شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"كأنها عملية تعمير حيط من خيط"... حرفة الخياطة العربية في حماه تصارع للبقاء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 26 نوفمبر 202003:04 م

لا يشبه السير في مدينة حماه القديمة وأسواقها وأزقتها المتشعبة السير في أي مدينة سورية أخرى. لا يعود ذلك لخصوصية طرازها العمراني، أو لازدحامها اللافت في ساعات النهار، أو لاصطفاف المحال المختلفة جنباً إلى جنب، وكأنها أجزاء ستشكل في نهاية الأمر قطعة قماش كبيرة متجانسة، بل يعود لارتداء العديد من سكانها وأصحاب المحال والعاملين فيها لباساً مميزاً قد يندر أن نجده اليوم في مكان آخر.

أستوقفُ أحد المارة. أسأله عن السترة التي يرتديها، وهي سوداء ذات تطريز مميز باللون الأسود أيضاً على حوافها وكمّيها العريضين، يسمى بالعامية السورية "تخريج". يخبرني بأنها "سترة العمل" التي اعتاد ارتداءها كل يوم عند نزوله للمحل الذي يشغل فيه منصب بائع، ولديه سترات أخرى لمناسبات مختلفة، وهي مطرزة بألوان متنوعة وذات نوعية أفضل.

"معظم الرجال في حماه وريفها يحبون هذا الزي الذي نطلق عليه اسم الزي العربي، وهو لباس الآباء والأجداد، ويتفاخرون بما يمتلكونه من قطع ثمينة منه"، يقول الرجل تاركاً إياي في فضول لمعرفة المزيد عن هذا اللباس الحموي المميز.


قنباز ودامر ودشداشة

"الخياط العربي هو نقيض الإفرنجي"، يجيبني سعيد يعقوب آغا وهو من أواخر خياطي اللباس العربي في حماه، عن سؤال طرحتُه حول معنى "الخياطة العربية".

معظم الرجال في حماه وريفها يحبون الزي العربي، وهو لباس الآباء والأجداد، ويتفاخرون بما يمتلكونه من قطع ثمينة منه

"الخياطة العربية تعني الشروال والصدرية والعباية والجلابية والقنباز والدشداشة والدامر، في حين أن الخياطة الإفرنجية تعني البنطال والجاكيت"، يقول الرجل الخمسيني من داخل محله الكائن بسوق الصاغة، أحد تفرعات سوق الطويل الشهير وسط المدينة.

ويشرح الفرق بين أسماء هذه القطع المختلفة، فالقنباز طويل مثل الجلابية ولا أزرار له، والدشداشة ذات أزرار وياقة مدورة، والدامر لا ياقة له ولا أزرار على كميه المفتوحتين من نهايتهما، وإن كانت الأكمام مغلقة فنكون أمام قطعة تسمى القطشية.

ويعود تاريخ هذه الحرفة، حسب مسعيد الذي تعلمها لدى والده وجده، إلى أيام الاحتلال العثماني. ويوثق كتاب "الحرف التقليدية في سورية" الصادر عن الاتحاد العام للحرفيين عام 2011 صور العديد من هذه الملابس التقليدية المستخدمة في محافظات مختلفة، منها محافظة حماه، ويعود تاريخها للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر على الأقل، كما يذكر الكتاب صناعة الجلابيات والشراويل العربية على أنها من الحرف التقليدية التي تميز حماه بشكل خاص.

من قطع الملابس العربية - تصوير زينة شهلا


الملابس العربية تحتاج الصبر والإتقان

تتضمن عملية إنتاج أي قطعة من الملابس العربية عدة مراحل تتطلب الإتقان، ويشرف عليها بشكل متسلسل صاحب الحرفة. "نشبّه مهنتنا بأنها عملية ‘تعمير حيط من خيط’ لنعبر عن صعوبتها ودقتها والزمن الذي تحتاجه وقد يصل حتى شهر ونصف الشهر، والمنتج النهائي يتمتع بالقوة والصلابة والجمالية في الوقت ذاته"، يقول سعيد يعقوب آغا، ويضيف مبتسماً أن لا غرابة بأن يقع محله وسط سوق الصاغة وهي حرفة تشتهر بالدقة أيضاً.

تبدأ الرحلة بتفصيل القطعة من القماش المرغوب -كالكتان- وحسب قياسات الزبون، وبعدها توزع مهام التطريز على عدة رجال ونساء يعملون على الأغلب من منازلهم. تُنجز مرحلة التطريز باستخدام الإبرة وخيوط ثخينة للجهة الخارجية من الثوب وأخرى رفيعة للجهة الداخلية، وهي خيوط مصنوعة من الحرير النباتي، وقد تُدخل لها خيوط الحرير الملفوفة بالقصب الفضي أو الذهبي أو النحاسي حسب الرغبة، وتحتاج المرحلة على الأقل خمسة عشر يوماً حسب مساحة التطريز والنقشة المرغوبة، ومن أشهر النقشات الحموية الحلزون والحلق والثريا.

يشبّه الخياط مهنة الخياطة العربية بأنها عملية ‘تعمير حيط من خيط’ للتعبير عن صعوبتها ودقتها والزمن الذي تحتاجه وقد يصل حتى شهر ونصف الشهر، والمنتج النهائي الذي يتمتع بالقوة والصلابة والجمالية في الوقت ذاته

وعند الانتهاء من التطريز تركب القطعة المطرزة على الثوب الأساسي الذي توصل أجزاؤه بعضها ببعض بواسطة الإبرة أو آلة الخياطة، وتضاف إليه الأزرار التي يحصل الخياطون عليها من مناطق محددة في ريف دمشق تشتهر بإنتاج هذا النوع من الأزرار الصغيرة المصنوعة من الخيوط الملفوفة بعضها على بعض وتتمتع ببنية قاسية وشكل مدور. وهنا تأتي المراحل النهائية من تركيب البطانة القماشية، والكي، ومراقبة الجودة لضمان إنتاج قطعة خالية تماماً من أي عيوب قبل تسليمها للزبون.

وتصل تكلفة الجلابية، كما يقول الخياط، إلى 100 ألف ليرة (45 دولاراً أمريكياً وفق سعر الصرف غير الرسمي) وتكلفة الطقم العربي إلى حوالى 150 ألف ليرة سورية (70 دولاراً)، وقد تزيد في حال إضافة خيوط القصب وتُقدر كميتها بشكل دقيق بالغرامات.


من قطع الملابس العربية - تصوير زينة شهلا


"سأبقى هنا فهي مهنة أبي وجدّي"

يعمل سعيد يعقوب آغا في الخياطة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وبدأ بتعلمها منذ سنوات دراسته الثانوية. يشير إلى محل الصائغ المقابل على الزاوية، وكان فيما مضى مشغلاً يملكه خياط يدعى فؤاد الشيشكلي، وهو المكان الذي انطلق منه والد سعيد منذ عقود طويلة، قبل الانتقال للمحل الحالي الذي يشعر الرجل بالفخر لاستمراره بالعمل فيه حتى اليوم رغم كل الصعوبات، ويعلق صورة كبيرة لوالده على أحد جدرانه.

"في هذا السوق وحده كنا سبعة خياطين عرب قبل الحرب، واليوم لم يبقَ غيري. معظمهم سافر أو فضّل تغيير مهنته لأخرى ذات مردود مادي أفضل مع قلّة الطلب على الثياب العربية التقليدية، وحتى أنا لم أستطع إقناع أبنائي بتعلمها"، يقول سعيد بحسرة، متحدثاً عن تحديات كبيرة تواجه الحرف اليدوية في سوريا بعد حوالى عشرة أعوام من الحرب، وأهمها ارتفاع تكاليف الإنتاج وندرة اليد العاملة الخبيرة المُتقِنة لحرفتها مع الخسارات البشرية الكبيرة التي مُنيت بها البلاد.

"من سيرتدي اليوم لباساً بهذا السعر المرتفع الذي يفوق الدخل الشهري لأي موظف؟" يتساءل الرجل لافتاً إلى أن معظم زبائن الخياط العربي قبل الحرب كانوا من أرياف المحافظة، وهم يعتمدون بشكل أساسي على الثياب العربية في حياتهم اليومية، إلا أن تبعات الحرب لم تترك مجالاً لهم لاقتناء ملابس مكلفة لهذه الدرجة.

تواجه مهنة الخياطة العربية في سوريا تحديات كبيرة، أهمها ارتفاع تكاليف الإنتاج وندرة اليد العاملة الخبيرة المُتقِنة لحرفتها مع الخسارات البشرية الكبيرة التي مُنيت بها البلاد، وانخفاض الطلب على البضاعة محلياً وندرة السياح القادمين من الخارج

يقطع حديثنا دخول رجل ستيني مرتدياً جلابية رمادية جميلة، ومتسائلاً عن أسعار بعض الجلابيات المعلقة أمام المحل. يفضّل الانصراف عند سماع الرقم. يضحك الخياط قائلاً إنه كثيراً ما يقضي دوامه الذي يستمر عشر ساعات يومياً من دون أن يطأ زبون واحد عتبة المحل، فسكان المدينة بالكاد يتدبرون أمور معيشتهم، والسياح -وقد كان الاعتماد عليهم كبيراً في السابق- باتوا قطعاً نادراً في سوريا اليوم.

بذلك، يعتمد الرجل على بعض المبيعات المحلية، والهدايا التي يرغب البعض بشرائها لإرسالها لأقارب أو أصدقاء يقطنون في الخارج. أسأله هل يقتني هو نفسه لباساً عربياً. يضحك ويجيب: "بكل تأكيد. لدي عدة أطقم أرتديها في المناسبات المختلفة".


سعيد يعقوب آغا حاملاً صورة والده في المحل القديم - تصوير زينة شهلا

ومع كل هذه التحديات لا يبدو على سعيد أي شعور باليأس من القدرة على الاستمرار، بل على العكس، يعمل على تجديد المهنة بابتكار رسومات جديدة، أسوة بتقليد كان متبعاً منذ القديم حين كان والده والخياطون الآخرون يتبارون لوضع أجمل التصاميم والتطريزات.

"على الخياط العربي أن يحب مهنته كي يبدع فيها، وأن يؤمن بأن هذه الحرفة ستستمر، فهي عاصرت الكثير من الحروب وبقيت، ولن تكون الحرب الحالية استثناء"، يقول مشيراً إلى صور والده القديمة بالأبيض والأسود، ولبعض القطع التي خاطها أبوه بيديه، وبقيت، كما الحرفة نفسها، محافظة على جماليتها وأصالتها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard