شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
من بيروت ثم دمشق فالقاهرة... نواجه الجائحة بتجاهلها

من بيروت ثم دمشق فالقاهرة... نواجه الجائحة بتجاهلها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 14 نوفمبر 202012:32 م

نوڤمبر الفائت، بعد طيارتين وثلاث ساعات في الجبال الوعرة، وصلنا تقريباً. أوقفنا السيارة واستعدينا لصعود جبل عالٍ سيراً على الأقدام، وصلنا بعد ساعة ونصف للمكان المنشود.

نحن في مرتفعات الهملايا، قرية نائية تعيش خارج حكم الدولة وبعيداً عن كل ماهو متعارف عليه من قواعد اجتماعية، يعدّون أنفسهم من نسل الإسكندر المقدوني الصافي، وأصحاب أقدم ديمقراطية في التاريخ. لا يرحبون بالغرباء أبداً، لا يسمحون لك بلمس أي شيء، لا الحجر، لا الشجر ولا الإنسان. البيوت متلاصقة، الشوارع ضيقة والسكان يستمرون بتوجيهك: لاتقترب من هنا، امشِ بعيداً، حاذر، تتلافى حتى تلاقي عينيكَ عيونهم.

نحن في مرتفعات الهملايا، قرية نائية تعيش خارج حكم الدولة وبعيداً عن كل ماهو متعارف عليه من قواعد اجتماعية، يعدّون أنفسهم من نسل الإسكندر المقدوني الصافي، وأصحاب أقدم ديمقراطية في التاريخ... لا يرحبون بالغرباء أبداً، لا يسمحون لك بلمس أي شيء، لا الحجر، لا الشجر ولا الإنسان

في حال اضطررت لشراء غرض ما من دكان فقد أدخلت نفسك في عملية معقدة، يحذرك ببدايتها البائع من الاقتراب فور دخولك، يطلب منك أن تدلّه على طلبك، يحضره ويضعه فوق طاولة البيع، تقترب من الطاولة بعد أن يبتعد، تضع المال وتبتعد، ثم يأخذ المال ويبتعد، تأخذ طلبك وترحل. أمضينا ليلتنا بين الجبال العالية في نزل متواضع خارج حدود القرية المميزة.

اجتماعياً لم أشاهد ولم أعش في حياتي أغرب من هذه الحالة، إلى أن حلّ الشهر الثالث من هذا العام.

مفاجأة

2020 قدمت لكل البشرية نفس التجربة من اللالمس واللااقتراب، من دون حتى أن يغادروا مدنهم ولا يصعدوا أي مكان، وعقوبة خرق القواعد كانت واضحة: تؤرجحك بين الموت والحياة.

سمح لي حظي السعيد اختبار الجائحة وإجراءاتها الوقائية بعدة موديلات، وأن أعيش عامي هذا في ثلاث عواصم عربية مختلفة، بدءاً من بيروت ثم دمشق فالقاهرة.

في بداية العام كنت أسافر ما بين لبنان وسوريا، إلى أن استقريت في لبنان طيلة فترة الحجر العالمي، الأول من الشهر الثالث إلى نهاية الشهر الخامس. كان الحجر فترة نقاهة مميزة لم تكن بالحسبان، لأول مرة لا نغادر بيروت لنستمتع بإجازة. كانت المرة الوحيدة التي تحولت فيها بيروت ذاتها إلى مكان إجازة، عصافير تزقزق، ما من سيارات ولا ورشات بناء أو تصليح، هدوء وهواء نظيف. لا تخرج إلى مكان، كل شيء يصل إليك، أنت فقط اسبح بالكلور والمعقمات ولاتخرج من البيت. تعطلت كل الفعاليات الثقافية، لا عروض ولا مهرجانات، عايشتُ كورونا في بعض دوائر الحكومة لاستخراج ورقة إقامة، الإجراءات الوقائية كانت شديدة ومن الأمن العام أخذت وصفة خلط الكلور بالماء وبخّ كل شيء في الحياة.

حجر ليس حجرًا

لإتمام عمل كنت قد باشرت به في بداية العام، عدت لدمشق أواخر الشهر الخامس، مع تطور كورونا وبداية الحجر هناك. الحجر السوري ليس مرفهاً كما بيروت، ما من هدوء ولا عصافير، مطلوب منك البقاء خارج البيت، وضع الكمامة، تسلّح بالمطهّر وقف بالدور، أيّ دور!! الخضار، الخبز، الغاز، الصراف الآلي، الصيدلية... ويومياً ينتظرك داخل البيت أيضاً دور الكهرباء للوقوف به.

في دمشق، مع كل تزايد للجائحة وإلحاح الحجر، لم تتوقف النشاطات الثقافية ولا تصوير المسلسلات التلفزيونية، حتى أن المسارح عَمِرَت ببروڤات لأعمال مسرحية جديدة، وفي حال مرض الممثل يُستبدل بآخر صحيح، المهم الاستمرار بالعمل بعيداً عن صحة الطاقم والإجراءات الوقائية: محاربة الفيروس بتجاهله

ومع كل تزايد للجائحة وإلحاح الحجر، لم تتوقف النشاطات الثقافية ولا تصوير المسلسلات التلفزيونية، حتى أن المسارح عَمِرَت ببروڤات لأعمال مسرحية جديدة، وفي حال مرض الممثل يُستبدل بآخر صحيح، المهم الاستمرار بالعمل بعيداً عن صحة الطاقم والإجراءات الوقائية: محاربة الفيروس بتجاهله. وتقيداً بهذا التجاهل أقيم مهرجان أفلام الشباب التابع لمؤسسة السينما في شهر حزيران. حضرت بكامل تنكري الوبائي ليوم من أيام العروض بالقاعة متعددة الاستعمالات في دار الأوبرا، داخل القاعة استبدلوا التباعد الاجتماعي بالتحاضن الاجتماعي، والقاعة التي تحتمل 240 مقعداً للحضور انحشر فيها 340 شخصاً، ملتصقين، جالسين، واقفين، مالئين كل الزوايا والأماكن، وكأن المهرجان في حزيران الـ 2019.

الملفت أن موظفي الدار المسؤولين عن تنظيم الفعالية وتوزيع الحضور جميعهم من دون كمامات، لم أستطع ابتلاع الملاحظة، فسألت أحد الموظفين عن السبب، قال: إنه قرار من الإدارة، سألت ماذا تعني بالإدارة؟ قال: الإدارة تعني شخص المدير الجالس في مكتبه. الموظفون يبدون مستائين ولكن ما باليد حيلة، إجراءات كورونا المشددة على الباب لا تقتضي ارتداءك كمامة، إنما فقط مرورك بجهاز يرشك برذاذ الكحول بعد أن تُقاس درجة حرارتك، ربما هذه الإجراءات كافية لتُشعر المدير بالراحة. لم أشعر بالراحة، أمضيت الفعالية واقفة على الباب، أخرج وأدخل نحو أقرب نافذة مفتوحة.

العودة

أجريت فحص كورونا وخرجت من مطار بيروت في منتصف شهر تموز، عدت أخيراً إلى المنزل. بيروت فكّت الحظر جزئياً مع اتخاذ التدابير في كافة الأماكن. عادت حركة المدينة، لم نعد ننعم بالهدوء الذي استمتعنا به في بداية الجائحة. وبحثاً عن أجواء من هذا النوع، وصلنا إلى ضيعة لبنانية في جبال جبيل، هناك في أعالي الريف اللبناني، كانت كورونا تشكل هاجساً مخيفاً لسكان البلدة، لا أحد يزور أحداً، يحيّون بعضهم ويتحدثون من فوق الشرفات، الالتزام بقواعد الحجر والتباعد أعلى دقة واحتياطاً مما رأيت في مطاري دمشق وبيروت، الدكاكين والأفران تمنع اقتراب الزبائن، قف عند الباب لكن عن بُعد، يلمحك البائع، يسألك عن طلبك، يسلمك وتسلّمه بكل لطف، دون أي شكل من أشكال الاحتكاك.

مشجعٌ وعي السكان في هذه الضيعة النائية، فوعدت نفسي حين عودتي للبيت بحجر منزلي محبب، لا أريد حضور أية نشاطات، وفعلاً لم أحضر نشاطات ثقافية في بيروت مؤخراً، لكني حضرت ثورة وجائحة، انهيار اقتصادي وانفجار، فاختلط كل شيء، الجائحة بالثورة بنترات الأمونيوم بالبيوت المتهدمة وبالزجاج المكسور الذي ملأ الشوارع والأدراج، بيروت الجميلة محروقة الوجه، مكسورة كشبابيك البيت وأبوابه، كيف انخلعت الشرفة، وأين طار منشر الغسيل بما فيه؟ ما فائدة المفتاح بهكذا وضع؟ أسئلتي بلا أجوبة، تدور في رأسي مع الانتقال الاضطراري إلى قارة جديدة.

القاهرة ترحب بكم

في القاهرة تدير وجهك في المترو المكتظ، ما من كمامة في الأفق، الناس متلاصقو الأجساد متقابلو الوجوه، والإذاعة التي تبث المعلومات الصحية تحولت إلى خلفية صوتية مونوتونية مملة، لا يسمعها أحد رغم صوتها المرتفع

وكأني سافرت بالزمن عشر سنوات إلى الخلف، دمشق قبل 2010، هكذا رأيت القاهرة مع مسحة كورونا خفيفة في نهاية موسمها الأول، إذاعة مترو القاهرة في معظم رحلاتها تشغل تسجيل لصوت أنثوي يتلو "التدابير الوقائية من الجائحة، كيفية انتقال العدوى وطرائق التلافي، مؤكدة ضرورة استخدام الكمامة وعدم ملامسة اليدين للوجه قبل الغسل أو التطهير". تدير وجهك في المترو المكتظ، ما من كمامة في الأفق، الناس متلاصقو الأجساد متقابلو الوجوه، والإذاعة التي تبث المعلومات الصحية تحولت إلى خلفية صوتية مونوتونية مملة، لا يسمعها أحد رغم صوتها المرتفع.

الأنشطة الثقافية موجودة بخجل، مهرجان القاهرة المسرحي عُرض على يوتيوب، تخرّج بعض طلاب المسرح على زووم، وحالفني الحظ يوم 23 أكتوبر لحضور عرض مسرحي من لحم ودم، بممثل واحد وعرض لمدة خمسين دقيقة، مع الحفاظ على قواعد التباعد الاجتماعي في صالة العرض، وارتداء الجميع للكمامات، عدا الممثل الوحيد الغارق في تشخيص دور شاب ينوي الانتحار، وعيونه معلقة بالصالة المظلمة، يبحث عن أمل ويجب ألّا يجد أياً منه في ظلام الصالة الدامس. طبعاً هذا الشرط انكسر عندما توهج وجه جاري، الذي يفصلني عنه مقعد التباعد، ونوّرت تقاسيم وجهه بعد فتحه لموبايله عدة مرات للتأكد من وقت انتهاء المسرحية، وانتهت علاقته العفوية بموبايله بأن فتح فيسبوك باقي وقت العرض.

لا أريد مصادرة حريته. ربما لم يُعجَب بالعرض، أو أن هذا النوع من العروض ليس نوعه المفضل أو... السؤال هو لماذا لا يخرج الشخص المتململ الكاره للمادة التي يشاهدها؟ لماذا لا يخرج فحسب؟

لمَ يبدأ بتخريب العرض؟ إطفاء الموبايل في العروض المسرحية، خاصة الحساسة منها، ليس رفاهية فقط من أجل الهدوء، بل لمنع مَن على الخشبة من الممثلين من رؤية وجهك، ففرضية المسرح قائمة على اختفائك كجمهور من الفضاء إلى نهاية العرض، وضوء موبايلك في الصالة المعتمة يلعب دور بروجكتر، فيصبح وجهك منيراً وملامحه واضحة ومخيفة، وبكل الأحوال الممثل لم يأتي ليحضرك، بل أنت من أتيت لتحضرالعرض المسرحي الفرنسي المترجم في المركز الثقافي الفرنسي، تكلفت عناء القدوم لتجلس في عتمة العرض المسرحي وتفتح كتاب وجهك؟

يبدو أن القاهرة تقهر هذا الوباء، تواجهه ولا تخاف منه، مهرجان السينما بالجونة والشوارع المزحومة أكبر دليل على ذلك، لكل مدينة طريقة والسلامة للجميع

يبدو أن القاهرة تقهر هذا الوباء، تواجهه ولا تخاف منه، مهرجان السينما بالجونة والشوارع المزحومة أكبر دليل على ذلك، لكل مدينة طريقة والسلامة للجميع.

بالعودة إلى جبال الهملايا، أهالي القرية النائية هناك لم يكونوا مترفعين عن التواصل مع الغرباء بهدف إذلالهم، بل كانوا يبحثون عن طريقة تحميهم من الأمراض والفيروسات المتنوعة والمحتملة التي يحملها السياح المتحضرون فوق كفوفهم وبين طيات حقائبهم.

استدعى مني الموضوع تقريب السنة من معايشة الجائحة لأفهم الطريقة الواعية لساكني القرية الهندية البعيدة، التي يبدو أن إجراءات الحجر عندهم لا ترتبط بوباء، لكنها تدرأ وصوله أساساً. الآن ونحن على أعتاب موجة جديدة من كوفيد19 المستجد، أحضّر نفسي للخروج من القاهرة، وأعِدُ نفسي بحجر بارد في بلاد الشمال، إلى حين إتاحة اللقاح للجميع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard