شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
صراطات مستقيمة... سقوط عرش القداسة الدينية عند المفكّر الإيراني سُروش

صراطات مستقيمة... سقوط عرش القداسة الدينية عند المفكّر الإيراني سُروش

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 26 ديسمبر 202001:30 م

ألّف الباحث والمفكر الإيراني، عبد الكريم سروشُ، العديدَ من الكتب في الفكر والفلسفة الإسلاميين، منها: "القبض والبسط"، "التراث والعلمانية"، "العقل والحرّيّة"، "الصراطات المستقيمة"، "التديّن والسياسة"، "بسط التجربة النبويّة"، وفي مؤلفاته هذه وغيرها انطلق من نقطتين أساسيّتين لهدم عرش القداسة الموروثة في العقل الإسلاميّ الجمعي، هما التجريبيّة والتعدّديّة. أراد بالتجريبيّة، تجريبيّةً دينيّة تقوم على ما أطلق عليه مفهوم "التطوّر الحضاري" للوصول إلى مجتمع مُتحرّر من سُلطة الدّين وهيمنته، وذلك في سبيل التحرّر من الأسطورة، إلى حكم يقوده العلم الحديث.

الأسطورة بالنسبة إلى سروش هي كلّ ما هو ديني، فيقول في كتابه "القبض والبسط في الشريعة الإسلامية": "لا بُدّ أن نسحب أيدينا من كون الفقه فقهاً وعلماً وديناً، لأنّ التفسير العقلاني في إطار حلّ المشاكل الاجتماعيّة والدنيويّة أمر متداول لدى جميع عقلاء العالم، ولا حاجة بنا إلى الالتزام مثلاً بالتطهير الشرعي؛ فكلّما يفرزه العلم الحديث في مجال الصحّة يجب العمل به، فلا يمكن القول حينئذ إنّ وظيفتنا تتركّز في إجراء الأحكام الإلهية في حركة الحياة، بل وظيفتنا تتلخّص في سلوك الطريق العقلاني في حلّ المشكلات الفردية والاجتماعية من خلال المصالح العرفيّة".

من الواضح أنّ سروش يفاضل بين الفقه وبين التفسير العقلاني كما يسمّيه، فلا حاجة في العودة إلى الفقه للبحث عن حلول إلهيّة معلّبة وجاهزة لمشاكلنا وإسقاطها على أنماط حياتنا، ويُعلي شأن العقل على حساب الفقه التقليدي الموروث بنسختيه السُّنّيّة والشّيعيّة، والذي لا يزال مُهيمناً على جوانب حياة المسلمين وتفاصيلها إلى يومنا هذا. وبالتالي لا يمكننا القول بمجتمع إسلامي واحد أو دولة إسلاميّة واحدة، لها قانونها الشرعي الإلهي، بل هناك مجتمعات إسلاميّة متعدّدة، تختلف أحوالها، وأنماط معيشتها بحسب درجة تطوّرها العلمي. وهذه المجتمعات تتشارك في معتقدات عامّة، يمكن أن تكون خطوطاً عريضة، كالتوحيد مثلاً، وهذا ما يشير إليه الدكتور محمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن"، حين يقول بأنّنا أحياء نتّبع ما قاله أموات قبل مئات السنين، ويريد بذلك الأئمة الأربعة، فما كان يصلح فقهيّاً في زمنهم لم يعدّ ممكناً في زمننا، بحسب الأرضيّة المعرفية المتغيّرة.

يفاضل سروشُ بين الفقه وبين التفسير العقلاني كما يسمّيه، فلا حاجة في العودة إلى الفقه للبحث عن حلول إلهيّة معلّبة وجاهزة لمشاكلنا وإسقاطها على أنماط حياتنا

يبدو أنّ سروش تأثّر بابن المقفّع الذي رفض الدين انطلاقاً من مقياس عقلي، وبما أنّ الدين يُؤثِر الصّدق والعدل والعقل والحقّ، ممّا لم يجده ابن المقفّع في الدّين، فإنّه يرفضه. وكذلك فعل ابن الراوندي الذي يقول إنّ العقل أعظم نِعم الله، وهو الذي يُعرف به الرّبّ ونعمه، ومن أجله صُنع الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وفق ما يشير إليه أدونيس في "الثابت والمتحوّل". وهذا التوجه العقلاني دفع سروش إلى القول بأنّ أصل اللغة القرآنية، إنسانيّ، لم يتلقّها النبي بالوحي الإلهي مباشرة، فاللغة نتاج إنساني قديم لا أوّل له.

المذهب العلمي التجريبي من أبرز أدوات جابر بن حيّان الذي يُعتبر مؤسّس النزعة التجريبية العلمية، -التي تبنّاها سروش-، وكيمياء جابر تمتاز بالميل إلى الناحية التجريبيّة واستبعاد الخوارق، بينما الكيمياء القديمة كثيراً ما تلجأ إلى الرؤيا والوجدانية، واستخدام فكرة الخوارق في التفسير.

أمّا التعدّديّة فهي تعدّديّة دينية تقوم على قراءات النصّ القرآني باعتباره "نصّ بشريّ"، أي أنّ النبي محمّد خلق اللفظ، وكلمات القرآن هي كلمات محمّد، والمعنى من عند الله. يقول سروش: خلق الله محمداً، وخلق محمد القرآن، فكان القرآن كتاب الله. فالوحي عند سروش لا يختلف عن إلهام الشعراء إلّا في كون النبي يخوض تجربة أسمى وأرفع؛ الوحي عنده أعلى درجات الشِّعر، وعلى هذا الأساس كان للنبي دور محوري في خلق القرآن، فالنبي يقوم بكلّ شيء لأنّ الإلهام والوحي نابعان من داخل النبي نفسه، ولا يتلقّاهما من مصدر خارجي مباشرة.

ويتبنى سروش نظرية وحدة الوجود العينيّة التي ترى أنّ الله والعالم شيء واحد على طريقة جلال الدين الرومي الذي كان يقول: "إنّ اتحاد النبي بالله مثل صبّ مياه المحيط في الدورق"، كما ذُكر في مجلة "نصوص معاصرة"، في عدديها 15-16. فسروش يقول ببشرية النص القرآني، وهذا ما يؤدّي إلى إمكانيّة وجود أخطاء في القرآن، لأنّ النبي صاغه بلغة عصره، ولغة قومه المحدودة آنذاك.

ويعتبر سروش أنّ قول الشيعة بخلق القرآن كان من المفترض أن يكون مقدّمة لفتح آفاق جديدة لفهم الإسلام، وإعادة النظر في ماهيّة النبوة، لأنّ القول ببشرية النصّ القرآني يفتح المجال لتجاوز الكثير من المسائل التي لم تعد لها قيمة أو موضوعية في عصرنا الراهن كما هي العقوبات البدنيّة التي يقرّها القرآن، وهذا ما ينوّه له أيضاً قاسم شعيّب في كتابه "تكوين النص القرآني".

يبدو أنّ سروش تأثّر بابن المقفّع الذي رفض الدين انطلاقاً من مقياس عقلي، وبما أنّ الدين يُؤثِر الصّدق والعدل والعقل والحقّ، ممّا لم يجده ابن المقفّع في الدّين، فإنّه يرفضه

وذكر الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم"، قولَ القرطبي في تفسيره أنّه عندما هاجر النبي إلى المدينة، ودعا اليهود إلى الإسلام، فأجابوه بنوع من الاستفزاز والتحدّي، قائلين له: "ألا تكلّم الله وتنظر إليه إن كنت نبيّاً، كما كلّمه موسى؟! فإنّا لن نؤمن لك حتّى تفعل ذلك." وجاء الردّ من القرآن: "وما كان لبشرٍ أن يكلّمه الله إلّا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء". (الشورى: 45).

وأورد الدكتور صبحي الصالح في كتابه "مباحث في علوم القرآن" أنّ ظاهرة الوحي لم ينفرد بها النبي محمد بل سبقه الأنبياء، كما في قوله تعالى: "إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيّين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان...." (النساء: 163-164). كما يشير الدكتور صبحي الصالح إلى أنّ مفهوم الوحي لم يبتعد عن معناه اللغوي الأصلي لمادّة الوحي والإيحاء، فمنه الإلهام الفطري للإنسان، كقوله تعالى: "وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه" (القصص: 7)؛ ومنه الإلهام الغريزي للحيوان، كقوله تعالى: "وأوحى ربّك إلى النّحل أن اتخذي بيوتاً ومن الشّجر ومما يعرشون" (النحل: 68)؛ ومنه أيضاً الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيحاء، كقوله تعالى: "فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشيّا" (مريم: 11). وعبّر القرآن بالوحي عن وسواس الشيطان وتزيينه خواطر الشرّ للإنسان، كقوله تعالى: و"كذلك جعلنا لكلّ نبي عدواً شياطين الجنّ والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" (الأنعام: 112).

ويشير الدكتور الصالح إلى أنّ الوحي في قاموس الكتاب المقدّس يختلف اختلافاً جوهريّاً عن تفسيره الجامع الموحّد، فالوحي في هذا القاموس هو حلول روح الله في روح الكتّاب الملهمين لاطّلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبيّة، من غير أن يفقد هؤلاء الكتّاب بالوحي شيئاً من شخصيّاتهم، أي من بشريتهم، كما أشار إلى ذلك سروش، ولكلّ منهم نمطه في التأليف وأسلوبه في التعبير. وهنا يبتعد الوحي عن مفهومه الديني المرتبط بالله مباشرة، ويصبح أقرب ما يكون إلى مدلول الكشف، الذي يصل إليه الصوفي العارف بالله بعد ممارسة تقشّفات ورياضات روحية.

الوحي عند سُروش لا يختلف عن إلهام الشعراء إلّا في كون النبي يخوض تجربة أسمى وأرفع؛ الوحي عنده أعلى درجات الشِّعر

وفي الختام يمكننا القول إنه لم يكن سروش أوّل المفكّرين الإيرانيّين اللذين تركوا بصمة فكرية في الحضارة الإسلامية، وفي الذاكرة الجمعيّة للمسلمين عبر تاريخهم، فقد سبقه ثلّة من المفكّرين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، وهو من الشخصيّات المؤيّدة للتوجّه الحداثي في الإسلام، واتخذ لنفسه اسم "الأفغاني" لينأى بنفسه عن أصوله الشيعيّة، والكاتب الإيراني ميرزا خان (1833-1908)، وعالم الدين محمّد حسين النائيني (إيران، 1860-1960)، وآخرون يمكن الاطلاع عليهم من خلال كتاب "روّاد التجديد في الإسلام"، لتشارلز كورزمان.

استطاع عبد الكريم سروش أن يهزّ شجرة القداسة الموروثة بتجرؤه على نقد الفكر الإسلامي السنّي والشيعي، معلّيًاً شأن العقل والعلم الحديث، عبر محاولاته تفسير قضايا جوهرية وأساسيّة، تُعدّ من ركائز الدين الإسلامي ودعائمه الوطيدة، كمسألة خلق القرآن، وظاهرة الوحي، والنبوّة، ونقد الفقه الموروث. وظهرت نزعته الصوفية عبر تبنّيه نظرية الحلول والاتحاد، وهذا ما جعل زمرة من الباحثين يردّون عليه بمقالات وكتب، منها: "قراءات في الفكر الإسلامي المعاصر" للدكتور عبد الأمير زاهد، "الأسس المنطقيّة للاستقراء في ضوء دراسة عبد الكريم سروش" للسيّد عمّار أبو رغيف، "نظرة على مقالة بسط وقبض نظرية الشريعة" للسيّد محمد حسين الطهراني، و "نافذة على سروش" لمجموعة من المؤلّفين.

حسين حاج فرج الدبّاغ، عُرف باسمه المُستعار "عبد الكريم سُروش"، وُلِد في العاصمة الإيرانيّة طهران، سنة 1945. تلقّى تعليمه الثانوي في ثانوية الرّفاه، التي تعدّ من المدارس التي كانت تجمع بين الدراسة الدينيّة ودراسة المواد العلميّة المعاصرة، ثمّ التحقَ بجامعة لندن، وحاز الدكتوراه في الكيمياء والصيدلة، وكان ذلك في زمن الشاه، ليعود إلى إيران عقب نجاح الثورة الإسلاميّة (1979)، ويصبح عضواً في لجنة "الثورة الثقافيّة" بكلّيّة المعلّمين. عُيّن بعد ذلك عضواً في مجلس الثورة الثقافيّة، المُكلّف بإعادة النظر في المناهج الدراسيّة وكوادر التدريس لتوافق النظام الحاكم الجديد. لكنّه ما لبث أنْ غادر إيران إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ليستقرّ فيها، مُدرّسًاً للفلسفة والتّصوّف.


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard