شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
البريد الأردني القديم… ذكريات ماض لا يعرفه إلا جيل طريق حافلات عمّان - القدس

البريد الأردني القديم… ذكريات ماض لا يعرفه إلا جيل طريق حافلات عمّان - القدس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 13 أكتوبر 202002:18 م

منهم/ن من نصحني بأن أتخذ طريق "شارع الأمير محمد" في نهاية "الدوار الثالث"، ومنهم/ن من نصحني بأن أسلك الطريق المؤدي من منطقة "رأس العين" إلى شارع "السلط" في قاع المدينة عمّان، ومنهم/ن من ألح علي أن أتناول صحن كنافة من "حلويات حبيبة" عند الانتهاء من جولتي المؤدية إلى مقر البريد الأردني في وسط البلد عمّان، وهو يعتبر من أهم الرموز القديمة في البلاد، والذي تأسس عام 1921.

كل من تحدثت معهم/ن في هذا التقرير حول البريد الأردني الذي كان وسيلة الاتصال الوحيدة مع أحباب الأردنيين/ات في الخارج، نصحوني باستخدام الطريق المؤدية إلى البريد، الطريق نفسها التي كانوا يسلكونها قبل أكثر من خمسين عاماً، لم تأت النصيحة احتراماً لذكرياتهم/ن فقط، بل شعرت أنها جاءت عفوية خارجة من صندوق ذكريات لماض جميل ما زال محفوراً في ذاكرتهم/ن. نصائحهم/ن العفوية تلك تجاهلت أن العاصمة عمّان لم تعد منطقة جبل عمان، واللويبدة، ورأس العين فقط، بل كبرت وأصبحت كل طرقها تؤدي إلى مقر البريد الأردني.

"البريد الأردني هو بريد المحبين والعاشقين"

لذة الانتظار، استخدام الكلمات الرقيقة كـ "زقزقة العصافير"، وتخيل شعور المتلقي، وغيرها من ميزات اتفقوا عليها أشخاص تحدثت معهم/ن خلال إعداد هذا التقرير، عن القيمة المعنوية للبريد الأردني بالنسبة إليهم/ن، وهو ما بدا ظاهراً بما خرج من أفواههم/ن من سرد لرصيف22 عن ذكريات ماض لا يعرفه إلا جيل النكبة، النكسة، وخط طريق حافلات عمّان-القدس.

أغلبية من عمل في البريد الأردني نساء

"البريد الأردني هو بريد المحبين والعاشقين" يقول السبعيني كمال أبو سنينة لرصيف22، وهو من نصحني باتخاذ طريق شارع الأمير محمد باتجاه البريد الأردني، وعاد معنا في حديثه لذكريات الرسائل التي كانت ترسل عبر البريد الأردني في وسط البلد بين العشاق، كامتداد لشكل الرسائل بين العشاق التي كانت عبر "بريد البلكونة (الشرفة)، أو بريد "بيت الدرج"، أو حتى تلك التي كانت تخبأ بين طيات الكراسات "الدفاتر" والكتب المدرسية، كما يقول. 

ويضيف في حديثه عن الماضي البعيد: "كانت الصناديق البريدية في زمننا بالمراكز البريدية في المدن والمحافظات وكل شخص كان يحمل مفتاحاً لصندوقه البريدي، وكان البريد الأردني هو المكان نفسه الذي تباع فيه الطوابع البريدية التي توضع على ظرف الرسالة قبل إرسالها، منها ما كانت تحمل رسومات تتعلق بالمناسبات الوطنية، أو حتى العالمية مثل رسومات الوصول إلى القمر، وكانت هناك أيضاً رسومات رمزية يُستخدم كل منها حسب غاية مرسلها أو مرسلتها".

"البريد الأردني هو المكان الذي استوعب المرأة الأردنية بعد مهنة التعليم" يقول أبو سنينة، لافتاً إلى أنه في الوقت الذي كانت تنحصر مهنة النساء الأردنيات في مجال التعليم في تلك الحقبة الماضية، كان البريد الأردني مدخلاً آخر لـ"احترام قيمة وقدرة المرأة الأردنية العاملة" كما يقول، مبيناً: "أغلبية من عمل في البريد الأردني نساء، وكانت لي قريبات وجارات وخريجات من الثانوية العامة هناك".

ومن الأشياء الظريفة التي تذكّره بالبريد الأردني، يقول كمال أبو سنينة: "كثيراً ما كانت تحدث أخطاء تتعلق بإيصال الرسائل القادمة إلى البريد لأشخاص ليسوا أصحابها أو بسبب تشابه في الأسماء، ولك أن تتخيلي القصص والطرائف التي كانت تحدث لمن تصلهم/ن رسائل بالخطأ والإحراج الذي كان يقع على أصحابها الحقيقيين خصوصاً عندما تكون تلك الرسائل بين عشاق".

"كان يُنظر لي بعين الحسد"

لا يزال الستيني وائل البرغوثي يذكر حتى اليوم رقم صندوق بريد العائلة الذي كان: "7216". يقول لرصيف22: "في السابق قبل أن يكون لدينا صندوق بريدي كنت أراسل أصدقائي وأقاربي في الكويت والسعودية عبر البريد الأردني وكانت المراسلات على عناوين دكاكين الحي، من ثم تطورنا عندما اشترك واحد من أبناء عمومتي - رحمه الله - بخدمة صندوق البريد في مخيم الزرقاء، الأمر الذي أفرح العائلة كاملة"، ويضيف هنا مشهد مضحك رواه باللهجة المحكية: "لما كنت ألولح بمفتاح صندوق بريد العائلة كل الناس كانت تنظر لي بعين الحسد... ويقولون عندهم صندوق بريد! وكأنه عنا سيارة ليكزاس".

ومن القيم المعنوية التي لا يدركها إلا حراس ذاكرة البريد الأردني مثل وائل البرغوثي، هي قيمة الانتظار، ومنح القيمة والاحترام للرسائل القادمة من بعيد. يقول: "عندما كانت تصلنا رسالة كنت أحملها من الصندوق وأعود ركضاً إلى المنزل، حيث كانت لدينا طقوس عند استقبال رسالة من أحبتنا في الخارج، إذ كنا نلتف جميعاً حول والدي رحمه الله الذي كان يقرأ لنا رسائل أخيه مثلاً من الكويت بصوت عال، ونحن ننصت إليه وكل واحد منا يحلق بخياله مع نبرات صوت أبي إلى الكويت".

ويواصل البرغوثي حديثه عن قيمة الانتظار، فيقول إن أهم ما فيها هو: "العامل النفسي واللهفة ولذة تلك اللهفة التي تبدأ منذ لحظة ختم الرسالة وتنتهي بعد وصولها وقراءتها، كل شيء أيام زمان له قيمة! اليوم عندما أتواصل مع ابنتي في أميركا عبر الماسينجر أو الواتساب لا ألمس الإحساس الذي كنت أشعره في زمن رسائل البريد".

"كثيراً ما كانت تحدث أخطاء تتعلق بإيصال الرسائل القادمة إلى البريد لأشخاص ليسوا أصحابها أو بسبب تشابه في الأسماء، ولك أن تتخيلي القصص والطرائف التي كانت تحدث لمن تصلهم/ن رسائل بالخطأ والإحراج الذي كان يقع على أصحابها الحقيقيين خصوصاً عندما تكون تلك الرسائل بين عشاق"

بدأت العلاقة عبر "أصدقاء ماجد"

الانتظار هو النقطة نفسها التي وقفت عندها الستينية نهلة الحسيني في حديثها لرصيف22، والتي اعتبرتها أهم من الرسالة. قالت: "الأهم من الرسالة كان انتظار الرسالة، مثل عندما كنت أنتظر ما أتلهف بانتظاره، فأنا من الجيل الذي بدأت علاقته مع البريد الأردني عبر "أصدقاء ماجد"، وهي مرحلة لا يعرفها إلا من كان يتابع مجلة ماجد، وله القدرة على شرائها طبعاً!".

وأضافت: "عندما كنت أذهب إلى البريد لإرسال رسالة لـ "أصدقاء ماجد"، كنت أجد فتيات وشباباً من جيلي هناك يرسلون رسائل لمنتدى أصدقاء ماجد أيضاً، كان لي أصدقاء حقيقيون في ذلك المنتدى وليسوا وهميين حتى لو كانوا عن بعد، كنت ومن هم/ن من جيلي، نرسل رسائل إلى مصر، وتونس، والسودان، والكويت. كنا مشتركين/ات في المنتدى وننتظر بلذة الصبر".

وختمت: "كانت تصلنا من أصدقائنا في منتدى أصدقاء ماجد رسائل وهدايا مثل هدايا العيد في ظرف وطوابع ورائحة جميلة خارجة من الظرف تحمل معها شوقاً من أصدقاء لا نعرفهم/ن جسدياً، وأذكر أن ظروف الرسائل كانت غالباً ما تكون ملونة بالأحبار، وأحياناً بملصقات أفلام الكرتون".

"‏فيسبوك وواتساب خاليان من الطعم"

دائماً ما كانت ترافق عبارات الرسائل "المكاتيب" التي كانت تخطها السبعينية ريهام عيسى عبارات خفيفة كـ: "الطيور تغرد والعصافير تزقزق" هكذا قالت لي في حديثها العائد لأيام البريد، هي التي نصحتني بأن أسلك طريق منطقة رأس العين إلى شارع "السلط" في وسط البلد للوصول إلى مقر البريد الأردني، ذلك لأنه كان الطريق نفسه الذي كانت تسلكه من منزل عائلتها في رأس العين إلى البريد الأردني لترسل رسائل إلى شقيقتها - رحمها الله - التي كانت تعيش في الكويت.

وتقول لرصيف22: "كان يوم الذهاب إلى البريد الأردني يوماً مبهجاً كبهجة الذهاب إلى السينما، كنت أذهب مع صديقتي عايدة - رحمها الله - إلى هناك مشياً، وقبل إرسال الرسالة كنت أدفع قرشين ثمن الطوابع التي كنت أختارها بعناية لا تقل عناية عن العبارات التي كنت أخطها في رسالتي لشقيقتي، إذ كنت أحرص على أن أرسم على وجهها الابتسامة وهي تنظر إلى الطوابع قبل فتح الرسالة".

كان يمر على وصول الرسالة بحسب ما ترويه ريهام 15 يوماً، وتقول: "كنت أنتظر رد الرسالة من شقيقتي على أحر من الجمر، وفي اليوم الذي كان يأتي فيه ساعي البريد راكباً الدراجة الهوائية أمام منزلنا، أقفز إلى عتبة الدار سعياً لأن أكون أول من يستلم الرسالة القادمة من شقيقتي بالكويت، كنت اقرأ الرسالة حوالى عشر مرات في اليوم، وكانت دائماً تنام تحت وسادتي".

وتختم: "ليت الزمان يعود يوماً، فيسبوك وواتساب خاليان من الطعم، واللون، والرائحة الجميلة التي كنا نشتمها زمان زمن البريد الأردني والمكاتيب".

رسائل مع الحبيب

المضحك عند سؤال الستينية رائدة إبراهيم عما يذكّرها بماضيها مع البريد الأردني وزمن الرسائل، أنها ركزت على تجربة تندم عليها كل يوم بحسب قولها، فهي تعرفت أكثر على زوجها، عندما كان خطيبها، عبر رسائل البريد بينها وبينه عندما كان يعيش في الكويت، إذ كان يومياً يكتب لها رسالة وترد عليها، وتبين: "أذكر عندما تزوجنا في واحدة من المرات قمنا بتجميع رسائلنا أيام الخطبة، وعندما أحصيناها تبين أن عددها 200".

وعن الذي تندم عليه كل يوم، تقول: "مرة حدث خلاف بيني وبين زوجي رحمه الله، فقمت بحركة سخيفة جداً ومزقت جميع رسائلنا، الله يسامحني ويا رب أن يكون قد سامحني على هذا الفعل!".

"المقارنة بين جيل الماضي وجيل الحاضر من حيث القدرة على الانتظار مقارنة غير عادلة، لأن كلاً منهما يعيش في عالم مختلف، وأصبح الانتظار مهارة فردية نسبية تختلف من شخص لآخر، وأصبح العقل البشري اليوم خاضعاً للحياة العملية التي تغلبت على العاطفة، وأصبحنا نزن الأمور بعقلنا إن كانت تستحق انتظارنا أم لا"

المقارنة غير عادلة

تحدثت في نهاية إعدادي لهذا التقرير مع اختصاصية بعلم الاجتماع الدكتورة فاديا الإبراهيمي وذكرت لها بعض من اللقطات التي سردوها من عاصروا زمن البريد القديم، وعلقت على قيمة الانتظار: "في الماضي كل شيء كان يتغير ببطء، وكان الشخص يملك الوقت الكافي لإنجاز كل المهام على مهل، لذلك كانت لديه القدرة على الانتظار لأن إيقاع الحياة كان بطيئاً".

وعندما بدأت تظهر عدة اختراعات ساهمت في سرعة عجلة الزمن، وأدت إلى تغيير السلوك الاجتماعي البشري بشكل كبير كما تضيف الدكتورة فاديا، أصبح من الصعب تقدير قيمة الانتظار، ولعل أهم هذه الاختراعات، حسب تعبيرها هو  "الاختراع الفتاك الإنترنت، الذي لم يغير في شكل السلوك البشري فقط، بل نسفه تماماً وبنى سلوكاً اجتماعياً جديداً مختلفاً عن الماضي وخلق إنساناً جديداً يختلف في مشاعره وأطباعه وردود أفعاله، وغيّر رمزية كل ما له علاقة بالمشاعر الإنسانية، فنحن اليوم لا نستطيع أن نعطي الأشياء حقها من الوقت لأن الوقت أصبح سريعاً ويحتوي على تفاصيل كثيرة ومعقدة".

وختمت: "المقارنة بين جيل الماضي وجيل الحاضر من حيث القدرة على الانتظار مقارنة غير عادلة، لأن كلاً منهما يعيش في عالم مختلف، وأصبح الانتظار مهارة فردية نسبية تختلف من شخص لآخر، وأصبح العقل البشري اليوم خاضعاً للحياة العملية التي تغلبت على العاطفة، وأصبحنا نزن الأمور بعقلنا إن كانت تستحق انتظارنا أم لا".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard