شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عودة اللبؤة ورهاب الأنثى… كيف رسمت الأحلام والأساطير صور النساء؟

عودة اللبؤة ورهاب الأنثى… كيف رسمت الأحلام والأساطير صور النساء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 30 أكتوبر 202011:27 ص

لعبت الأساطير الشعبية دوراً بارزاً في تشكيل مشاعرنا وسلوكياتنا، أثناء مرحلة الطفولة التي عشتها في قريتنا، ولكل أسطورة أخيارها وشياطينها.

حكايات لعب فيها الذكر، الملاك أو الجني، دور البطل الخيّر، بينما لعبت الأنثى دور الشريرة والمؤذية.

في الدين، يُشار إلى نوع الملاك والجان بضمير المذكر، وكذلك الرب والشيطان، وكأن لا حول ولا قوة لتاء التأنيث في تلك الدراما الوجودية، وهكذا صُبغت أساطير قريتنا الصغيرة في إحدى محافظات الدلتا في مصر.

النداهة وجنية البحر

في قريتنا كان الملاك الخيّر وأصدقاؤه كثيراً ما يظهرون للرجال الصالحين، كثيراً ما يمرون على شخص، يكون الجد أو الشيخ، وهو يقرأ القرآن في المقابر، بينما تلعب الإناث "دوراً ملعوناً"، مثل النداهة وجنية البحر.

برزت في قريتنا شخصية النداهة الأسطورية. كانت المزارع والحقول بعيدة عن الأحياء السكنية، في هذا الطريق الطويل، خاصة أثناء عودتنا في المساء، حيث الظلام والصمت المخيم، نسمع وشوشات كثيرة يحار فيها العقل، واختبر العديد من الفلاحين هذا الصوت الذي يناديك باسمك. صوت مغرٍ، مغوٍ وأنثوي.

اخترع الناس أساطير وضحايا للشخصية الأنثوية الأسطورية "النداهة"، مصاصة الدماء التي تختبئ خلف الترع، القنوات البحرية التي تسقي المزارع وعيدان الذرة، تناديك باسمك، إن التفتّ، ستراها أنثى ساحرة، وإذا سرت خلفها ستأكلك أو تجننك. العديد من الرجال فقدوا عقولهم بسببها.

وكانت أمهاتنا دائماً ما تخوفننا من السباحة في مياه الترع، لم تكن دودة البلهارسيا رادعاً كافياً لنا، ولكنها هي، الأنثى التي تسكن في أعماق البحر أو مياه الترع العميقة، تخرج من حفرتها عندما ترى رجلاً، تمسك بقدميه وتنزله عنوة حتى يغرق، فعلت ذلك مع أحد أصدقائنا، إنها جنية البحر.

"كاسيات عاريات"

عندما كبرت وتبنيت السلفية متأثراً بمد "الصحوة الإسلامية" القادم من السعودية وقطر، ثم الشاذلية الصوفية، كثرت الأمثال والصور والقصص التي تصور المرأة بالمغوية.

ولطالما داعب مخيلتي في بواكير المراهقة حديث يقول: "سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله… وشاب دعته امرأة ذات مال وجمال فقال لها إني أخاف الله".

وأيضاً تلك الصورة الشيطانية التي يرسمها حديث يقول عن صنف من أهل النار لم يرهم الرسول بعد: "ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن… لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها".

العديد من القصص قرأتها وحفظتها، عن صالحين أخيار أضلتهم الأنثى المغوية عن الطريق، وأكاد لم أسمع قصة واحدة عن العكس، الرجل المغوي الذي أضل امرأة عن الطريق.

في الدين، يُشار إلى نوع الملاك والجان بضمير المذكر، وكذلك الرب والشيطان، وكأن لا حول ولا قوة لتاء التأنيث في تلك الدراما الوجودية، وهكذا صُبغت أساطير قريتنا الصغيرة في إحدى محافظات الدلتا في مصر

الصور المهينة

بعيداً عن الدين، يتردد على مسامعنا تلك الصور المستقاة من مفردات وأمثال شعبية، دائماً ما يتم استحضارها في مناسبات تعامل الذكور مع المرأة، مثل "لبؤة" و"شرموطة".

"لبوة"، وتعني أنثى الأسد، وتقال على سبيل التحقير والإهانة، "شرموطة" وهي الخرقة التي تمسح بها الأماكن القذرة من المنزل، وهو أقذر تشبيه، لا يحظى به قاتل أو سارق أو ديكتاتور، فقط المرأة التي تمارس الجنس الحر، و"ضلع المرأة أعوج"، كل تلك الصور والأخيلة يتداولها الناس، وربما تكون من أكثر الصور إهانة في الوعي الجمعي، ومرتبطة جميعها بالمرأة المتحررة التي تمتلك إرادة واستقلالاً.

تلك الصور التي يعتقد الناس في أفكارها ومعتقداتها، يسميها المحلل النفسي كارل يونغ "الأنماط البدئية"، وتكمن في اللاوعي الجمعي، وتؤثر بدرجة كبيرة على إحساسنا بهويتنا ودوافع سلوكياتنا.

وأبرز صورة إيجابية عن المرأة تجسدها "الأم" الراعية والمضحية للابن الذكر أو الزوج الذكر. كثير من قصص القرآن عن النساء الفاضلات في القصص الدينية والحكايات الشعبية هن أمهات، وأحياناً أم عذراء، وهو "النمط البدائي" المحبب.

ما يدهش أنه في كثير من الحضارات القديمة، كان للإلهة الأنثى مكانة وسلطة وقوى سحرية توازي الرجل، وأحياناً تكون أقوى وأكثر تأثيراً من الرجل، سواء من ناحية البناء والخلق أو الهدم والتدمير.

فكيف تحولت أو اختفت قوة الأنثى، كيف حدث هذا؟ 

"إنليل" وفجر الذكورية

تسرد كريس هاردي، دكتوراه في علم النفس العرقي وباحثة سابقة في مختبرات برينستون للأبحاث النفسية الفيزيائية، في كتابها "جينات الآلهة"، تلك اللحظة التي سُلبت من الأنثى قوتها الأسطورية وقُمعت، في معركة بين الآلهة حدثت في بدايات الحضارة السومرية جنوب العراق.

فكيف تحولت أو اختفت قوة الأنثى، كيف حدث هذا؟ 

كانت نينماه، المهندسة الإلهية الأنثى، التي أخرجت من نخاع عظام الأنوناكي "الدي إن إيه"، وحقنتهم في كائنات ستصبح بشراً، وساعدها إنكي وهيرميس. ولكن كان لإنليل رأي آخر، فحاول جاهداً استعباد البشر حتى يتسنى له بعد آلاف السنين القضاء عليهم وهم تحت سحره، ومن إنليل بزغت مفاهيم الخطيئة، دونية المرأة وإدانة الجنس الحر، وهو الذي خلق مفاهيم الشر والخير وفرض العقيدة الدينية على الناس.

إيزيس سيدة الكون

في مصر، كانت لأساطير الآلهة الإناث شأن آخر. يستعرض بيونغ ليو، باحث من جامعة من مانغوليا الصينية، في دراسة بعنوان "المرأة الشريرة في الأدب المصري القديم"، الجانب المظلم والمخيف الذي جسدته الآلهة الإناث، في أساطير عكست حالة "رهاب الأنثى" على حد تعبير ليو.

للإلهة إيزيس جانب طيب، تماماً مثل حتحور، ولكنها أيضاً تمتلك جانباً مظلماً ومرعباً، فقد كان لديها شغف قوي بمعرفة الاسم السحري والغامض لرع، إله الشمس، الذي من خلاله يتحكّم في الكون. 

كان المصريون القدماء يعتقدون أنهم إذا عرفوا الاسم السحري يمكنهم أن يسيطروا على الأقدار الكونية والبشرية.

قامت إيزيس بخلط الطمي بلعاب رع عبر النار، وخلقت منه سهماً، ومارست السحر على السهم ليتحوّل إلى أفعى، ثم أجبرت الأفعى أن تعض أبيها رع، وتحت تأثير السم والسحر طلبت من أبيها أن يخبرها بالاسم الأعظم فأخبرها، وأصبحت سيدة الكون.

أما حتحور فلم تكن إلهة "بقرة فاضلة"، كما صورتها الأساطير المصرية فقط، بل كانت أيضاً إلهة الحرب والموت. كانت متوحشة ودموية، وهناك أسطورة حول ممارستها للقتل بشكل مفرط، وكانت على شكل أسد تقتل العالم وتلعق دماءهم. كانت تقف وسط بحر من الدماء، تشرب الدم الساخن برغوته ولا تتوقَّف.

وتشير الدراسة إلى أن بدايات الحكمة الخطية المكتوبة، تمتلك نزعة ذكورية خالصة تعكس رهاباً من قوة الأنثى.

قديماً، نقرأ في الأدبيات المصرية القديمة نصائح من الأب للابن تطعن في شخصية الأنثى، مثل: "لا تفتح قلبك لزوجتك، ما ستقوله لها سيذهب إلى الشارع. اجعل زوجتك ترى ممتلكاتك، ولكن لا تسلمها لها. لا تعطها طعام العام كله".

"ما تفعله المرأة مع زوجها اليوم تفعله مع رجل آخر غداً. لا تبتهج بجمال زوجتك، فقلبها مفطور على حب نفسها. احرص ألا تدع المرأة تعمل معك، لأنها ستفكر في نفسها أولاً".

ويحذر بتاح حوتب أبناءه من الاقتراب من الإناث، فالأنثى سحر يجذب الذكر ويجعله خارج السيطرة، ويؤدي في النهاية إلى وفاته. فعل الشر هنا منسوب إلى المرأة، والذكور يرون أنفسهم بأنهم يقاومون الإغراء.

لقد خلقت الأدبيات المصرية القديمة بلغة واضحة هذا النمط الذكوري، الذي يحصر المرأة في صورة "الثرثارة، الخائنة، التي لا يوثق فيها"، بحسب ليو.

العديد من القصص قرأتها وحفظتها، عن صالحين أخيار أضلتهم الأنثى المغوية عن الطريق، وأكاد لم أسمع قصة واحدة عن العكس، الرجل المغوي الذي أضل امرأة عن الطريق

الأسد واللبؤة

واعتقد المصريون القدماء، بحسب محاضرات الروحاني الإيطالي ماتياس سيتفانو في بوابة جايا، أن المصلحين تأتي أرواحهم من ضوء الشمس، وغالباً ما يصوَّرون على هيئة وجه الأسد للذكور ووجه اللبؤة للإناث، يوفدهم الإله الكبير رع لإصلاح البشرية حيناً، أو للانتقام منهم أحياناً أخرى.

وظلت صورة الأسد، نابضة، حيوية، مكرمة في الخيال الشعبي، الذي يشير إلى قوة الذكر وسيطرته، بينما أدينت ولعنت "اللبؤة" أنثى الأسد، ولا تقال إلا في سياق السب والإهانة للمرأة غير الوفية لزوجها.

وعندما قرأت عن تجسيدات "اللبؤة" في الأساطير القديمة، لم أندهش لحكاية سخمت (من بين الإلهات التي تمثل بشكل أسطوري ونهائي قوة الإناث)، بحسب مقال نشرته بوابة "غايا" الروحانية.

سخمت من أقدم الآلهة في البانثيون المصري القديم، ولها ألقاب وأسماء عديدة. ترتدي زياً أحمر، وتربطها صداقات وعلاقات وثيقة بآلهة إناث، مثل حتحور وباستيل.

بحسب الأسطورة، فقد غضب رع، إله الشمس، من جموح البشر وانحرافهم عن طبيعتهم الطيبة، فقرر معاقبتهم بإرسال ابنته عين رع، واسمها سخمت، في شكل لبؤة، وكانت هائجة بالغضب، فملأت الحقول الخضراء بدماء البشر. ولكن رع، الذي بحسب الأسطورة لم يكن إلهاً قاسياً، أمرها بوقف الدمار، ولكنها لم تطع، حينها قرر الرب سكب 7 أكواب من الجعة وعصير الرمان في طريقها، شربتهم ونامت ثلاثة أيام، وعندما استيقظت هدأ جموحها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard