شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"لا زلت أخاف عندما تمد أمي يدها نحوي لاحتضاني"... قصصي مع العنف الأسري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 25 نوفمبر 202011:10 ص


هروب حرفيّ من البيت الى الشارع

منذ وعيت على هذه الحياة وأنا أسمع أمي تحكي أن أبي كان على وشك تطليقها عندما حملت بي. كانت تظن أنني مصدر بلاء قد وقع على رأسيهما. أبي كان الذي يحلم بإنجاب الصبيان، وتعليمهم حتى إنهاء المرحلة الإعدادية، ثم يحين الوقت ليعملوا معه في ورشة تصليح الأدوات الكهربائية. أراد رجالاً يعتمد عليهم، ويرتاح في كنفهم عندما يبلغ أرذل العمر.

لكن ما حصل عليه هو ابنتان توأم، وبالطبع لم يكن يتوقع أن مولوده الثالث سيكون أيضاً بنتاً. كان قد اختار اسم مولوده القادم: "خالد" وعندما أتيت أنا غمرته الدموع. دموع الرفض التي بكاها أبي كانت تكبر معي يوماً بيوم، حتى أغرقتني. في البداية ذهب لتسجيلي وأبَى أن يُغيّر الاسم، فقال للموظفة إن اسمي: "خالدة" وأثنته عن رأيه بعدما تحدثت معه عن المشاكل التي من الممكن أن أتعرّض لها فربما تُنسى (التاء المربوطة) وأجد نفسي بعد سنوات مطلوبة للخدمة في الجيش. أو في سيناريو قريب سوف أتعرض للمضايقة والتنمر بسبب اسمي الذي يشبه اسم صبي، وهكذا أصبحت (أسماء).

في محاولات منها لإرضاء أبي، كانت أمي تختار لي ملابس صبيانية. كل ما كنت أحلم به هو فستان أو قميص يشبه ما ترتديه الفتيات في مثل عمري، لكنها كانت تقصّ شعري، وتشتري لي ملابس يرتديها الذكور، أو تستعير أحد الملابس القديمة من ابن عمي الذي يكبرني بعام، وتجعلني أرتديها. وعندما كنت في الصف الخامس الابتدائي، كان أبي يحتاج إلى مساعدة في ورشته للتصليح، وحينها لم يكن أمامه سواي. بدأت في العمل بعد انتهاء المدرسة التي تفوقت فيها واستطعت بذلك أن أجذب انتباههم لي، كنت الأولى على الصف والطالبة المثالية في المدرسة ككل، وعندما قامت المدرسة بدعوة أبي للحضور معي لاستلام الجائزة، لم يرد أن يمسك بيدي لنذهب سوياً... أنا (الطفلة) علمت أن رفضه لي لازال مستمراً، وربما سيظل موجوداً إلى الأبد. كنت أعود إلى البيت لأجد أختيّ تذاكران دروسهما، أو تشاهدان التلفاز، بينما أنا، بملابس متسخة، مُشحمة، وشعر مُترب، أذهب حاملة عدّة التصليح خلف أبي إلى كل مكان، وعندما أخطئ أتلقى توبيخاً لاذعاً، أو صفعة على وجهي.

في محاولات منها لإرضاء أبي، كانت أمي تختار لي ملابس صبيانية. كل ما كنت أحلم به هو فستان أو قميص يشبه ما ترتديه الفتيات في مثل عمري، لكنها كانت تقصّ شعري، وتشتري لي ملابس يرتديها الذكور

حملت أمي للمرة الثالثة وأتى أخي، المولود الذكر. وقتها قلت إن الحياة ستحلو لي، سأتخلص من ملابس الصبية التي تملأ رفي في الدولاب، سأطيل شعري وأترك الورشة، ستعتني بي أمي مثلما تعتني بأختيّ. لكن ذلك لم يحدث في أي وقت قريب، كبر أخي وكان دوري أن أرعاه وأحافظ عليه عندما يلعب في الخارج، أناديه للطعام، أساعده على الاستحمام أو أجالسه عندما يذهب الجميع. ورغم ذلك لم يلاحظني أحد، كنت على الدوام ذلك الخطأ الذي حدث دون توقع، كنت فرداً زائداً عن الحاجة.

كان أبي يُعنّف أمي، وأمي بدورها تعنّفني وأخوتي. تلقيت ضرباً مبرحاً في طفولتي أتذكر ألمه على جسدي حتى الآن. شعوري الدائم بأني مرفوضة وحتى الحادية عشرة من عمري، جعلني ذات مرة أغادر البيت بلا رجعة.

كانت فكرة الهروب دوماً ما تراودني، لأن الجميع يردّد أنني خطأ لم يكن مقصوداً، لم أر الحب في عين أمي ولا الرحمة في معاملة أبي. وهكذا سرت طريقاً طويلاً وحدي في يوم قائظ، لا أعلم إلى أين كنت سأذهب، بدت لي الفكرة وقتها حلاً لانتهاء كل مشاكلي، أردت أن أجد بيتاً آخر يُرحّب بي، ربما تجدني امرأة لا تستطيع إنجاب طفل واحد، ووقتها سأكون ذات قيمة، سأكون مقبولة للمرة الأولى في حياتي. كان خيالي يسرد القصص الإيجابية عليّ في طريق دام ثلاثة عشر كيلومتراً، مشيتها على قدمي، والشمس تتخلل جسدي حتى أصابتني بالحمى. تعرضت لحادث سير أثناء عبوري للطريق، وتم نقلي لمشفى قريب من موقع الحادث، حيث تعمل هناك جارتنا التي تعرفت عليّ. هذيت وأخبرتها أنني شخص آخر لا تعرفه. كل ما كنت أريده ألا أعود إلى البيت، حيث فقدت هويتي، طفولتي وأشياء أخرى.

اليوم أقوم بكتابة مقالات، أحرص فيها على توعية أولياء الأمور بضرورة الانتباه لمشاعر أطفالهم، بأخذ الخلافات الأسرية بعيداً عنهم، ومراعاة حقوقهم في الدعم والتشجيع وإظهار مشاعر الحب والقبول تجاههم، فربما أساعد بإنقاذ إنسان آخر سيكبر ذات يوم، ولا يشعر نفس شعوري أو يمر بما مررت به. من الهام جداً أن تسأل طفلك: "كيف تشعر؟"، "بم تفكر؟"، فكل أملي الآن في الحياة ألا تشعر ابنتي شيئاً مما شعرته، وألا تكون بجانبي وتفكر أنها تريد الهروب حتى تكون بخير بعيداً عني.

في اليوم الذي عدت فيه إلى البيت لم يكن أبي متأثراً بغيابي، كانت أمي تبكي وتتأسف، لكن أبي لم يشعر أن شيئاً/أحداً كان ناقصاً. من القسوة أن تخبر شخصاً أنه مجرد خطأ ونشاز في المعزوفة البشرية الهائلة، فكيف إن كان هذا الشخص هو طفلك؟ 

كان أبي يُعنّف أمي، وأمي بدورها تعنّفني وأخوتي. تلقيت ضرباً مبرحاً في طفولتي أتذكر ألمه على جسدي حتى الآن. شعوري الدائم بأني مرفوضة وحتى الحادية عشرة من عمري، جعلني ذات مرة أغادر البيت بلا رجعة

الزواج كمحاولة لانتقال السلطة

بعد احتفالي بعيد ميلادي العشرين، تقدم قريب لي لخطبتي. لم يستشرني أبي لكنه وافق على الفور، وعندما صارحت أمي بأن لا رغبة لي في هذا الشخص، وأنني لا أطيقه بشكل خاص، أقنعتني أن ذلك كله مجرد وهم، وأن الزواج أكبر من ذلك. وقالت ضمنياً إن خروجي من البيت وزواجي من هذا الرجل سيكون أفضل شيء حدث لي في حياتي. بدأنا بالتعرّف على بعضنا البعض، أخبرته بأحلامي في العمل، الكتابة والسفر، وأنها شروط لن أتخلى عنها مهما كان ما أفعله في حياتي ومهما كانت ظروفي، فأخبرني أن لا مانع لديه. 

وبعد فترة ليست بقليلة وعندما اقترب موعد الزواج، قال إنه لا يريدني أن أعمل، وأن الكتابة ليست مهنة والسفر لميسوري الحال، وبدأ في إخباري رؤيته لما يجب أن تكون عليه حياتي بعد الآن، كنت مجرد جزء من خطته. 

كانت فكرة الهروب دوماً ما تراودني، لأن الجميع يردّد أنني خطأ لم يكن مقصوداً، لم أر الحب في عين أمي ولا الرحمة في معاملة أبي.

حاولت تذكيره بوعوده لي بأن أصبح حرة معه، وأن أستطيع أن أتخلص من الضغوط التي عايشتها طوال حياتي، لكنني أدركت أن تلك الوعود كانت مجرد مصيدة حتى يتمكن من الارتباط بي. كان متأكداً أنني لا أستطيع أن أفسخ خطبتنا قبل كتب الكتاب بأيام معدودة، ما الذي سيقوله الناس عني؟ وكان ذلك هو ما حدث فعلاً. خشيت أن أعود إلى السجن الذي فرضته عليّ أسرتي، فكنت أستعد للالتحاق بسجن آخر. السجن واحد والسجان هذه المرة مختلف.

حاولت أن أحكي له عن الصعاب التي مررت بها، وعن حاجتي كإنسان لأن أختار ما أريده وأن أجربه. أخبرته عن العنف الذي مارسته أمي ضدي، وعن معاملة أبي الجافة الشديدة التي أقصتني عن البيت. أظهرت له ضعفي كمحاولة لاستمالة مشاعره، لكنه استخدم ذلك ضدي، وعندما أخبرته بقراري الأخير بالرحيل عنه وإنهاء علاقتنا، قام بتهديدي وضربي، وقال: "لو أبوكي وأمك مكانوش طايقينك، إنتي تحمدي ربنا إنك معايا وهتجوزك، ولو هم كل ده مقدروش عليكي أنا اللي هربيكي من جديد".

أخبرت أبي وأمي عما قاله فبررا له: "هو راجل وإنتي استفزتيه!". فسخت خطبتي قبل يوم واحد من عقد القران. تقبّلت كل الإساءات التي كانت على وشك الانفجار في وجهي، لأني كنت على يقين بأن هذه المحاولة ستبوء بالفشل. كم من فتاة هربت إلى حلم الزواج لأنها أرادت أن تتخلص من قسوة الأهل وتعنتهم؟ كم من فتاة انتهى بها الأمر في زواج مرير لأنها لم تكن تعتبره أكثر من مجرد فرصة للهروب؟

الاستقلال المادي وخدعة صنع القرار

بعد تخرجي من الجامعة كنت أعمل ليل نهار. لم يساعدني أحد، رفض أهلي أن أعمل من الأساس، لكني نجحت في الحصول على أول عمل في مجال الكتابة من المنزل. ونجاح بعد آخر توالت الأعمال، واكتسبت ثقة أهلي بالطريقة الصعبة. استطعت خلال عامين أن أستقلّ مادياً، لم أطلب قرشاً واحداً منهم. بل على العكس كان مطلوباً مني أن أعطي نصف مرتبي لأبي، ولم أتوان عن فعل ذلك. لكن سرعان ما ساءت الأحوال، وانقطع العمل فترة طويلة صرفت فيها كل مدخراتي، وعندما كنت أطلب المال منهما كمساعدة كنت أحصل على الإذلال وعبارات لاذعة تتهمني بالفشل، وبأني عالة عليهما. عندما تمكنت من العمل مرة أخرى عادا إلى معاملتهما الحسنة لي. وقتها انكسر قلبي... فلم أستطع أن أفهم كيف أن المال كان محركاً لمشاعرهما تجاهي: في الوقت الذي يمتلئ به جيبي يتركوني بسلام، وفي الوقت الذي أحتاج فيه إليهما أو إلى دعمهما المعنوي أو المادي لا أجد سوى التأنيب والرفض. رغم ذلك لم يستطع الاستقلال المادي أن يجعلني أتخذ قراراً يخصّ حياتي وحدي، فعندما قررت السفر للعمل قال أبي: "بيتي، وتقعدي فيه بشروطي"، فوزنت الأمور في عقلي، ربما لن أنجح في سفري ووقتها سأكون قد خسرت عائلتي، في الكفة الأخرى سأظل حبيسة هذا البيت إن لم أستطع النجاة منه. وتخلّيت عن حلم السفر وعن فرصة ربما لن تأتي مرة أخرى. 

انتقلت إلى القاهرة، وبدأت أشعر بالاستقلالية بحقّ. وعندما كنت أعود ليلاً إلى البيت، كانت تغمرني السكينة والرضا: هنا وأنا على بعد أميالٍ من البيت الذي نشأت فيه، بعيداً عن أبي، بعيداً عن أمي، لأول مرة أحسست أني بأمان، أحسست أني في البيت

أول بيت أسكنه ويُشعرني بالسكينة

بعد عدة محاولات وعروض تتعلق بالعمل كمساعدة مخرج، تمكنت من السفر إلى القاهرة، فقد نشأت في قرية صغيرة في محافظة الغربية، بعيداً عن كل الفرص التي قد تأتي لشخص طموح.

كان سفري إلى القاهرة أجمل ما حدث لي في حياتي. قمت بتأجير شقة صغيرة ودفعت إيجارها من عملي الجديد الذي حصلت عليه. بدأت في الكتابة لصالح إحدى الشركات في القاهرة، وقد تمكنت من إتمام تجربة الاستقلال بحق. وعندما كنت أعود ليلاً إلى البيت، كانت تغمرني السكينة والرضا: هنا وأنا على بعد أميالٍ من البيت الذي نشأت فيه، بعيداً عن أبي، بعيداً عن أمي، لأول مرة أحسست أني بأمان، أحسست أني في البيت.

قضيت سنتين وأنا أواجه الحياة بمفردي، كان الأمر ثقيلاً على عاتقي لكنه كان مُحبباً إليّ. والآن بعد مرور ثلاث سنوات عرفت أنها لم تكن تجربتي وحدي، كثير من النساء من حولي، ومن الرجال أحياناً، يريدون ويبحثون عن مهرب من المكان الذي نشأوا فيه. قد يكون الهروب من بيت الوالدين ضرورة للبعض، وفرصة للتعافي من آثار التربية الخاطئة والتعنيف الأسري. استطعت النجاة ولم أخسر أياً من والديّ، بل كانت رحلة هروبي ومحاولاتي المستمرة أملاً بأن أكسب معاركي النفسية، وأملاً بأن أخسر خوفي وتراكمات العنف والأذى اللذين تعرضت لهما.

كانت المحاولة الخامسة لي تقع بين فسخ خطبتي الأولى، ومحاولة الاستقلال المادي بعد التخرج. دفعني يأسي لمحاولة سلب روحي والتخلص من حياتي. طفلة لم تلقى القبول لدى والديها، تأثرت ميولها بفعل تربيتهما لها، مزرعة خصبة للأمراض النفسية، مراهقة لا تستطيع حب نفسها، شابة لا تستطيع قول "لا"، وتتعرّض للعنف مرة أخرى من شريك حياتها، كان كل ذلك يدفعني إلى الهاوية... حتى جاءت فرصتي في الحصول على عمل في الكتابة، قد كان ذلك بمثابة اعتذار من الحياة لي، فاخترت تغيير مسار حياتي. الآن أنا سيدة مستقلة مادياً، كاتبة، لي محاولات ليست سيئة في الكتابة بأشكالها، أتمنى في يومٍ ما أن أنجب فتاة، سأجعلها تعرف من يومها الأول حتى الأخير أنها محبوبة ومقبولة وأنها حرة في اختياراتها، وأنه ليس عليها الهرب من شيء حتى تحظى بالحياة التي تريد. 

لازلت أعاني من آثار طفولتي الحزينة والمعاملة التي تلقيتها، لا زلت أخاف عندما تمد أمي يدها نحوي لاحتضاني، فجسدي يتذكر كيف كانت تمدها لتعاقبني، لكنني أستطيع أن أقول إنني أخيراً استطعت أن أهرب. كانت الكتابة مهربي، ودوائي، وأتمنى أن أرد لها يوماً معروفها في إنقاذ حياتي، وانتشالي من بؤرة العوز والحاجة إلى الآخرين، إلى نعمة الاستقلال المادي والعمل بها. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard