شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
قرار إغلاق جديد لا علاقة له بفيروس كورونا… هل نفقد القاهرة التي نعرفها؟

قرار إغلاق جديد لا علاقة له بفيروس كورونا… هل نفقد القاهرة التي نعرفها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 27 نوفمبر 202007:41 م

ليس في القاهرة سوى ليلها، فالعاصمة صباحاً تكتظ بالملايين الذين يذهبون لأشغالهم أو يقضون مصالحهم في المؤسسات الحكومية المتمركزة في تلك المدينة، فتجد نفسك في النهاية أمام خليط من الزحام المروري والتكدس والاختناق، لكن ما إن ينتهي النهار وتهدأ الحركة كثيراً، حتى تظهر لك سحرها بشوارعها الممتلئة بالناس ونيلها الذي تضيئه الأنوار وهوائها البارد، ربما لذلك نجد الليل حاضراً بقوة في معظم الأغاني التي تناولت جمال قاهرة المعز.

السطور السابقة كتبتها قبل ثلاث سنوات حين اضطررت للعمل "فترة مسائية"، وككثيرين غيري، بات ما بعد منتصف الليل بالنسبة لنا هو الملاذ الوحيد للقاء الأصدقاء بعيداً عن "مفرمة" الحياة، لكنني أيضاً في تلك الفترة أدركت أن هناك أمرين جعلا من القاهرة عاصمة مميزة بجانب تنوعها العمراني وتاريخها الطويل. 

فقدان القاهرة التي نعرفها أمر لا يخص المصريين وحدهم.

الأول هو أن تلك المدينة التي يتجلى سحرها في الليل قادرة على احتواء الجميع بدون تفرقة، فإن كنت تملك أموالاً قليلة، فستجد المقهى الذي ستجلس فيه والمطعم الذي ستأكل منه ووسيلة المواصلات التي تناسبك، تماماً مثل من يملك أموالاً وفيرة، فكل أمرؤ له مكان في القاهرة. 

أما الأمر الثاني فهو أن هذا الاحتواء والتعدد في مطاعمها ومقاهيها وأماكن التنزه جعلاها في النهاية مدينة لا تخفت أنوارها حتى الصباح بسبب الرواد الذين لا ينقطعون، فالمدينة تنبض بالحياة، وهو ما يؤدي إلى شعور الفرد فيها بالأمان في أي وقت، لأنه لا يسير وحيداً أبداً. 

لكن العاصمة التي تنبض بالحياة على وشك أن تصبح مدينة لا نعرفها، بعد أن حددت وزارة التمنية المحلية مواعيد إغلاق للمقاهي والمحالّ والورش الصناعية في منتصف الليل في الشتاء، والواحدة صباحاً في الصيف باستثناء الأماكن السياحية ومحالّ الدواء و"الديليفري" بالنسبة للمطاعم، وتلك القرارات سارية ولا علاقة لها بجائحة كورونا، أما موعد تطبيقها فسيكون الأول من كانون الأول/ ديسمبر. 

إنّ العاصمة التي تنبض بالحياة على وشك أن تصبح مدينة لا نعرفها، بعد أن حددت وزارة التنمية المحلية المصرية مواعيد إغلاق للمقاهي والمحالّ والورش الصناعية في منتصف الليل في الشتاء، والواحدة صباحاً في الصيف

وبعيدًا عن حرماني لقاء الأصدقاء بعد منتصف الليل، إلا إذا كنت قادراً على دفع "فيزيتا" الأماكن السياحية، وهذا أمر ليس بالمقدور دائماً، وليس حلاً أيضاً... لكني لم أمنع نفسي من تخيل المشهد الذي سأراه بعد أيام، المحالّ التجارية والمولات تغلق أبوابها وتُطفىء أنوارها في العاشرة مساءً، تتبعها بعد ساعتين المقاهي والبازارات، وبطبيعة الحال هذا يؤدي إلى ندرة الحركة في الشوارع وانسحاب وسائل المواصلات التي تعمل خصيصاً من أجل رواد ما بعد منتصف الليل، وفي المحصلة النهائية  تتحول القاهرة إلى مدينة أشباح في الليل، والعاصمة التي ظلت تنبض بالحركة طوال الوقت تفقد روحها، فتصبح مدينة لا نعرفها ولا تنتمي إلينا ولا نحن لها.

فقدان القاهرة التي نعرفها أمر لا يخص المصريين وحدهم، ورغم أن أغلب السائحين والسائحات العرب والأجانب قادرون على دفع تكلفة أي مكان سياحي، فإن هذا لا يمنع أن الكثير منهم يجيئون للقاهرة في المقام الأول من أجل اكتشاف روحها الفاطمية الممثلة في الجلوس بالمقاهي الشعبية والتحدث مع الناس البسطاء والتعرف على العادات والتقاليد في الطبقات البسيطة.

وبتنفيذ قرارات كهذه، ستصبح الفرصة أمام هؤلاء السائحين ضئيلة جداً في ظل نهار طاحن يقضيه المصريون في العمل، بل يمكنني القول إنه منذ هذا التاريخ، أول كانون الأول/ ديسمبر، على كل  سائح لديه صورة راسخة عن القاهرة الساهرة أن يعرف أن ذلك لن يكون متاحاً أمامه إلا في أماكن محدودة، ولن يرى فيها ما يبحث عنه، تماماً كصديقي الأردني الذي أسره ليل القاهرة ومقاهيها الشعبية، فأخبرني أنها تجربة يجب أن تتكرر، لكن بعد كل هذا لا أعرف موقفه. 

في المحصلة النهائية  ستتحول القاهرة إلى مدينة أشباح في الليل، والعاصمة التي ظلت تنبض بالحركة طوال الوقت ستفقد روحها، فتصبح مدينة لا نعرفها ولا تنتمي إلينا ولا نحن لها

والآن بقي القول إن تحويل العاصمة إلى مدينة لا نعرفها، لا ينفصل عن سياق عام بدأ خلال السنوات الماضية، سياق يشير إلى أن هناك دولة جديدة تُبنى، يظهر ذلك جلياً في المدن الجديدة التي يتم تشييدها، والطرق والجسور التي ملأت الدنيا، وكان يمكن أن أصبح مواطناً سعيداً بكل هذا لولا إدراكي أن الدولة الجديدة ليس لي مكان فيها أنا والملايين من المصريين، فلا أسعار الوحدات السكنية "الباهظة" في تلك المدن الجديدة تناسب شعباً، متوسط دخل الفرد منه سنوياً هو 51 ألف جنيه، كما لا يملك كثيرون رفاهية دفع رسوم الطرق الجديدة، وآخر الحلقات أن حتى السهر الذي ظل ملاذنا الوحيد وما تبقى لنا، حُرمنا منه في القاهرة وأصبح متوفراً لمن يدفع أكثر ويستطيع ارتياد الأماكن السياحية للقاء أصدقائه. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard