شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"هل نحن أذكى من أسلافنا؟"... عن تأثير الحياة العصرية على ذكاء البشر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 20 نوفمبر 202006:08 م

لنفترض أنه لدينا ذئب، ماعز وملفوف، مع قارب صغير جداً لا يتسع سوى لأنفسنا، مع عنصر واحد من العناصر المذكورة سابقاً، وبطبيعة الحال لا يمكن ترك الذئب مع الماعز على الشاطئ أو الماعز مع الملفوف، فما الذي يمكن فعله لنقل الجميع بأمان إلى الطرف الثاني من النهر؟

يعود هذا اللغز الكلاسيكي إلى ألف عام على الأقل، واللافت أن هناك عدة نسخ منه، كنقل ثعلب، أوزة، كيس من الفاصولياء و3 أزواج مع زوجاتهم في قارب صغير، ويمكن العثور على ألغاز مشابهة في جميع أنحاء إفريقيا أيضاً.

هذه الألغاز المختلفة تكشف أن المسابقات الذهنية نشأت تلقائياً في كل الثقافات، ما يعني بأن الاستمتاع بالألغاز هي سمة عالمية لا تنحصر بأبعاد جغرافية معيّنة.

من ألغاز جرائم القتل إلى الكلمات المتقاطعة وألعاب سودوكو، ينغمس العقل البشري في الأحجية كنوع من "بروفة" للمشاكل الجادة والحقيقية التي نواجهها في وظائفنا وعلاقاتنا الشخصية، فالتحديات العالمية التي تواجه البشرية، من تغير المناخ والأخبار الكاذبة، تعد أكثر تعقيداً بكثير من إيصال الماعز بأمان عبر نهر وهمي، ولكن السؤال يبقى: هل مستوى الذكاء البشري تراجع أم ازداد، مع كل هذه القفزة التكنولوجية التي شهدتها البشرية؟

تأثير فلين

منذ اختراع اختبار الذكاء الذي يعود إلى أكثر من 100 عام، تبيّن أن معدل الذكاء لدى البشر قد ازداد بشكل مطرد بحوالي 3 نقاط كل 10 سنوات، بما معناه أن الشخص العادي اليوم يُعتبر عبقرياً مقارنةً بشخص وُلد في العام 1919.

هذه الظاهرة تُعرف باسم "تأثير فلين"، نسبة إلى الفيلسوف والخبير في الذكاء البشري جيمس فلين، الذي قام بمقارنة مستوى الذكاء في ثلاثين دولة من مستويات اقتصادية، سياسية واجتماعية مختلفة، فاكتشف أن البشر يصبحون أكثر ذكاء بالنسبة لاختبارات الذكاء.

منذ اختراع اختبار الذكاء الذي يعود إلى أكثر من 100 عام، تبيّن أن معدل الذكاء لدى البشر قد ازداد بشكل مطرد بحوالي 3 نقاط كل 10 سنوات، بما معناه أن الشخص العادي اليوم يُعتبر عبقرياً مقارنةً بشخص وُلد في العام 1919

لا يزال هناك بعض الغموض حول سبب حدوث ذلك، لكن رجّح البعض أن تكون الزيادة في معدلات الذكاء ناجمة عن تحسن مستوى التغذية، الظروف الاجتماعية وارتفاع نسبة التعليم في العالم، بالإضافة إلى وجود بيئة ثقافية أكثر تعقيداً وتحفيزاً، واعتياد الناس على الأسئلة المطروحة في اختبارات الذكاء.

تراجع الذكاء مع الوقت؟

في حين تشير العديد من الدراسات إلى أن الأفراد اليوم أصبحوا أذكياء أكثر من أي وقت مضى، بحيث باتت أدمغتنا أكثر ذكاء استجابة للحياة الحديثة، إلا أن هناك أدلة اخرى تشير إلى أن المهارات العقلية للإنسان تشهد تدهوراً في أيامنا هذه، فعلى سبيل المثال، انخفض متوسط معدل الذكاء لدى الفرنسيين بمقدار 3.8 نقطة بين عامي 1999 و2008، وفقاً لدراسة أميركية- فنلندية.

وقد فسر بعض الباحثين، على غرار لين وهارف، هذا التراجع في معدل الذكاء بفرضية أن الأشخاص ذوي القدرات الفكرية الجيدة ينجبون في المتوسط أطفالاً أقل من أولئك الذين لديهم معدل ذكاء أقل.

وفي السياق نفسه، كشفت دراسة أجريت في العام 2018 انخفاض معدل الذكاء بين الأجيال التي ولدت بعد العام 1975 في النرويج، بحيث اتضح أن درجات ذكاء الرجال النرويجيين اليوم هي أقل بشكل ملموس من آبائهم في نفس العمر.

وقد أظهر تحليل أجراه باحثون من مركز راجنار فريش للأبحاث الاقتصادية في النرويج، أن تأثير فلين بلغ ذروته بالنسبة للأشخاص الذين ولدوا خلال منتصف السبعينيات، وانخفض بشكل ملحوظ منذ ذلك الحين، ولاحظ الباحثون أن انخفاض معدل الذكاء حدث داخل العائلات بين الآباء والأبناء، ما يشير إلى أن التغييرات في نمط الحياة، كانخفاض القراءة وتفكك العائلات، كلها عوامل تؤثر سلباً على الذكاء البشري.

وكان جيمس فلين قد لاحظ أن اختبارات الذكاء يعاد تشكيلها بين الحين والآخر، بشكل أن يبلغ متوسط معدل الذكاء المئة، إلا أنه كل بضعة أعوام ترتفع الدرجات، ما يدفع صانعي الاختبارات إلى إضافة أسئلة أكثر صعوبة، بهدف تقليص المتوسط مجدداً.

وحذر فلين من الافتراض القائل بأن الناس اليوم أذكى مما كانوا عليه قبل 100 عام: "بالتأكيد ليس لدى أدمغتنا المزيد من الإمكانات الجينية. في 3 أجيال فقط، لم ينتج التطور عقلاً أفضل"، وأضاف: "الدماغ هو نوع من العضلات، والناس اليوم يمارسون تمارين عقلية مختلفة عما فعلوه في العام 1900. سيكونون متكيفين فكرياً مع بيئتهم".

هذا وأوضح فلين بأننا اليوم نقوم بعمل أقل تطلّباً من الناحية المعرفية: "أنواع الوظائف التي تتوسع هي وظائف ماكدونالدز. يتعلم الناس الكثير من مهارات حل المشكلات في الوظيفة. إذا تطلبت وظيفتكم أن تفكروا بطريقة حيوية، فإن هذا الجزء من عقلكم يحصل على مزيد من التمرين. إذا كانت وظيفتكم لا تتطلب الكثير، فأن عقلكم سيضمر".

واعتبر جيمس أننا نقضي الكثير من الوقت في لعب ألعاب الفيديو وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ولا نكتفي بقراءة الروايات الجادة أو التاريخية، لكن تكهن البعض الآخر بأن العصر الرقمي يتطلب فقط نوعاً جديداً من الذكاء لم تكن اختبارات الذكاء جيدة في قياسه، بمعنى آخر، لا يتم تعريف الذكاء على أنه شيء واحد فقط، فما يجعل الشخص ذكياً في سافانا الأفريقية قد يكون عديم الفائدة تقريباً في المراكز المالية في هونغ كونغ.

وتعليقاً على هذه النقطة قال مايكل وودلي، عالم النفس في جامعة أوميا في السويد: "ليس الأمر ببساطة أن الذكاء آخذ في الانخفاض أو الارتفاع. هناك أجزاء مختلفة من الذكاء يمكن أن تتغير بعدة طرق مختلفة".

التطور البشري

من هو الأكثر ذكاء: رجل الكهف، الهاتف الذكي أم نحن؟ ماذا لو وضعنا الذكاء الاصطناعي في المعادلة؟

كما هو معلوم، لقد قطعت البشرية شوطاً طويلاً للوصول إلى ناطحات السحاب الحضرية، ليس فقط جسدياً، ولكن أيضاً معرفياً، وقد أثبتت الأدوات الحجرية والكتابة والقلم والورق أنها أدوات حاسمة في وضع الذكاء البشري على مسار لم يسبق له مثيل من قبل، ولكن ما الذي يحدث مع ظهور الذكاء الاصطناعي؟ هل الإنسانية مستعدة لذلك؟

لقد شهد المجتمع الحالي تغييرات كبيرة وسريعة، لدرجة أن آلية الانتقاء الطبيعي للتطور لم تتح لها الفرصة لمواكبة التقدم الذي أحرزناه من الناحية التكنولوجية. وبالتالي، فإن جزء الدماغ القادر على معالجة التفكير المجرد يُستخدم لمساعدتنا على التنقل والتكيف مع بيئاتنا "الأجنبية". لهذا السبب أصبح الذكاء، وخاصة الذكاء الجماعي، مهماً بشكل متزايد على مدى آلاف السنين الماضية.

في حين تشير العديد من الدراسات إلى أن الأفراد اليوم أصبحوا أذكياء أكثر من أي وقت مضى، بحيث باتت أدمغتنا أكثر ذكاء استجابة للحياة الحديثة، إلا أن هناك أدلة اخرى تشير إلى أن المهارات العقلية للإنسان تشهد تدهوراً في أيامنا هذه

في هذا الصدد، يجادل الباحثون بأن اختراع الأدوات أعاد تشكيل أدمغة الإنسان العاقل تماماً، لكن ظهور الكتابة ومن ثم الطباعة وأجهزة الكمبيوتر كان لها تأثير واضح على الإدراك والذاكرة والذكاء بشكل عام، فدماغ الصياد الذي كان يقطع اللحم من عظام ثدييات ضخمة بأدوات حجرية، مختلف بطبيعة الحال عن دماغ الإنسان المعاصر الذي يعتمد على التكنولوجيا في كل شيء تقريباً.

بمعزل عمّا إذا كان البعض يعتبر أن معدل الذكاء البشري قد ازداد أو تراجع مع الوقت، فإن ما هو مؤكد أن اعتماد البشر اليوم على تقنيات أكثر تعقيداً من أي وقت مضى قد ازداد بشكل كبير، بحيث أثّر على الإدراك البشري وصُنْع الذاكرة والذكاء بشكل عام.

وعليه، فإن السؤال حول ما إذا كانت درجات الذكاء لدينا أعلى من درجات مجتمع آخر، سواء كان قديماً أم معاصراً، ليس هو المهم حقاً، بل الأهم أن نبحث عمّا إذا كنّا قد طورنا مجتمعات تدعم وتعزز ذكائنا المختلف بحكمة وبشكل هادف، كما يؤكد فلين بالقول: "إن الاستفادة من ذكاء الناس بدلاً من القلق بشأن ذكائهم هو أهم شيء".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard