شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"نشعل النيران ويعلو صوت الكؤوس والضحكات"… احتفالات لأكثر من عيد "رأس السنة" في سوريا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 29 ديسمبر 202005:50 م

تُضيء شجرة الميلاد زاوية منزل السيدة عبير في قرية "دمسرخو" في ريف اللاذقية الشمالي، وبقربها يضع ابنها علي صورة بالأبيض والأسود لجده الذي توفي قبل نحو 10 سنوات، يقول لرصيف22: "تضيء الشجرة من قبل عيد الميلاد إلى ما بعد عيد القوزلة".

ينهمك علي (25 عاماً) في تجهيز متطلبات الحفلتين، اللتين ستقيمهما العائلة قريباً، الأولى ليلة رأس السنة الميلادية في الواحد والثلاثين من كانون الأول/ ديسمبر، والثانية حفلة (القوزلة) في الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير.

تستعد العائلات على امتداد سوريا لاستقبال العام الجديد 2021، ورغم أن غالبيتها تحتفل برأس السنة الميلادية وفق التقويم الغربي في الأول من كانون الثاني/ يناير، إلا أن تنوّع الحضارات التي سكنت هذه البلاد قبل آلاف السنين تركت موروثها في عاداتهم وتقاليدهم.

تُحيي معظم العائلات في ريف الساحل السوري (شمال غربي سوريا) رأس السنة في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير وفق التقويم الشرقي، الذي تبناه يوليوس قيصر منذ نحو 44 عاماً قبل الميلاد، ويسمى عيد "القوزلة"، وفي محافظة الحسكة (شمال شرقي سوريا) يحتفل الآشوريون والآراميون والكلدانيون والسريان في الأول من نيسان/ إبريل بقدوم العام الجديد، يسمى عيد رأس السنة السورية "أكيتو بريخو".

"يعلو صوت الموسيقى مع صوت الكؤوس والضحكات".

تعود عبير (54 عاماً) بذاكرتها إلى منزل عائلتها في قرية كرسانا الساحلية، حيث كانت تُقام الولائم، وتجتمع العائلة احتفالاً بــ"القوزلة"، تقول لرصيف22: "كان والدي ينتظر القوزلة من عام إلى آخر، نزين المنزل بالشرائط الملونة، ندعو الأقارب ليشاركونا في فرحتنا، يعلو صوت الموسيقى مع صوت الكؤوس والضحكات".

تُحضّر عبير الطبق الرئيسي الخاص بعيد "القوزلة"، الكبة المحشوة باللحمة، ويجهز زوجها أدوات إشعال النار، تشرح ذلك: "عند غروب الشمس تشعل كل عائلة النار أمام منزلها، ونجتمع لتبادل التهانىء بقدوم العام الجديد".

"يشعلون النار أمام البيوت كما القبائل البدائية"… احتفالات لأكثر من عيد ميلاد واحد في سوريا

"ننتظر ليلة القوزلة"

بقي نحو أسبوعين لعيد رأس السنة وفق التقويم الشرقي، يتعاون أحمد كحيلة (32 عاماً) مع مجموعة من الشباب على تزيين ساحة قرية دمسرخو في ريف اللاذقية بألعاب الأطفال، يقول لرصيف22: "جهزنا ساحة القرية لاستقبال العام الجديد، وإحياء ليلة القوزلة وفق الإمكانيات المتاحة، وبعد اتخاذ إجراءات الوقاية من فيروس كورونا".

الطائفة العلوية تُعزي عيد "القوزلة" لسبب ديني، هزيمة فرعون أمام النبي موسى، ولكن الباحث نعيسة يقول: "يعود تاريخها إلى ما قبل المسيحية، حيث كانت الشعوب والقبائل تُحييه بإشعال النيران"

أما ندى زوجة أحمد فتنهمك في تحضير كعك العيد، تقول: "صنعت بعض الحلويات في المنزل كأقراص الغريبة، والكعك الحلو، والمالح، لتقديمها لأهالي القرية في الساحة، ننتظر بفارغ الصبر ليلة القوزلة".

تضيف ندى الأطرش (27 عاماً): "منذ بداية الحرب في سوريا اقتصرت احتفالات القوزلة على العائلة الواحدة، لكن هذا العام قام زوجي أحمد مع مجموعة من شبان فريق "أرض القرمز" بالتجهيز للحفلة في ساحة القرية، وسنحييها كما كانت سابقاً، نشعل النار، ونعقد حلقات الدبكة حولها، ونتبادل التهانىء بقدوم العام الجديد".

أرض القرمز

أسس أحمد مع مجموعة من الشبان والفتيات فريقاً تطوعياً من أبناء عائلات قرية دمسرخو، تحت اسم فريق "أرض القرمز"، على اعتبار أن اللون القرمزي يرمز إلى الحضارة الأوغاريتية التي تحتضنها المنطقة. يقول: "يهدف الفريق إلى إحياء التراث اللامادي للمنطقة، وإقامة الأنشطة الثقافية والترفيهية المتنوعة، وتعزيز الروح الاجتماعية".

يرى أحمد أن "القوزلة" احتفال اجتماعي وليس دينياً، رغم أن كل دين يُسقط هذا التاريخ لحادثة دينية معينة، على سبيل المثال الطائفة العلوية المسلمة في سوريا تُعزو عيد "القوزلة" لأسباب دينية، منها هزيمة فرعون أمام النبي موسى.

يقول الباحث في الموروث الشعبي حيدر نعيسة لرصيف22: "القوزلة مناسبة يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام والمسيحية، إذ كانت الشعوب والقبائل تُحيي ليلة رأس السنة وفق التقويم الشرقي بإشعال النيران، وفعل قزل أي أشعل النار".

ويوافق عيد "القوزلة" الاحتفال برأس السنة الميلادية وفق التقويم الشرقي بفارق 13 يوماً عن التقويم الميلادي الغربي، إذ يعتبر يوم 14 كانون الثاني/ يناير يوم 31 من كانون الأول/ ديسمبر وفق التقويم الشرقي، يضيف نعيسة.

يأتي إشعال النيران عشيّة القوزلة، في إطار النذور، تيمناً بأول نذر قدمه هابيل فأحرقته النار، بحسب نعيسة، كما يرتبط العيد بالبرغل والطحين واللبن والكبب المحشية بالسلق والبصل واللحم المفروم، والكعك الذي يُخبز على الصاج أو التنور.

بعد الاحتفال يقوم الأهالي بزيارة أمواتهم وقراءة الفاتحة على أرواحهم، ويعملون على إزالة الخلافات فيما بينهم، فلا يُقبل أن يبقى أحد مُعرضاً عن الآخر، يتلون الصلوات، يأكلون، ويطعمون أطفالهم.

وعن البعد الديني للعيد، يقول نعيسة: "القوزلة من المناسبات التي لا جانب ديني صرف لها، يغلب بعدها الاجتماعي على البعد الديني أو سواه، تحتفل بها العديد من القرى في الساحل كعرامو ودمسرخو وكرسانا وجناتا، وبعض قرى بانياس وجبلة، كما يحتفل بها أهالي الداخل السوري والسهل والجبل".

"يشعلون النار أمام البيوت كما القبائل البدائية"… احتفالات لأكثر من عيد ميلاد واحد في سوريا

"لم يبق سوى الذكريات"

"آه من نهر الخابور، آه من جبل عبد العزيز، آه من نيسان، كلها مرتبطة بعيد رأس السنة الآشورية"، هذه كانت الكلمات الأولى لزياد عندما تذكر عيد "أكيتو بريخو"، يقول لرصيف22: "لم يبق من عيد رأس السنة الآشورية ولا من الآشوريين سوى الذكريات في سوريا".

يعيش زياد يعقوب لازر (56 عاماً) في قرية تل نصري، تبعد نحو كيلومتر عن تل تمر، التابعة لمحافظة الحسكة في الجزيرة الفراتية، يقضي يومه في المنزل يتصفح صور أحبته، ويتذكر عيد "أكيتو بريخو"، يقول: "كنا 1600 آشوري في القرية، لم يبق منهم سوى أنا وأمي وعمتي، الجميع هاجروا إلى أوروبا خلال الحرب، لم يعد للعيد معنى في غيابهم".

"لم يعد للعيد معنى في غيابهم".

يضع زياد خيمته الزرقاء تحت شجرة الصنوبر، يجلس مع عائلته مستمتعاً بجمال الطبيعة في أول أيام نيسان/ إبريل، ينتظر بداية الحفل، تبدأ الفتيات بالتوافد إلى جبل عبد العزيز، وهن يرتدين الزي الآشوري القديم، المؤلف من قمصان طويلة زاهية تصل إلى ما تحت الركبتين، مع سروال وحزام مزخرف وقبعة تسمى البوشية، دائرية وملفوفة بقطعة طويلة من القماش الأسود، وثلاث ريشات ملونة أو ريشتين حمراوين تتوسطهما ريشة بيضاء أو العكس.

يتخلل الحفل عرض فلكلوري، وأغانٍ آشورية قديمة، ومسابقات فنية وثقافية تتحدث عن الحضارة الآشورية، يتبادل الأهالي التهانىء بقدوم العام الجديد، ويستقبلون الربيع بكلمة "أكيتو بريخو"، معناها باللغة العربية عيد مبارك.

يقول زياد: "صورة العيد ما زالت في ذاكرتي، أما الآن فنحتفل في البيت، لا يمكننا الخروج إلى جبل عبد العزيز، ولم يتبق أحد ليحتفل معنا، كنا 33 قرية آشورية في سوريا، جميع أهلها هاجروا، لكن ما زلنا نحافظ على الاحتفال بعيدنا القومي، حتى ولو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلف الشاشات".

ماذا عن الطعام الآشوري؟ يقول زياد: "طبق "الدخوا" عمره أكثر من سبعة آلاف عام، طبق آشوري قديم يتألف من اللبن المجفف مع اللحم الأحمر والشعير المقشر، نقدمه كطبق رئيسي خلال الاحتفال برأس السنة الآشورية، ونحرص أن يأكل أطفالنا، ويشاركونا العيد، ليحيوه من بعدنا".

"يشعلون النار أمام البيوت كما القبائل البدائية"… احتفالات لأكثر من عيد ميلاد واحد في سوريا

"سميت طفلتي إينانا"

لم ينقطع الناشط الآشوري السوري ميشيل برخو (٣٧ عاماً) عن الاحتفال بعيد رأس السنة السورية، يقول لرصيف 22: "أعطيت لابنتي اسم "إينانا" ليقودها للتعرف على كل تاريخها، وكل ما يتعلق بالحضارة التي تنتمي إليها".

ويضيف: "عرفت رأس السنة السورية الآشورية بشيء من البساطة، إنه يوم يحمل بداية العام الآشوري الجديد، لذلك يحتفلون بإقامة رحلات جماعية إلى الطبيعة، بعد ذلك بحثت عن مفهوم المناسبة تاريخياً، وما الحكاية التي ترتبط بها، وفق ما كتبه المؤرخون".

كان المحرض الأساسي لرحلة البحث في تاريخ انتماء ميشيل القومية، رغبته بالتعرف على أسرار رأس السنة الآشورية، يقول: "تقويمها السنوي مختلف عن الميلادي والهجري وحتى العبري وهو أقدمها، هذه البداية أوصلتني للكثير من كتب التاريخ، وصِرتُ شغوفاً بمعرفة المزيد، ما قادني للغوص أكثر في حضارة منطقتنا، تحديداً سوريا والعراق، ما نعرفه بجغرافية إمبراطورية آشور".

اعتنق الآشوريون الفكر المسيحي لكنهم حافظوا على تقاليدهم، وأصبحوا يحتفلون كمسيحيين برأس السنة الميلادية، وبرأس السنة الآشورية كعيد قومي، بحسب القس فرح

ذكريات سنوات الاحتفال في الخابور كلها عالقة في ذهن ميشيل، يقول: "نحتفل برأس السنة الآشورية مطلع نيسان أي في أكثر توقيت تكون فيه الطبيعة في أبهى سحرها وجمالها، إنها امتداد لجذوري وتكويني، حفاظنا على تقويمنا يعني الحفاظ على الانتماء لأمة قدمت للبشرية أولى الشرائع، وأسست أولى المكتبات، ونظمت مفهوم الدول، واهتمت بالعلوم والزراعة والفلك".

يعود ميشيل بذاكرته إلى العام 2004، يقول: "على وقع مباراة كرة قدم بين نادي الجهاد ونادي الفتوة في محافظة الحسكة، حدث ما يشبه التصادم القومي عرباً وكُرد، وبات من الصعب التجمع كما سابقاً، تم فرض قيود أمنية حينها، هذه القيود طالت حتى الاحتفال برأس السنة الآشورية، ومُنع إقامة التجمهر المعتاد في منطقة مغلوجة في جبل عبد العزيز في الحسكة".

"استمرت بالاحتفال برأس السنة الآشورية في سوريا حتى العام 2011".

ويتابع: "استمررت بالاحتفال برأس السنة الآشورية في سوريا حتى العام 2011، آخر احتفال تزامن مع بداية ما سمي بالربيع العربي، أذكر أنه كان ناقصاً من حيث الطقوس، الخوف والضياع وسط مجهول قادم سكن قلوب الجميع، لاحقاً سافرت مع عائلتي إلى لبنان ثم إلى السويد".

أكثر ما يفتقده ميشيل منذ غادر سوريا هو الأرض واحتفالات رأس السنة الآشورية مرتبطة بشكل مباشر بها، يقول: "هنا أشتاق لشجيرات العنب في منزلنا في الخابور، أشتاق للعائلة والأصدقاء والأمان وكل المدن التي تسكننا".

"يشعلون النار أمام البيوت كما القبائل البدائية"… احتفالات لأكثر من عيد ميلاد واحد في سوريا

احتفالات قبل "الإيمان المسيحي"

 "رأس السنة السورية ذكرى مرتبطة بالحضارة الآشورية، تعود لآلاف السنين قبل الإيمان المسيحي، أي قبل أن يصبح الآشوريون مسيحيين، إذ كانت السنة تبدأ في شهر نيسان، يختلف تقويمها عن التقويم الميلادي ويسبقه بأكثر من ستة آلاف عام، ويرتبط بالآلهة الام عشتار واهبة الحياة، وبفصل الربيع عندما تنبت الأرض وتجدد نفسها وتعود إلى الحياة"، يقول القس فراس فرح، الرئيس الروحي للكنائس الإنجيلية في محافظة الحسكة، وراعي كنيسة القامشلي والمالكية.

ويضيف فرح: "يعتبر الأول من نيسان يوم عطلة لجميع الآشوريين والكلدانيين والآراميين، ومرتبط بحضارة بلاد ما بين النهرين في سوريا والعراق، كانت العائلات سابقاً تحتفل بقدوم الربيع لمدة 15 يوماً، لكن الحداثة التي دخلت إلى حياتهم، وارتباطهم بأعمالهم، جعلاها تختصره إلى يوم واحد فقط في أحضان الطبيعة، يلفظ باللغة السريانية أكيتو بريخو، وباللغة الآشورية أكيتا بريخا".

اعتنق الآشوريون الفكر المسيحي لكنهم حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم وأعيادهم، وأصبحوا يحتفلون كمسيحيين برأس السنة الميلادية، وبرأس السنة الآشورية كعيد قومي يذكرهم بالحضارة الآشورية وبملك آشور، يعيدون من خلاله تاريخهم، و"أكيتو بريخو" يختلف عن عيد النيروز الخاص بالفكر الكردي، وعن عيد شم النسيم الفرعوني في مصر، بحسب القس فراس.

وخسرت سوريا منذ بداية الحرب في العام 2011 شخصاً من أبناء الطائفة المسيحية، الذين هاجروا إلى أوروبا، بعد أن استهدف تنظيم داعش القرى المسيحية الآشورية شمال شرقي سوريا، وأحرق الكنائس والأديرة وأماكن العبادة في قراهم، ويقدر عدد السريان والآشوريين في سوريا قبل الحرب بنحو ثلاثين ألفاً من بين 1.2 مليون مسيحي، يسكن معظمهم القرى المحيطة بنهر الخابور في الحسكة ومدينة القامشلي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard