شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الراقص اللبناني ألكسندر بوليكوفيتش... جسد متمرّد يرفض القمع والصور النمطية

الراقص اللبناني ألكسندر بوليكوفيتش... جسد متمرّد يرفض القمع والصور النمطية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 23 ديسمبر 202006:32 م

من خلال جسده المرن والتسلّح بقناع واق من الغازات المسيلة للدموع، جسّد الراقص اللبناني ألكسندر بوليكوفيتش، على امتداد 40 دقيقة من الرقص "البلدي" المعاصر، مظاهر الثورة التي تسري في عروقه وحادثة توقيفه من قبل القوى الأمنية على خلفية المشاركة في التظاهرات رفضاً للسياسات المالية في البلاد، بالإضافة إلى مشاعر الحزن والحداد التي تعصر قلبه حزناً على رحيل والده، وبعدها على خسارة منزله وأصدقائه في حادثة انفجار مرفأ بيروت.

في عرض "عليهم" الجامع ما بين عالمين متباعدين إلى حدّ ما: رجال الدين وأهل الفن الذين يلعبون على وتر التابوهات، الأدوار الجندرية وكسر القوالب النمطية الضيّقة، يقف بوليكوفيتش بجرأة كبيرة في القاعة الخالية من أي ديكور أو إضاءة باهرة، باستثناء ضوء خافت مسلّط على صندوق خشبي أشبه بالتابوت، وفي هذه المساحة الضيّقة، يطلق العنان لمشاعره وغضبه و"جنونه"، فيميل بجسده شبه العاري، يميناً ويساراً، يتلوى ويضرب بيديه على الخشب، وكأنه بذلك ينفض عنه الآلام والأوجاع التي ترهق كاهله ويحاول الخروج من قوقعته، فينجح في إسقاط الصندوق الخشبي ويقف فوقه بعزم وقوة، كل ذلك على وقع أنين صادر من أعماق قلبه يرمز لخسارة كل شيء، باستثناء سلاح واحد: جسد متمرّد يرفض الصور النمطية ويحاول المقاومة وكسر جميع القيود التي يضعها المجتمع الأبوي والذكوري.

هكذا بدا عرض "عليهم" وكأنه "أداة مقاومة" ومرآة تعكس الأحداث السوادوية التي مرّ بها الفنان اللبناني والمحطات الأليمة التي شهدها لبنان في العام 2020.

إليكم/نّ هذا الحوار الذي أجراه موقع رصيف22 مع الراقص ومصمم الرقص ألكسندر بوليكوفيتش:

-في أي عمر اكتشفت حبك للرقص؟ وكيف كانت ردة فعل أهلك والمقرّبين منك عندما حدثتهم عن شغفك؟

اكتشفت حبي للرقص في سن مبكر وحصلت على شهادة من جامعة "باريس الثامنة" في مجال المسرح والرقص، وأذكر حينها كيف نبذني أهلي ولم يتقبلوا الفكرة على الإطلاق، وانقطعت العلاقة بيننا لحوالي سنة.

-لماذا تصرّ على استخدام مصطلح "الرقص البلدي" عوضاً عن الرقص الشرقي؟

في اللغة العربية لا وجود لمصطلح "رقص شرقي"، إنها تسمية جغرافية فقط أطلقتها أوروبا لتحديد الشرق، في حين أن هناك ضياع بين الشرق الأدنى والشرق الأوسط، بالإضافة إلى أن هذه التسمية تعمل على "تحقير" مصطلح الرقص البلدي المعتمد أساساً من قبل الشعب المصري.

برأيي، إن الاستيطان جعل كل شي أدنى أهمية من المستوطن، بمعنى آخر، باتت كلمة "بلدي" تدلّ على شيء دون المستوى. من هنا، هناك إصرار مني على ضرورة أن نسمي الأمور بأنفسنا، من دون أن نكون تابعين من دون أي فكر أو تحليل لتسميات يطلقها الغرب علينا.

-ما هي الرسائل الفنية والاجتماعية والسياسية التي تحاول إيصالها من خلال عروضك الراقصة؟

تختلف الرسائل من عرض إلى آخر بحسب الخلفيات والأسباب التي تقف وراء فحوى العرض، ولكن الهدف الأساس يبقى أن أتمكن من إعطاء هوية خاصة للرقص، بعيداً عن حصره في القالب الترفيهي فقط.

من خلال جسده المرن والتسلّح بقناع واق من الغازات المسيلة للدموع، جسّد الراقص اللبناني ألكسندر بوليكوفيتش، على امتداد 40 دقيقة من الرقص "البلدي" المعاصر، مظاهر الثورة التي تسري في عروقه وحادثة توقيفه من قبل القوى الأمنية على خلفية المشاركة في التظاهرات رفضاً للسياسات المالية في البلاد

-أخبرنا أكثر عن عرض "عليهم" وعن سبب اختيار "كريبت" كنيسة مار يوسف؟

بعد تعرضي للاعتقال والضرب من قبل رجال الشرطة على خلفية مشاركتي في الثورة اللبنانية، عدت إلى منزلي عند الساعة الرابعة فجراً، وكان جسدي يؤلمني إلى حدّ كبير، حينها بدأت بالرقص، وبعد حوالي ساعتين تبلورت فكرة العرض الراقص في رأسي.

على الصعيد الشخصي، هزني موت والدي كثيراً، بالإضافة إلى الانخراط في علاقة عاطفية سامة مرهقة ومؤذية نفسياً، فكان لديّ الرغبة في تحرير نفسي من الآلام والأوجاع الكثيرة، دون أن أحصر نفسي على الإطلاق في دور الضحية، من هنا جاء عرض "عليهم" الذي يجسّد حكايا الخسارة، الألم، الاعتداء الجسدي والثورة.

يتحدّث العمل عن تجاوز الصعوبات وخلع ثوب الضحية، كما شكل حافزاً للصمود في وجه الكارثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بلبنان.

وُلدَ "عليهم" تحت وابل من الإرهاق والميلانكوليا، أودى بي إلى حافة الانهيار والاستسلام. ولذلك السبب بالتحديد، استحال العرض رحلة نحو الخلاص، مظهراً مرة أخرى الحاجة الماسّة إلى صنع الفنّ، ومثبتاً أن الفنّ ضرورة من ضرورات الحياة.

-ما السبب الذي دفعك إلى تقديم العرض بشكل مجاني؟

لقد أصريت على أهمية أن يكون العرض مجانياً بسبب رفضي للسياسات التي تضعها المؤسسات التمويلية، والتي تسعى للنهوض بالساحة الفنية، ولكنها تقوم بالعكس من خلال استنسابية الدعم المادي، فكل سنة نلاحظ أن الأشخاص أنفسهم هم الذين يستفيدون من المساعدات، وفي حال تم رفض الفنان لمرات متكررة، يشعر حينها بأن عمله لا يستحق التقدير وغير جدير بالاهتمام، وهذا أمر خطير، من هنا أصريت على إقامة العرض من دون أي دعم مادي من أي جهة ممولة، وذلك للتشديد على فكرة أن المؤسسات التمويلية ليست هي التي تحدد قيمة الفنان ومكانته ومدى نجاحه.

في نهاية المطاف أنا لا أرقص لكسب المال، ولا أنتظر المال من أحد لكي أرقص، بل أرقص لأنني بحاجة إلى ذلك. الرقص ضرورة ملحة بالنسبة لي، وأنا أرقص قبل كل شيء لإحداث الفرق. أفعل كل ذلك من أجلي، لأثبت لنفسي أنني على المسار الصحيح، وفي النهاية سأحقق ما أطمح إليه.

-ما الذي دفعك للرقص بجسد شبه عار من دون وجود إكسسوار أو حتى إضاءة على المسرح؟

على خلفية انفجار المرفأ في الرابع من آب/ أغسطس، خسرت منزلي وبعض أصدقائي وبالتالي وجدت أنه من غير الواقعي أن أطلّ على الجمهور بأزياء فخمة، ونحن نمر في أيام سوداء قاتمة، فقررت أن أرتدي شورت أسود بسيط فقط، كحالة من "التقشف"، إن جازت التسمية.

-كيف تصف الحالة التي تكون بها أثناء الرقص؟ هل تنفصل فعلاً عن أرض الواقع؟

لا أنفصل إطلاقاً عن أرض الواقع، بل على العكس، أعتبر أن الفنان بشكل عام يجب أن يكون حاضراً في اللحظة لكي يتمكن من إيصال الفكرة الأساسية، فمن المهم التحلي بالوعي والتركيز الكامل أثناء العرض.

-يعتبر البعض الرقص أداة لتحرير النفس وكسر القيود التي تكبّل الجسد، كيف لمست هذا التحرر على المستوى الشخصي؟

الرقص يحرر الفكر وليس النفس فقط، عندما يختار المرء أن يرقص ويواجه نفسه بالرقص، فإن الجسد في بعض الأحيان يكون مكبلاً بعوائق نفسية، وبالتالي عندما يقوم المرء بحلّ مشاكله الجسدية، فعندها يتخلص من العقد النفسية أيضاً، لأنه لكي يتمكن من أن يرقص وينظر إلى نفسه في المرآة، يجب أن يكون متصالحاً مع نفسه، وقادر على فكفكة الكثير من العقد لكي يتمكن من الرقص.

-كيف ترد على الانتقادات والأصوات التي تقوم بقولبة الرقص وربطه بجسد المرأة فقط؟

"يلي بدو يربط الرقص بجسد المرأة هو حرّ"، ولكن في القرن الواحد والعشرين لا نستطيع أن ننسب الحركة إلى جسد المرأة أو إلى جسد رجل، فالحركة حركة والجسد ثانوي، "حيلا جسد في يعمل حيلا حركة"، الرقص المعاصر هو خير دليل على ذلك.

-مع جائحة كورونا، يتجه العالم اليوم إلى الفضاء الإلكتروني، في حين أنك مصرّ على أن تكون عروضك حيّة، فما السبب الكامن وراء ذلك؟

أخاف كثيراً من مستقبل يكون فيه كل واحد منّا متواجداً في منزله وفي غرفة واحدة، حيث ندرس ونعمل ونشتري حاجيات، من دون أن يكون بوسعنا الخروج.

هذا المستقبل يرعبني حقاً، وأعتقد أنه يجب أن نواجه أي قمع للحريات الجسدية، فما يحصل حالياً في ظل جائحة كورونا هو عبارة عن سيطرة مخيفة على الشعوب والحدّ من حرية التحرك. أعتقد أنه بإمكاننا أن ننتبه ونتخذ الإجراءات اللازمة إنما من دون أن نكون خاضعين بهذه الطريقة.

"أمام الظلم والقمع، نقف عند خيارين لا ثالث لهما: إما الانهيار أو المقاومة، وبمجرد أن نختار مقاومة هذا النظام الفاسد يعني أن نضع نصب أعيننا هدفاً واحداً وهو التحدي، بخاصة وأننا نتجه إلى مكان أسود وإلى دولة بوليسية مرعبة"

-بالإضافة لكونك راقصاً محترفاً، تعتبر وجهاً بارزاً في صفوف الثورة، وتم اعتقالك مؤخراً من قبل قوى الأمن اللبناني، أخبرنا أكثر عن هذه الحادثة، وهل تعتبر أن لبنان قادر على احتضان أحلامك أم تفكر في الهجرة؟

في الليلة التي سميّت بـ "ليلة المصارف" تم اعتقالي بشكل تعسفي وتعرضت للضرب، وهذا شكل حافزاً لديّ لكي أعمل أكثر، لأنه أمام الظلم والقمع، نقف عند خيارين لا ثالث لهما: إما الانهيار أو المقاومة، وبمجرد أن نختار مقاومة هذا النظام الفاسد يعني أن نضع نصب أعيننا هدفاً واحداً وهو التحدي، بخاصة وأننا نتجه إلى مكان أسود وإلى دولة بوليسية مرعبة.

أنا بطبعي أقاوم هذا الأسلوب في التعامل، وعوض أن أغادر لبنان، قررت العيش في ضيعتي التي توفر لي السلام الداخلي، كما وأن المشي في الطبيعة يساعدني على التصالح مع لبنان الذي أحبه.

لحدّ الآن أنا مصرّ على البقاء ولا أنوي مغادرة الوطن، لأنه لا يزال بوسعي الصمود والمقاومة، ولكن عندما يأتي اليوم الذي لا أتمكن فيه من الرقص في لبنان فعندها قد أفكر في الرحيل.

-بعد "عليهم" ما هي مشاريعك المستقبلية؟

في جعبتي عدّة مشاريع، من بينها ديو مع الشاعر هاشم هاشم، بالإضافة إلى العمل على مشروع كباريه خاص بي، "والخير لقدّام".

الجدير بالذكر أن عرض "عليهم" يأتي بعد سلسلة عروض قدمها ألكسندر بوليكيفيتش، وهي "محاولة أولى" (2009)، "تجوال" (2011)، "إلغاء" (2013)، و"بلدي يا واد" (2015).


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard