد الإبحار في فلك خياله هرباً من مستنقع الوحل السياسي الذي يغرق البلاد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard