شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
بقاء بـ“دافع الحب“... محلات تخلت عن الحداثة في وسط القاهرة بإرادتها

بقاء بـ“دافع الحب“... محلات تخلت عن الحداثة في وسط القاهرة بإرادتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 19 ديسمبر 202003:30 م

حين بدأ فلسطينيون نزوحهم إلى مصر عقب هزيمة 1948، كانت في انتظارهم أسرة فلسطينية سبقتهم إلى القاهرة ولكن في ظروف مغايرة.

عام 1905 كان أول نزول للجد محمد علي بدران، مولود في القدس عام 1889، إلى مصر، إذ جاء عبر السكة الحديد في رحلات تجارية انتهت به إلى الاستقرار بالقاهرة في سن صغيرة، والتجارة في الصابون النابلسي ضمن ما يعرف بـ"وكالة الشوام" في حي الجمالية بالقاهرة القديمة.

عام 1934 كان قد مر على بدران حوالي ثلاثين عاماً بالوكالة قبل انتقاله إلى منطقة وسط البلد، كما يطلق عليها المصريون، حيث التجارة بالمواد الغذائية "البقالة" بمحل صغير استأجره على ناصية شارع أحمد عرابي.

في صيف 1954، شهد محيط محل بدران تحولات معمارية، غالباً ما تختبرها أوجه المدن بمرور الزمن، فطوى سنوات عمره الخمس والستين، وحل بها في محطته الأخيرة، حيث متجر بسقف مرتفع في شارع نجيب الريحاني، علّق على بوابته لافتة "البقالة الفلسطينية" فظلت حتى اليوم محتفظة بهيئتها، وتاريخ صاحبها.

ولأن المصريين نُقعوا حتى النخاع في قضاياهم الداخلية منذ حقبة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، تبدو اللافتة للمارة غريبة، ليس فقط بسبب تصميمها الذي أصر ورثتها على التمسك به، رغم تخلفه عن حداثة غربية أغرقت شوارعنا، ولكن لأنها تحكي قصة عائلة فلسطينية قدمت إلى مصر، ونجحت في الاندماج.

بحالة جيدة نسبيًا للواجهة الزجاجية، والأرفف الخشبية الداكنة، التي عجز لونها الأخضر عن مقاومة آثار الزمان، تبرز البقالة اليوم، بعد أن نصب صاحبها عند مدخلها حاجزاً بلاستيكياً يمنع وصول الوافدين إلى الداخل، ضمن الاحتياطات لتجنب فيروس كورونا.

المكان بالنسبة للعائلة ليس مجرد مصدر رزق.

يقول علي (57 عاماً) حفيد الجد بدران، والمسؤول عن تسيير أعمال البقالة لرصيف22 إن المكان بالنسبة للعائلة ليس مجرد مصدر رزق، "ولكنه تاريخ نٌعرف به سواء في محيط منطقتنا بالقاهرة أو على امتداد العائلة بالخليل والقدس والأردن".

ثمة مقصد وراء التمسك بالقديم، بحسب علي، إذ يرى أن "جمالية المكان تنطلق من الارتكان إلى الماضي، والاستمرار لما يقرب من 66 عاماً حتى الآن"، ولهذا يستحضر القديم في طريقة البيع والشراء، فهو يصرّ على استخدام الورق في لفّ السلع، وهذه الطريقة التي تجاوزها الزمن منذ عقود، واستبدلها بالأكياس البلاستيكية.

يتحدث علي متباهياً بمحل جده: "يعتبر وجهة لمشاهير قطنوا منطقة وسط البلد في الستينيات والسبعينيات، بالإضافة لاحتفاظه بزبائن تركوا مراكز التسوق الشهيرة، وتمسكوا به".

"الفلسطينية" ليست وحدها التي تغيّبت عن مظاهر الحداثة بإرادة أصحابها، فغيرها الكثير من المتاجر التي تمسك أصحابها بقديمهم، وهم يمتعضون من كل ما هو جديد.


بقاء بدافع الحب

محمود رشوان كان ضمن هؤلاء المتمسكين بالقديم، إذ يعمل بصنعة المناخل والغرابيل التي تنتمي للمهن الأولى التي عرفتها البشرية.

في ليلة خريفية دافئة، تخلى فيها رشوان عن سترته الثقيلة، جلس يحكي أمام باب دكانه المتهالك لرصيف22 عن بدايات دخوله للمهنة، وكيف أن بقاءه فيها "بدافع الحب".

يقول رشوان (67 عاماً): "أنا مهندس معماري، قضيت أكثر من نصف عمري في التنقل بين البلدان"، ليستقر به المطاف في النهاية بحجرة في بيت قديم يدعى "بيت العجم"، بشارع المعز لدين الله الفاطمي بالقاهرة القديمة، تفتح على الصحن.

يعيد رشوان بداية قصته إلى عام 1931، حين وصل والده الذي امتهن صناعة المناخل في بيت العجم، ليكون المصري الوحيد في بيت العجم الذي ضم عائلات من الخليل بفلسطين، وحلب، والسودان.

"ليس مجرد رزق"، يقول حفيد صاحب محل "البقالة الفلسطينية"، وهو من عائلة قدمت من القدس إلى مصر بداية القرن الماضي، ونجحت في الاندماج، وحافظ أصحابها على "روح القاهرة القديمة" إلى الآن

"حوّل والدي إحدى حجرات صحن البيت الذي يمتد عمره لـ 150 سنة، لمحل يبيع فيه ما يصنعه من غرابيل ومناخل، ورغم أن المحل كان يبعد عن واجهة الشارع خمسة أو ستة أمتار إلا أنه تمسك بحجرته حتى وفاته عام 1970" يقول رشوان.

بغياب الوالد، وتنقل الابن المهندس بين البلدان أغلق المحل بابه، إلى أن أُحيل رشوان إلى المعاش قبل سبع سنوات، فعاد لمهنة الأب، وأعاد الروح للمكان.

لم تغر سفريات رشوان الكثيرة، ولا عمله بالتصميمات لإضفاء تعديلات على المحل، الذي شُقّت جدرانه، وخُلعت بلاطاته. فتح المكان وجلس أمامه.

ويبرر رشوان، الذي يقطع صباح كل يوم الطريق من سكنه بإحدى بنايات حي المهندسين الراقي (غرب القاهرة) إلى حي الجمالية حيث دكان والده، بأنه حل "منهكاً من البهرجة والابتذال، جئت بحثاً عن رائحة والدي، ومهنة تمنح بساطتها راحة البال".


شاهدة الزحام والمواكب الرئاسية

غير بعيد عن ميدان باب الشعرية في القاهرة القديمة، وضع الصيدلاني عريان صادق في آب/أغسطس 1959 لافتتين حديثتين (بمعايير زمنهما) من الخشب والزجاج، وملأهما بمنتجات طبية عند مدخل مكان سمّاه "أجزاخانة الوفاء".

تحدث عريان لرصيف22 عن محطاته مع الصيدلية، وكيف وصل بها الحال. قال: "وصلت هنا عام 1988، بعدما قررت الاستقرار بمصر بعد سفريات عمل تنقلت فيها عقب تخرجي في 1976 بين السعودية وسويسرا".

وتابع: "حتى أول السبعينات كانت الصيدلية تحظى بمظهر ملائم لعصرها، لكن الأمر تحول حين عرفت مصر الانفتاح، وبدأت واجهات المحالّ تصبغ بصبغة غربية".

لم يهتم صادق بمواكبة الجديد، ويبرر موقفه: "يبقى المهم في مهنة الصيدلة المهارة والخبرة، بل أحياناً يميل الناس للصيدليات القديمة لبحثهم عن أطباء ذوي خبرة".

بعد أن شارف المهندس رشوان على السبعبن، أتعبه الترحال، فعاد إلى محل والده، يقول: "أنهكت من البهرجة والابتذال، أبحث عن رائحة والدي، ومهنة تمنح راحة البال"

وبفعل هذا المنطق أبقت "الوفاء" التي سميت على اسم ابنة مؤسسها، بحسب صادق، على أرففها الخشبية القديمة، وثلاجتها المتهالكة التي بالكاد تحفظ الدواء.

ويلخص الصيدلاني السبعيني الاختلافات التي طرأت على مهنته خلال العقود الأخيرة، في انصراف الأطباء عن الوصفات المركبة، مما صرف الصيادلة بالتالي عن تصنيع التركيبات.

وأوضح: "صيدليات قليلة جداً تمتلك اليوم مهارة توفير التركيبات، مع العلم أنها لم تعد مجزية مادياً".


وأضاف صادق الذي قضى آخر 32 عاماً من حياته في حي باب الشعرية، شاهداً على تحولاتها: "دائماً ما يعرف الحي بخلية النحل لتخصصه في التجارة والمهن الحرفية، لكنه لم يصل للعشوائية التي عليها الآن".

وتابع: "احتفظ الحي بذكرياته عن ساكنيه من الأعيان، لا سيما مواكب الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يقطع كل يوم شوارع باب الشعرية في طريقه من منزله بمنشية البكري إلى مقر حكمه بقصر القبة". وأكمل: "كل ذلك تبدد اليوم بعدما تخلى الحي الشعبي عن أرستقراطيته لصالح ورش الفقراء"، بحسب تعبير صادق.


الزواوي... تمصير صناعة العطور

في الغالب لم يكن ينتبه الشقيقان محمود وعلي الزواوي إلى أنهما يؤسسان لصناعة مصرية للعطور، عندما تشجّعا عام 1956 على اقتحام سوق الروائح بفتحهما أول محالهما «إخوان الزواوي» بشارع درب البرابرة في منطقة العتبة، الذي مهّد بعد ذلك لسلسلة محالّ حملت نفس الاسم.

ويعود عبد السلام الزواوي (56 عاماً) نجل المؤسس محمود وأحد المسؤولين الحاليين عن الإدارة إلى البدايات، يقول لرصيف22: "لم تكن سهلة؛ إذ بدأ الشقيقان في الفترة التي عانى فيها سوق العطور من فراغ، خلفه خروج الأجانب من مصر خلال فترة حكم الراحل جمال عبد الناصر".


ويتابع: "ولأن الأجانب كانوا أساس صناعة العطور في مصر منذ بدايتها وحتى الخمسينات، سبّب خروجهم صدمة تحمل مسؤولية ترميمها تجارب فردية مثل تلك التي أسس لها الأخوان الزواوي».

وبمرور الوقت تجاوزت تجربة الأخوين بدرب البرابرة مرحلة التأسيس لصناعة مصرية للعطور، وتحولت إلى نموذج أمكن تكراره حتى تحولت المنطقة لسوق من صانعي العطور وتجار المنظفات.


ويوضح الزواوي (الابن الذي يعمل بالمهنة منذ كان في عمر 17 سنة)، أن ذلك سبب منافسة طاحنة إلا أن ذلك لم يؤثر على اسم الزواوي الذي يستند إلى تاريخه.


ولهذا يقول إن القائمين على المحل اليوم متمسكون بهيئته القديمة، التي تبرهن على الخبرة، ومن ثم تُعد خط دفاع أمامياً في وجه الوافدين الجدد على السوق.


ويرصد عبد السلام الزواوي التحولات التي طرأت على سوق العطور بين فترة إدارة الأخوين الزواوي وفترة الأبناء والأحفاد، يقول: "شهدت العطور توسعاً بفعل احتياجات صناعة أدوات التجميل التي حلت محل تجارة العطور الصريحة اليوم"، مؤكداً أن ذلك لم يكن موجوداً في الماضي عندما كانت العطور الصريحة صاحبة الطلب الأول في السوق.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard