شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"كرهت أمي"... يوميات الخوف والكذب لمغربيين نشأوا في دار للأيتام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 19 يناير 202104:05 م

"أشعر بانعدام العدل منذ فتحت عيني على هذه الأرض"، بهذه العبارة يفسر لنا عمر معاناته، كونه ترعرع داخل دار للأيتام، أو "الخيرية"، كما يُطلق عليها في المغرب، وما ترتَّب على ذلك من تداعيات نفسية.

يضيف عمر، وهو شاب يبلغ 24 عاماً، ويعمل في مجال التمريض، لرصيف22: "ليس من العدل أن تجد نفسك موضوع محاسبة ومحاكمة، على أحداث لا دخل لك فيها، من طرف المجتمع، وأن يقرر الآخرون مصيرك من دون مشاورتك".

"يرمقونني بنظرات غريبة"

فضّل عمر ملاقاتنا داخل أحد المقاهي في مدينة الدار البيضاء، وفي الواقع، بدا شاباً، مبتسماً، أنيقاً. تحدث بكل أريحية مصطنعة، وأثناء الحديث معه، قد يلامس المرء حزناً دفيناً داخل عينيه، فضلاً عن أنه بين الفينة والأخرى، يقضم أظافره، كإشارة على توتره أو من الممكن، أن تكون عادة سيئة لم يستطع التخلص منها.

يحكي عمر عن اعتياده اختلاق القصص من خياله عن والديه، وذلك في كل مرة يسأله زملاؤه في العمل عنهما، يفسر ذلك قائلاً: "في كل مرة، يسأل صديق لي عن والديّ، أو عن منزلي، أُصاب بالحرج الشديد"، "هذا الحرج"، يضيف عمر "كان يرافقني منذ أيام الصغر التي قضيتها في المدرسة العمومية"، مستطرداً، "لقب "ولد الخيرية"، كنت أخشاه دائماً، لهذا كنت من صغري أكذب بشأن حقيقة أسرتي".

رغم ظروف عمر القاسية داخل دار الأيتام، تمكّن من مواصلة الدراسة والتحصيل، ليحصل أخيراً على دبلوم ممرض متعدد التخصصات، ما خوّله العمل بأحد المراكز الصحية في ضواحي الدار البيضاء المغربية، وذلك بفضل أحد "المحسنين"، بحسب تعبيره.

مستاءً، يقول عمر: "لست سعيداً بتاتاً؛ فأنا شاب مجروح من كل شيء"، مستدركاً "أيضاً، لا أحب الحديث عن والدتي بالتحديد، وبالتالي، فلا داعي أن تسألي عنها".

كان عمر يحلم عندما كان في دار الأيتام، أن يكون والده محققاً، ووالدته معلمة، لذا كان يكذب بشأن عائلته في أحاديثه، يقول: "لا أكذب مع الآخرين، ولكني خائف"

يتابع: "تضايقني نظرات الأشخاص إلي، أحياناً لا أقدر على تأويلها، نظرات غريبة من طرف أشخاص يغيرون معاملتهم لي بمجرد أن يعلموا أني طفل الخيرية؛ لهذا، قررت عدم البوح بسري لأحد داخل العمل، يكفيني أشخاص من محيطي يعلمون حقيقتي".

يرى عمر أنه "مضطر إلى اختلاق قصص خيالية عن أب وأم وأشقاء مفترضين"، في صغره كان يحلم أن يكون والده محققاً شهيراً، ووالدته معلمة مدرسة محترمة، ولما كبر، أصبح يجيب عن أسئلة زملائه في العمل، بكون والده محققاً له شخصية فذة ومعارف لا تنتهي، ووالدته معلمة حنونة جداً، ما يضمن له احترام الجميع، مستطرداً "لست كاذباً بل خائف من الآخرين فقط".

يتميز عمر بملامح متناسقة، وطول قامة مميز، يقول في هذا الشأن إن "وسامته من الممكن أن يكون ورثها من والدته، التي تخلت عنه، وتركته بخيرية في الدار البيضاء".

رغم قهقهاته، يظهر جلياً على عمر أنه غير مرتاح، عيناه بمثابة بحر من الكلمات، وبينما نحن نتحدث في مواضيع عديدة، قال بشكل مباغت، وبنبرة يائسة، إنه " لن يسامح والدته نهائياً، أما والده فهو لا يعني له شيئاً".

أثار انتباهي كرهه لوالدته مقارنة بوالده، على الرغم من أنه رفض الحديث عنها منذ بداية الحديث، كان يذكرها بين الفينة والأخرى، ما دفعني إلى سؤاله: "لماذا كل هذا الكره لأمك وحدها، فوالدك مسؤول أيضاً عن وضعك؟"، اكتفى بالإجابة بكلمة واحدة: "لا أعرف".

سألت عمر عما يغضبه، أجاب بلا تردد: "كل شيء في هذه الحياة، فهي ليست عادلة أبداً معي"، ويضيف "أتدرين، بمجرد بلوغي 18 سنة، كان عليّ البحث عن مكان آخر يؤويني، لأن القانون يلزم الدار التي كبرت بين جدرانها، طردي خارجها".

يحكي عمر أنه دائم التساؤل بشأن ما أسماه "قسوة الحياة"، يقول إنه "عندما كنت طفلاً، أقصى ما كنت أحلم به هو حضن دافئ، لا سيما في ليالي الشتاء الطويلة، لكنني محروم ولا أزال من هذا الحضن".

كبر عمر، ونضجت عنده تلك الرغبة في العثور على حضن دافئ بدون جدوى.

إذا كان عمر طوال حياته يبحث عن حضن دافئ، فإن رفيق كان محظوظاً في ذلك، إذ تبنته سيدة حينما كان رضيعاً.

"كدت أفقد عقلي"

عرف رفيق (بحسب حديثه لرصيف22) أن والدته التي ربته، تبنته من دار للأيتام، عندما وقع في حب فتاة، تقطن في نفس الحي الذي ترعرع فيه.

يحكي رفيق، بكثير من الأسى، أنه علم أن والدته التي ربته لم تنجبه، بل تبنته، عندما تقدم لخطبة بنت الجيران، حبه الأول.

ويضيف أن حبيبته الاولى أسرته بابتسامتها وطيبتها، مبرزاً أنه  لم يتردَّد كثيراً، في خطبتها، لا سيما أنه محبوب بين أفراد الحي، وفي تطور دائم في عمله، وبالتالي، فتح الموضوع مع والدته، التي سرعان ما وافقت على خطبة الفتاة المذكورة".

لكن رفيق لم يتخيل أن حياته ستنقلب رأساً على عقب، بعدما رفضته أسرة الفتاة التي أرادها زوجة له.

ويوضح: "لم يخبروني برفضهم لي مباشرة، لكنهم أخبروا والدتي بذلك"، مضيفاً "بعد ذلك، لم تصارحني والدتي عن السبب الحقيقي وراء رفضهم لي، لكن بعد مرور بضعة أيام، تكفل أبناء الحي بذلك في شماتة شديدة، ففي نظرهم إن أصلي غير معروف، وهذا مشكل بالنسبة لهم".

وقع الخبر كالصاعقة على رفيق، زهرول مسرعاً نحو والدته، التي صارحته بكل شيء، وهو رفض الدخول معي في التفاصيل، لكن في المقابل، أوضح أن حياته بعد ذلك تغيرت رأساً على عقب، ووجد ضالته داخل المسجد وتلاوة القرآن، وفي ذكر الله كثيراً، بحسبه، كانت فرصة له، أن ينضم لإحدى الزوايا الصوفية في المدينة، يقول: "لولا الإيمان، لكنت فقدت عقلي".

على هامش المجتمع

يرى علي الشعباني، الباحث في علم الاجتماع، أن "كل ما يتعلق بجوانب عاطفية وحميمية في حياتنا، يكون وقعها أليماً، وصعباً علينا"، يفسر ذلك بالقول: "الأشخاص الذين تربوا داخل دار للأيتام، سواءً عن طريق موت أسرتهم أو لكونهم مجهولي النسب، تكون لمثل هذه الحياة وقع كبير جداً عليهم".

ويلفت الشعباني الانتباه إلى أن "تركيبة المجتمع المغربي تفرض أن يتربى الفرد وسط أسرة أو عائلة، تتكون من أم أو أب وأخوال وأعمام وهكذا"، مستدركاً "ولكن في الوقت الذي يعيش فيه الإنسان خارج المنظومة المذكورة، في هذه الحالة يعتبر على هامش هذا المجتمع".

"أخبرني أبناء الحي، بشماتة شديدة، أن عائلة بنت الجيران، حبي الأول، رفضت زواجي لأني غير معروف الأصل"

ويؤكد أنَّ "هذا الإحساس يولّد الكثير من العقد الداخلية، والكثير من الإحساس بالنقص، والضغط، والضعف، لدى الفرد الذي ترعرع وسط "الخيرية"، لأن المجتمع يراه كأنه إنسان غير كامل".

ويضيف: "والإنسان نفسه الذي تربى في دار للأيتام، لا يقدّر ما وصل إليه من كفاءة، ومكانة داخل المجتمع، ولكنه ينظر إلى الأمور التي يفتقدها، ووضعه الاجتماعي، الذي يوجد فيه، والذي يراه غير طبيعي".

بالنسبة لرفيق، الذي رفضته أسرة فتاة تقدم لخطبتها، يعتقد علي الشعباني، أن "أسرة الفتاة ترى أن رفيق ليس زوجاً طبيعياً لابنتهم، لأن المجتمع يفرض على الأشخاص العيش في كنف أسرة أو عائلة، دون أن ننسى أن بعض افراد المجتمع، ينعتون هؤلاء الأشخاص بألقاب مزعجة "ولد الخيرية"، وإذا كانوا مجهولي النسب ينعتونهم بأولاد الحرام".

وأما بالنسبة لعمر، الذي يلوم والدته التي تخلت عنه، أكثر من والده، يؤكد علي الشعباني، أن هذا اللوم طبيعي، لأن الأم هنا بمثابة الحاضنة، والشحنات العاطفية التي يأخذها الطفل تكون مصدرها الأم أكثر من الأب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard