شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الشيخ تاج... نصير غير متوقع

الشيخ تاج... نصير غير متوقع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 28 ديسمبر 202001:15 م

في مطلع العام 1928، وصل رجل دين معمّم إلى سدة الحكم في دمشق، يدعى الشيخ تاج الدين الحسني (1885-1943)، وهو من أعرق العائلات العلمية في سورية ونجل المحدّث الأكبر، الشيخ بدر الدين الحسني، فقيه بلاد الشام وأشهر علمائها.

اتفق المؤرخون حول الحسني الأب واختلفوا كثيراً حول نجله الذي هيمن على المشهد السياسي السوري، من يومها وحتى وفاته رئيساً للجمهورية في منتصف الحرب العالمية الثانية. البعض وصفه بالرئيس المعمار، وذلك لكثرة المشاريع العمرانية التي تمّت في عهده، أما أعداؤه، وهم كثر، فقد أطلقوا بحقه أبشع التهم، واصفين الرجل بأنه حليف فرنسا الأول في سورية وصنيع أجهزة مخابراتها.

ولكن وبعيداً عن السياسة والإعمار، لعب الشيخ تاج دوراً حضارياً في دعم الفنون وحرية الرأي والتعبير في سورية، وتحدى بمفرده سلطة رجال الدين ورقابتهم المفروضة على السينما والمسرح ودور النشر. هذا الجانب من شخصيته لم يُذكر في كتب التاريخ التي فضّلت تناول الشيخ تاج من الزاوية السياسية فقط، دون التطرق إلى الإرث الثقافي الذي تركه.

دافعت زين الدين في كتابها عن السفور، وسمحت لنفسها بتفسير النص القرآني المتعلّق بحجاب المرأة، قائلة إنه ليس ملزماً في الإسلام، كما أضافت أن المرأة لا تقل عقلاً وديناً عن الرجل، وبأن حجابها يجب أن يكون اختيارياً وليس فرضاً. وأخيراً، طالبت بتقليص دور المحاكم الشرعية وتوسيع صلاحيات المحاكم المدنية

الشيخ تاج والحجاب والسفور

تفاءل رجال الدين خيراً بوصول الشيخ تاج إلى السلطة عام 1928. كان قد عمل بشبابه في القضاء الشرعي، وأشرف على التعليم الديني في مدينته وعلى إصلاح المدارس في زمن العثمانيين، قبل أن يصبح نائباً عن دمشق في المؤتمر السوري الأول عام 1919. بعد شهر واحد من وصوله إلى الحكم، صدر كتاب إشكالي في بيروت، حمل عنوان "السفور والحجاب" للكاتبة الشابة نظيرة زين الدين، ابنة رئيس محكمة الاستئناف في لبنان.

دافعت زين الدين في كتابها عن السفور، وسمحت لنفسها بتفسير النص القرآني المتعلّق بحجاب المرأة، قائلة إنه ليس ملزماً في الإسلام، كما أضافت أن المرأة لا تقل عقلاً وديناً عن الرجل، وبأن حجابها يجب أن يكون اختيارياً وليس فرضاً. وأخيراً، طالبت بتقليص دور المحاكم الشرعية وتوسيع صلاحيات المحاكم المدنية، وبالحدّ من سطوة رجال الدين، مستنجدة بالمندوب السامي الفرنسي غابريل بونسو، الذي أرسلت له زين الدين عشر نسخ من كتابها.

ظنّ علماء الشّام أن رئيس الحكومة سيمنع تداول كتاب "السفور والحجاب" للكاتبة الشابة نظيرة زين الدين، ولكنه صدمهم بالموافقة عليه وتبنيه، كما أنه دعا وزير المعارف في عهده، محمّد كرد علي، أن يشتري عشرين نسخة من الكتاب، وأن يضع مراجعة نقدية لما جاء فيه من طروحات في مجلّة "مجمع اللغة العربية" التي كان يديرها.

وضع كرد علي دراسة إيجابية عن كتاب نظيرة زين الدين، نشرت في مجلّة المجمع نهاية صيف 1928. كانت تلك المجلّة واسعة الانتشار بين مثقفي دمشق وطلاب العلم فيها، وخلال شهرين من صدور مقال محمد كرد علي، نفذت جميع نسخ الكتاب من المكتبات السورية، وقامت المؤلفة بطباعة طبعة ثانية.

رسالة تاج إلى نظيرة زين الدين، من مقتنيات عائلتها.

ظنّ علماء الشّام أن رئيس الحكومة سيمنع تداول الكتاب في سورية، ولكنه صدمهم بالموافقة عليه وتبنيه، كما أنه طلب من وزير المعارف في عهده، محمّد كرد علي، أن يشتري عشرين نسخة من الكتاب، وأن يضع مراجعة نقدية لما جاء فيه من طروحات في مجلّة "مجمع اللغة العربية" التي كان يديرها

استهجن علماء الدين تصرف رئيس الحكومة ورأي محمّد كرد علي بالكتاب، وجاء رد المشيخة الإسلامية هذه المرة من لبنان وليس من دمشق، عبر الشيخ مصطفى الغلاييني، رئيس المجمع الإسلامي في بيروت، الذي وضع رداً مطولاً على نظيرة زين الدين بعنوان "نظرات في كتاب السفور والحجاب". صدر كتابه بعد شهرين من كتاب زين الدين، وشكك بأنها لم تؤلف "السفور والحجاب" بنفسها، بل إنه من تأليف المبشرين المسيحيين المقيمين في لبنان، الذين استغلّوا صغر سنها و"جهلها" بأمور الدين، لتمرير مشاريعهم العلمانية.

الشيخ تاج والمسرح

ثم كانت الصدمة الثانية عند تبني الشيخ تاج لفرقة من الفنانين الشباب الذين كانوا يقدمون العروض المسرحية في دمشق تحت عنوان "نادي الكشاف الرياضي". قدموا بعض العروض العالمية، مثل "تاجر البندقية" لشيكسبير، والتاريخية، مثل "صلاح الدين الأيوبي" التي عرضت في كانون الثاني عام 1929، بحضور الشيخ تاج. تعرض النادي لحادثة نصب أودت بكل مدخراته، فأُجبر أعضاؤه على إعلان إفلاسهم وإيقاف نشاطاتهم. لم يرض الشيخ تاج بهذا المصير للفنانين السوريين، نظراً لإعجابه الشديد بمسرحهم، بالرغم من خلفيته الدينية المحافظة، وكان لا يرى تطاولاً في المسرح على الدين أو على القيم الاجتماعية.

خلال أسفاره المتكررة إلى باريس، كانت زيارة المسارح والمتاحف والمعارض الفنية جزءاً من جدول الشيخ تاج اليومي، بترتيب طبعاً من مضيفيه الفرنسيين. أوعز الشيخ تاج لوزير الداخلية، جميل الإلشي، بتأسيس نادٍ جديد في دمشق، بعد أربعين يوماً فقط من إغلاق "نادي الكشاف"، ومساعدته مالياً لكي يتجنب مصير النادي المُنحل. أُشهر النادي الجديد بأمر من الشيخ تاج، يوم 30 كانون الثاني عام 1930، وضم معظم الفنانين الهواة المتوقفين عن العمل. زار الفنان المصري الكبير يوسف وهبي دمشق لمباركة النادي الجديد، وحل ضيفاً على الشيخ تاج. فأقام النادي حفل تكريم له وسمّاه رئيساً فخرياً، وأعطيت عضوية شرفية للفنانة المصرية المرافقة ليوسف وهبي، وهي أمينة رزق.

في عهد الشيخ تاج صارت الدولة السورية تهتم بالممثلين الهواة، ولو بشكل محدود، وأدى هذا الأمر للرفع من شأنهم قليلاً، في المجتمع الدمشقي المحافظ والرافض للمسرح والفنون، فقد قام رئيس الحكومة مثلاً بتوظيف الفنان الشاب، أنور البابا، في السراي الكبير، براتب 21 ليرة بالشهر، ما سمح له أن يبني فريقاً فنياً مع أصدقائه الهواة. لم يعارض الشيخ تاج ظهور البابا الليلي على خشبة مسارح دمشق بعد انتهاء الدوام الرسمي، حيث كان يقدم له البريد كل يوم، وهو الذي ذاع صيته في سورية بعد مدة، عند تقديم شخصيته المحبوبة "أم كامل"، التي صارت من أشهر معالم الفن السوري من الأربعينيات وحتى نهاية السبعينيات.

البعض وصفه بالرئيس المعمار، وذلك لكثرة المشاريع العمرانية التي تمّت في عهده، أما أعداؤه، وهم كثر، فقد أطلقوا بحقه أبشع التهم، واصفين الرجل بأنه حليف فرنسا الأول في سورية وصنيع أجهزة مخابراتها... قصة الشيخ تاج

الشيخ والسينما

وأخيراً كانت معركة الشيخ تاج مع رجال الدين في قضية السينما، التي أحبها رئيس الحكومة وأراد أن يطورها مع المسرح

وأخيراً كانت معركة الشيخ تاج مع رجال الدين في قضية السينما، التي أحبها رئيس الحكومة وأراد أن يطورها مع المسرح.

قبل الحرب العالمية الأولى، استطاع علماء دمشق إيقاف عرض مسرحي تدور أحداثه في الأندلس، بحجة أنه يمزج بين الواقع والخيال، وفي عام 1919 نجحوا بإيقاف عرض سينمائي كان مخصصاً للنساء في مدينة دمشق. في نهاية العشرينيات، حصل رجال الدين، المسيحون والمسلمون معاً، على حق مراقبة الأفلام السينمائية الأجنبية قبل عرضها في الصالات السورية، للموافقة عليها أو رفضها. وافقت حكومة الانتداب على إعطائهم هذا الحق، شرط ألا يكون لهم سلطة على الأفلام الفرنسية القادمة من باريس، ولكن الشيخ تاج عارض ذلك بشدة وحذّر من عواقب الرقابة غير المدروسة، قائلاً إنها يجب أن تكون على المشاهد الخلاعية فقط والمخلة بالآداب، لا على السينما بالمطلق.

منعوا مثلاً الفيلم الألماني "آدم وحواء" من أن يعرض في دمشق، لإظهاره أول خلق الله من البشر على الشاشة الفضية، وفي عام 1929 أوقفوا عرض الفيلم الأميركي "فاضل" للمثل شارلز فاريل، الذي يحكي قصة أمير عربي يسيء التعامل مع زوجته الأوروبية. حتى الكنيسة الأرثوذوكسية بدمشق شاركت بالرقابة يومها، ومنعت الفيلم الأميركي "ملك الملوك" من العرض، لإظهاره الأسابيع الأخيرة من حياة المسيح على الشاشة. لم يستطع أحد من التقدميين يومها الوقوف في وجههم، فتوسعت رقعت الممنوعات لتشمل الفيلم السوري الأول "المتهم البريء"، الذي كان من المفترض أن يُعرض في سينما الكوزمزغراف (سينما أمية لاحقاً) عام 1928.

قصة الفيلم  كانت مأخوذة من الواقع، عن عصابة من اللصوص فتكت بأهالي دمشق أيام العهد الفيصلي، وتم تصوير مشاهده في الكهوف المحيطة بجبل قاسيون المطل على العاصمة السورية. اعترض رجال الدين على ظهور فتاة سورية بالفيلم، بالرغم أنها كانت قد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها وحاصلة على موافقة أهلها للظهور في العمل. لم تتدخل هيئة الرقابة الفرنسية في هذا الخلاف، خوفاً من ردود أفعال المشايخ، وقامت بمنع الفيلم بحجة أن الموسيقى المرافقة للفيلم كانت مسروقة. أُجبرت الشركة المنتجة على إعادة تصوير مشاهد الفتاة، بالرغم من التكلفة الكبيرة، واستبدلت الممثلة السورية براقصة ألمانية كانت تعمل في ملهى "الأولومبياد" في دمشق.  

في نفس العام، قرّر أصحاب سينما النصر القريبة من ساحة المرجة تقديم عرض للسيدات السوريات عصر كل يوم أربعاء، بعد أخذ موافقة رئيس الحكومة. اعترض رجال الدين مجدداً، وعندما رفض أصحاب السينما الانصياع لطلباتهم، حصل حريق في السينما قبل العرض النسائي بساعات معدودة، أدى إلى تدميرها بالكامل، وقيل يومها إنه حريق مُفتعل. توفي عشرة أشخاص إثر هذا الحريق ودُمّر سوق الناصرية القريب، الواقع بين شارع السنجقدار وسوق التبن.

بعد سنوات، تكرر الصدام ذاته في حماة، عند اعتراض مشايخ المدينة على إدخال مكبرات الصوت على إحدى صالات العرض، وقالوا إن ذلك يشجع الناس أكثر وأكثر على دخول السينما، واستطاعوا منع عرض أول فيلم مصري ناطق، كان عنوانه "أنشودة الفؤاد،" الذي تدور أحداثه في أحد ملاهي القاهرة، وكان ذلك بدعم من مفتي حماة، الشيخ سعيد النعسان، وفعلوا ذات الشيء مجدداً بعدها بعام، عند مجيء فيلم "الوردة البيضاء" لمحمد عبد الوهاب إلى دمشق. يومها، أصرّ أصحاب "سينما أمير" على عرضه، فاقتحم بعض طلاب المدارس الدينية صالة العرض في طريق الصالحية، محاولين إيقاف العرض، ولكنهم أخرجوا بالقوة هذه المرة، بأمر من الشيخ تاج الحسني.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard