شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
دمشق مدينة الحفر المفتوحة…  قد تسقط فيها بحفرة في حائط

دمشق مدينة الحفر المفتوحة… قد تسقط فيها بحفرة في حائط

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 10 فبراير 202105:25 م


حفر مفتوحة قد يسقط فيها أي أحد في كل مكان من دمشق. السقوط ليس إلى الأسفل، قد تسقط بحفرة في حائط.

يرن الهاتف، يسأل أحد الأصدقاء عمّا إذا كنت أعرف أين فلان؟ أعرف لاحقاً أن فلاناً غائب منذ يوم، يومين أو أكثر. تبدأ الإجراءات المعتادة، بعد سؤال كل الأصدقاء والمعارف... نسأل المشافي، ثم نبحث عن شخص يستطيع أن يسأل عن اسمه في الفروع الأمنية.

قد يسقط في أي مكان في هذه المدينة، وهنا نلعب لعبة ضرب الخلد. هنا؟ لا هنا، ربما هناك. طاخ طاخ طاخ! قد تحصل على نقطة وتضرب الخلد وتجده في مكان ما. في مشفى، في بيت صديق، في فرع أمني إن كانت لديك واسطة جيدة تسمح لك بالمعرفة.

ربما لا تجد شيئاً، تضرب وتضرب ولا تمسك بالخلد. المرة الأولى التي عرفت فيها عن الحفر كانت عندما اختفى جارنا. بعد أشهر عرفنا أنه معتقل. في المرة الثانية أخبرتني صديقتي أنها لا تعرف شيئاً عن أخيها. تعرف أن جهة مسلحة اختطفته بسبب طائفته، مرت السنوات والخلد لا يظهر. في النهاية عرفنا بأنه مات.

قد يكون في أي مكان، قد يكون في أي حفرة. كل جهة لها حفرتها الخاصة.

اختفى صديق مرة، لكنه كان واعياً لفكرة أنه قد يسقط في حفرة أينما تحرك. استطاع من خلال تطبيق مخصص للأطفال والأهل أن يبلغ أهله عن مكانه. تطبيق يخبرك أين كان وأين توقف. استطاعوا سحبه، كان محظوظاً أنهم نسوا أخذ هاتفه بسرعة.

مؤخراً ارتفعت نسبة صور المفقودين على مجموعات الفيسبوك. مجموعات غير مختصة بهذا، قد يكون غروب لبيع الثياب، لكنك تجد فيه صورة ومناشدة "أي حدا شافه يتصل على هالرقم"

مؤخراً ارتفعت نسبة صور المفقودين على مجموعات الفيسبوك. مجموعات غير مختصة بهذا، قد يكون غروب لبيع الثياب، لكنك تجد فيه صورة ومناشدة "أي حدا شافه يتصل على هالرقم"، رجال ونساء وأطفال. سائقو التكسي يرجحون الاختطاف دائماً – ربما لأن هذه التهمة تلتصق بهم – يقولون: "الناس جاعت ورح تكتر هي الحالات. لا تطلعوا لحالكن".

حفرة أخرى حفرها الفقر، وغياب الأمن طبعاً.

بينما يتكلم سائق التكسي، انظر إلى الناس في الطريق، كيف قد أجد شخصاً مفقوداً وأتصل؟ هل يمكننا أن نراهم في الشوارع حقاً؟ أركز في صورة طفل مفقود أحاول أن أحفظ وجهه. عندما أذهب إلى الشارع يبدون جميعاً متشابهين، وأنا أعرف أني لن أجده هنا، أعرف أنه في حفرة ما داخل جدارٍ ما.

"هي هربانة من أهلها"، تأتي الاتهامات جاهزة عند اختفاء فتاة شابة. "يمكن هربت مع حبيبها"، للمرة الأولى لا يبدو هذا مزعجاً، في أعماقي أتمنى لو أنها داخل حفرتها الخاصة. أحياناً بالفعل يتم إيجاد فتاة ما هربت خوفاً من عائلتها بعد رسوبها في امتحانٍ ما. أضحك وأشعر أن أحداً ما استطاع ضرب الخُلد قبل أن يختفي إلى الأبد داخل لعبة محطمة.

لا يمكنني أن أعدّ الاتصالات الخائفة، اتصالات وصلتني، اتصالات قمت أنا بإجرائها. "أي هو منيح بس موبايله عطلان وهو بسويدا"، "أي هو منيح بس منعزل شوي". لماذا أنت خائفة إلى هذه الدرجة، ألم يكن هذا احتمالاً منطقياً؟ تسألني صديقة من دولة أخرى.

كيف يمكنني أن أشرح لها أن هناك حفراً في الجدران، يختفي الناس فيها إلى الأبد أحياناً. يسمونه الاختفاء القسري، لكن هذا ما تفعله الدولة. هناك حفر مختلفة تزداد يوماً بعد يوم: خطف بغاية فدية، خطف بغاية بيع الأعضاء، خطف بغاية التهديد، خطف بسبب علاقة عاطفية بين شخصين من طوائف مختلفة. في الحقيقة أول ما يخطر في بالنا هو الاختفاء القسري، الأمر يختلف عند الأطفال. طفل لن يعرف طريق المنزل مرة ثانية. شخص كبير يذكر نفسه كل يوم بطريق المنزل داخل غرفة ضيقة مظلمة، ربما يرسمه على الجدار، ربما يعود يوماً ما.

"الصورة تنقل الحقيقة"، أتمنى لو أستطيع تصوير هذه الحفر، لو تأتي البلدية لتجد لها حلاً. انظروا دمشق مليئة بالحفر! هذا عنوان لتقرير صحفي مكرر عن مخاطر ترك فتحات الصرف بلا أغطية. كليك! صورة! 

الحفر التي في الجدران غير مرئية. يسمون هذه الجدران "الأقبية المظلمة".

قال لي صديق مرة: "ما تخافي ما حدا فيو يعمل شي، يعني بأسوأ الأحوال نحط صورتك عالفيسبوك ونسأل وينها". قلت له بأن أحداً لن يجيب، قلت له سأكون احتمال فتاة هاربة. ربما يقتلني حبيبي الذي هربت معه، سيخترعون حبيباً، ولن يجرؤ أحد على ألا يصدق

قال لي صديق مرة: "ما تخافي ما حدا فيو يعمل شي، يعني بأسوأ الأحوال نحط صورتك عالفيسبوك ونسأل وينها". قلت له بأن أحداً لن يجيب، قلت له سأكون احتمال فتاة هاربة. ربما يقتلني حبيبي الذي هربت معه، سيخترعون حبيباً، ولن يجرؤ أحد على ألا يصدق.

صديقي هذا يعمل بالتصوير، يجد أن الصورة يمكنها أن تفعل الكثير، وأن تعميم صورتي سيوصل إلى شيء. أنا العاجزة عن تصوير الحفر في الجدران، أتخيل غريباً ما ينظر في وجوه الفتيات ويجدني فيهن جميعاً، وبالتالي لا يجدني.

"بدنا ندفنه"، ربما هذه أكثر أمنية مؤلمة تمناها أحد في حياته. لم ينتقل شقيق صديقتي من داخل حفرته في الجدار إلى حفرة في الأرض، على الأقل حفرة يعرفون مكانها. الحفر الخفية، المقابر الجماعية، المحارق. 

هذه بلاد مصنوعة من حفر، نسير فوق الرمال المتحركة. أفضل ما يمكنك فعله هو أن تخبر أحداً ما إلى أين أنت ذاهب، قد ينجح، ربما لا، ربما لعبة ضرب الخلد هذه أسرع مما ينبغي، ربما اللعبة ستبقى معطلة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard