شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
نظر الشيخ إلى أصابع قدميّ وقال لي: ستُعاقَب يوم الحساب

نظر الشيخ إلى أصابع قدميّ وقال لي: ستُعاقَب يوم الحساب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 21 نوفمبر 202011:43 ص

بعد منتصف ليل أحد الأيام، كان التيار الكهربائي منقطعاً، وكنت أصعد درج المنزل، فتعثرت وأصبتُ بالتواءٍ في كاحلي جعلني أعجز عن المشي بدون عكاز.

طلبَت منّي حبيبتي إرسال صورة فوتوغرافية لقدميَّ على الواتساب كي تتأكد من أن الأمر ليس خطيراً، ففعلت. ومن خلال المقارنة بين القدمين كان واضحاً لها أنّه لا يوجد ورم ولا كسر، فعلّقتْ على الصورة: "قلتلك شي مرة إنو أصابع رجليك حلوين!".

مقاس قدمي أربعون، وأصابعها نحيلة، والأوتار والشرايين بارزةٌ فيها، وهنالك مسافةٌ صغيرة بين كلّ إصبعٍ وإصبع. هذه المسافة سبّبت لي الخوف حين كنت في الخامسة عشرة من عمري، بسبب رأي أحد المشايخ الذي قال لي حين نظر إلى قدميّ: هذه المسافة هي نقصٌ، وهذا النقص علامةٌ وضعها الله كي يتجنبك المؤمنون به، ويحذروا منك، لأنك شخصٌ غير صالحٍ، وستعاقَب يوم الحساب...

نزل كلامه عليّ كالصاعقة، وشعرتُ بالهلع أنا ابن العائلة المشهود لها بتديّنها، وابن أحد أكبر المشايخ فيها. لدي نقصٌ ولن أكون من الصالحين يوم الحساب.

لم أنم ليلتها من شدة الخوف من العقاب، ونظرة المجتمع إليّ، والإحراج الذي سأسببه لأبي وللعائلة إنْ علم الآخرون بما قاله ذلك الشيخ. وفي اليوم التالي رحت أنظر إلى أقدام أقراني لأرى إنْ كانت تشبه قدميّ أم لا، ولم أكن أرى فرقاً يُذكر. حتى رجال الدين الذين كانوا يأتون لزيارة والدي كنت أتفحص أصابع أقدامهم، وكان بعضها يشبه أصابعي. رغم ذلك، لم يغادرني الخوف، بل ظننتُ أنّ هؤلاء مثلي لن يكونوا من الصالحين.

بعد مضي عامٍ مليء بالخوف والبحث والأسئلة، قررت زيارة أحد أطباء العظم. وأنا أدخل إلى عيادته، شعرت بالخوف من أن يكون رأيه كرأي الشيخ، ولكن، ولحسن الحظ فإن العِلم لم يتّفق مع الدين. أخبرني الطبيب أنني أمتلك قدمين سليمتين جداً، وأن التباعد بين أصابعي إيجابيٌّ، ثم أطلعني على مجموعة صورٍ لأقدام أشخاصٍ أصابعهم قريبةٌ من بعضها، وقسمٌ منهم احتاج إلى عملٍ جراحيٍّ نتيجةً لذلك. لحظتها، شعرت بالغبطة، وأيقنتُ أن كلام الشيخ كان كله هراءً ولا معنى له.

"نظر الشيخ إلى أصابع قدمي المتباعدة وقال لي: هذه المسافة هي نقصٌ، وهذا النقص علامةٌ وضعها الله كي يتجنبك المؤمنون به، ويحذروا منك، لأنك شخصٌ غير صالحٍ، وستعاقَب يوم الحساب..."

خلال شهر، تعافيت من التواء الكاحل، وعدت إلى السير بدون عكازٍ وبخطوات أسرع قليلاً، ولكن بحذرٍ. وخلال هذا الشهر تغيّر لديّ مفهوما الزمن والمسافة، إذ أصبح التنقّل من غرفةٍ إلى أخرى يُحسَب له حساب، ويأخذ وقتاً طويلاً مقارنةً بما كان عليه في السابق.

لسنوات طويلة، كنت أظن أنني أخاف من الموت، وبعد تعرّضي لعدد من الوعكات الصحية والنفسية الشديدة اكتشفت أنني أخاف من الألم الجسدي والنفسي، وأصبحت أفكر: هل يا ترى الموت شكلٌ من أشكال الراحة للإنسان المتألم بشدة على الصعيدين النفسي والجسدي؟

من المؤلم والمؤسف أن يُخلَق أناس يعانون منذ لحظة ولادتهم من المرض والألم. دوماً أتساءل: لماذا لم يُعطَ الإنسان الحرية في اختيار حياته؟ بمعنى أن يكون الأمر مشابهاً للعالم الافتراضيّ. فمثلاً حين قررت إنشاء حساب لي على فيسبوك قرأت ما يلي: "بالنقر على إنشاء حساب فيسبوك فإنك توافق على الشروط وسياسة البيانات وسياسة ملفات تعريف الارتباط ويمكن أن تتلقى إشعارات عبر رسائل إس إم إس من فيسبوك ويمكنك إلغاء تلقّي هذه الإشعارات في أي وقت".

"أحد أشكال العدالة على هذا الكوكب هو أن تكون هنالك أكثر من حياة بشروط مختلفة، وأن نمتلك حرية الاختيار بعد الاطّلاع على الشروط الإيجابية والسلبية لكل حياة"

يومها قرأت بعضاً من الشروط قبل أن أنشئ حسابي، وكان بإمكاني وببساطةٍ أن أختار إنشاء حسابٍ على تويتر مثلاً... معظم البرامج والمواقع في العالم الافتراضي تتيح لنا المجال للإطلاع على شروطها وسياساتها قبل أن نستخدمها، وفي حال لم تعجبنا نستبدلها بغيرها، فلماذا حين ولدت لم يُتاح لي الإطلاع على بعض شروط وسياسة الحياة التي سأعيشها ولم يسمح لي بالاختيار؟ لماذا لم يسألني أحد مثلاً إنْ كنت سأوافق على أن أعاني من ألم في رقبتي في الثلاثين من العمر؟ أو إنْ كنت أوافق على وجود بعض الأشخاص المزعجين حولي، والذين لا مفرّ من أن ألتقي بهم بين الحين والآخر؟ أو إنْ كنت أوافق على نوعية بعض المشاكل التي سأمر بها؟

لو أنني سُئلت لاخترت ربما عدم الموافقة على شروط هذه الحياة، وطلبت استبدالها بحياة فيها شروط مختلفة، فأحد أشكال العدالة على هذا الكوكب هو أن تكون هنالك أكثر من حياة بشروط مختلفة، وأن نمتلك حرية الاختيار بعد الاطّلاع على الشروط الإيجابية والسلبية لكل حياة.

ربما كنت سأختار هذه الحياة مرة ثانية وبنفس الشروط التي لا أوافق عليها، وذلك بسبب الأصدقاء، وبسبب الحبّ أيضاً... الحبّ بكافة أشكاله الذي عشته وسأعيشه إلى أن أصبح في التسعين من عمري.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard