شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"الحنيّة تختبىء بالطعام ولا تغادره"... سوريات يجهّزن "بيت المونة" في غربة برلين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 7 أكتوبر 202001:40 م

كدخول "أليس" إلى بلاد العجائب، هكذا يسكن المشهد في مخيلتي، مشهد دخولي إلى "غرفة المونة" للمرة الأولى. لم يساعدني طولي، وحجمي على معرفة محتوى كل هذه البرطَمانات. وتمييز تفاوت ألوان محتوياتها. كيف وصلت كل هذه البرطمانات إلى الرفوف؟ ولمَ كل تلك الكميّات؟ وكيف للطعام أن يصير أخّاذاً إلى ذلك الحد؟ لاحقاً، سيكتمل المشهد على هيئة الخطف خلفاً، أي إلى تلك المراحل التي تسبق وصول البرطمانات إلى الرفوف. مثلاً، سيّارة "بيك آب" حصراً يتسع صندوقها لأكياس فيها فليفلة حمراء، أو باذنجان، أو مشمش. 

وبالتالي، جلوسنا في المقدمة بصعوبة لأن عدد الأشخاص الذين يقومون بمثل هذا المشوار أكثر -غالباً- من العدد الذي تسمح به مقاعد السيّارة. تمر في ذاكرتي أيضاً بعض العبارات من قبيل "دور مين يطلع عالسطح يحرّك دبس الفليفلة؟ ما في غيري بالبيت؟ رجّعتوا القماشة على المربى أكيد؟ بيكفي عشرة كيلو؟ ".

كان كل ذلك في سوريا، فكيف صار المشهد اليوم في برلين حيث غابت أرض الدار وحكايات الحارة؟

 لم نكن بحاجة إلى أن ندوّن ملاحظة على ورقة، أو أن نضبط المنبّه. كانت مراقبة أسطح العمارات وأرض الدار كافية لنرى أطباقاً أو صحون قشٍ امتلأت ببندورة قطّعت نصفين، أو أكواز التين أو أن نرى حبال الغسيل وقد تجاوزت دورها لتُعلّق عليها حبال من البامية مثلاً لنعي أنّ موسم المونة قد بدأ. كان كل ذلك في سوريا، فكيف صار المشهد اليوم في برلين حيث غابت أرض الدار وحكايات الحارة؟ 

تعود شيرين ريشو، وهي معلّمة سورية مقيمة في برلين، في ذاكرتها إلى بيت أهلها، راوية لرصيف22 عن ملامح طقس تحضير المونة فتقول: "أذكر جيّداً كيف أحضر والدي عدداً كبيراً من سحّارات البندورة، وكيف كنّا نغسل هذه الكميات الكبيرة من البندورة بالماء، ثم نقطّعها ونرشّها بالملح لنعصرها في اليوم التالي، ثم نتركها في الشمس". تشرح شيرين كيف أن العمل كان يتم بمساعدة الأقارب والجيران ليصير الطقس أشبه بمهرجان جماعي "يروي أحدهم نكتة، ويرد عليه الآخر بقصة ما، فيستحضر أحدهم حكاية مضحكة يرويها لنا".

 "توقيت القلب" هكذا تسمّي الروائيّة السورية إيناس عزّام هذا الوقت من السنة، موضحةً في حديث لرصيف22: "كنّا نفرّغ أنفسنا للقيام بمساعدة الجيران مثلاً في تحضير مونتهم، وكانت فرحةً صغيرة أن نتمكن من تأمين حاجتنا من الباذنجان أو الفليفلة الحمراء والجوز للمكدوس الذي يترافق وفصل العودة إلى المدارس، ورغم صعوبة الأمر تتبادل صبايا الحارة الزيارات بغرض العمل والتعاون معاً".

"سعيدة لتمكّني من الحصول على خيار بصورة مباشرة من إحدى مزارع برلين، ولهذا أحرص على عمل المخلل الذي يقترب في طعمه من مخلل سوريا ولا يشبه تلك الحالة من الحيرة ما بين المالح والحلو والتي أجدها في المخللات الجاهزة في برلين"

 كان الأمر بمثابة عمل مشترك، يتقاسم فيه الأقارب والجيران المهام والنتاج على حد سواء، فلكل بيت نصيبه من "مكدوسات" الجيران، ولكل مهمته. تشرح شيرين ريشو كيف تقاسم أهلها وأقاربها تموين الحنطة: "كنا نزور الضيعة في تلك الفترة، فيحضر والدي كيساً كبيراً من الحنطة، وبمساعدة الجيران نقوم بإتمام العمل. يغسل أحدهم البرغل، ويشعل آخر له النار، ويحرك ثالث الحنطة مع الحرص على توزيع قسم منها للجيران ونشرها على سطوح البيوت". 

وربما استناداً إلى هذا البعد الاجتماعي، اكتسبت المونة معاني أبعد من كونها مجرد طعام، لتصير طقساً، وفصلاً من فصول حياة السوريين/ات، ودعوة مفتوحة على امتداد فصول السنة ليتموّن الجيران والأقارب من مونتهم. توضح عزام في وصفها بيت المونة في منزل أهلها، كيف أنّه كان بمثابة ملاذ أهل البيت ولمن حوله كذلك، تقول: "هي غرفة من حجر أزرق، باردة في الشتاء والصيف، لكنّها حنونة على أهل البيت ومن حولهم. كنّا نترك مفتاحها مع أحد الجيران أو الأقارب، ونحرص على تمييز محتوى البرطمانات بالكتابة عليها ليعرف كل من مرّ بغرفة المونة كيف يمكنّه التزوّد بما يحتاجه من محتوياتها التي تنوّعت ما بين النبيذ، والخرما، والتفّاح والمربيّات والزيتون وغيرها. وبهذا يسهّل على الجميع التمييز مثلاً بين قمر الدين المعد من المشمش أو من الدرّاق".  

تنطلق عزّام من الأدب وحبّها له وتستحضر الروائي الطيّب صالح في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" فتشرح كيف أن الطيب صالح قد حمل مفردات السودان إلى أوروبا، وكيف يحمل السوريون/ات ثقافتهم اليوم إلى برلين من خلال الطعام وثقافته، متسائلةً: "ألا تشعرين أنّ برلين في الكثير من اللحظات تشبه الشام؟". 

"ألا تشعرين أنّ برلين في الكثير من اللحظات تشبه الشام؟"

يأتي ذلك في معرض حديثنا عن اختلاف الدوافع الكامنة وراء تحضير المونة ما بين سوريا وبرلين. فإن كان الخوف من الغد، أي من المجهول، أو من البرد أو ندرة الموارد وغيابها من بعض الدوافع التي رسَخت حرص السوريين/ات على إعداد المونة في سوريا، وإن كنّا نتقن صداقة الشمس فنقدد ونجفف ونخبئ حرارتها بين رفوفنا، فأي دوافع يملك السوريون/ات اليوم لنقل طقس المونة قدر المستطاع إلى برلين؟

تجيب عزام: "هو جسر نتمسّك به رغم اختلاف ملامح المشهد بين البلدين لنتواصل ونتذكّر. تئن الشجرة حين تقتلع من أرضها، وهذا ما حدث مع أغلبنا، وربما لهذا وضعنا ذاكرتنا في الحقائب قبل أي تفصيل آخر، ولهذا كلّما ذهبنا إلى شارع العرب في برلين، ذهبنا لشراء ذاكرتنا، وذكرياتنا". 

وإن كان البحث عن الذاكرة دافعاً، فقد يشكّل البحث عن أصالة الطعم دافعاً آخر. تقول شيرين ريشو: "سعيدة لتمكّني من الحصول على خيار بصورة مباشرة من إحدى مزارع برلين، ولهذا أحرص على عمل المخلل الذي يقترب في طعمه من مخلل سوريا ولا يشبه تلك الحالة من الحيرة ما بين المالح والحلو والتي أجدها في المخللات الجاهزة في برلين". 

هذا التغيّر لم يكن على صعيد الدافع فحسب، وإنما أيضاً على سمات مشهد تحضير المونة بين سوريا وبرلين، وهذا الانتقال بالتالي من حدث ذي صبغة اجتماعيّة يشمل الأسرة الممتدة وأبناء الحارة وبناتها إلى تقليص تلك المساحة من حضور الكثيرين والكثيرات مع كل ما لديهم/ن من حكايات، وأغنيات ونكات ونيّة محبة للمساعدة ليتمحور المشهد حول عمل يقتصر على الأسرة الصغيرة أو حتى أحد أفرادها فقط.

تقول شيرين: "أحضّر المونة في برلين وحدي، إذ غاب حضور تلك الروح الجماعيّة. وفي الكثير من الأحيان أنجز الأمر كمهمة لأبدأ بغيرها". هذا التحوّل في الطقس لم يمنعها من الاستمرار في عمل دبس الفليفلة، والمخلل".

أما إيناس فتقول: "لا يشاركني أحد تحضير المونة في برلين، ولهذا ربّما أستدعي حضور أمي ووالدة زوجي وهو ما يجعله يشعر ببدء طقس المونة في المنزل من رائحة الأمهات في أرجاء البيت".   

تمرر من الجيران العرب وإليهم في برلين تلك الصحون والبرطمانات التي تقدّم على صيغة "اشتهينا لكم هالسكبة"، أما ما يمرر للجار الألماني فقد يترافق مع سرد قصة عن وقع معقود التين، أو عن الحب الذي يسكن تفاصيل تحضير المونة، فالأمر يتجاوز حد طعام صنع ليؤكل، فكيف صنع هو ما يهم

تمرر من الجيران العرب وإليهم في برلين تلك الصحون والبرطمانات التي تقدّم على صيغة "اشتهينا لكم هالسكبة"، أما ما يمرر للجار الألماني فقد يترافق مع سرد قصة عن وقع معقود التين، أو عن الحب الذي يسكن تفاصيل تحضير المونة، فالأمر يتجاوز حد طعام صنع ليؤكل، فكيف صنع هو ما يهم. 

تشاركني إيناس عزّام كيف كان والدها يحرص على تقطيع الفليفلة الحمراء وتنظيفها خوفاً على يديها ويدي والدتها من لسعة الحر، وتقول: "هذه الحنيّة تتخبئ في الطعام ولا تغادره، وبهذا تصير المكدوسة أكثر بكثير من مجرد مكدوسة".

 بمرور الوقت، تتسلل تلك المشاهد إلى برلين فيصير من المألوف أن تشاهد أكياس الفليفلة الحمراء بكميات كبيرة في القطار، أو أن تسترق السمع إلى حديث رجلين عن ارتباكهم في اختيار نوع الباذنجان الأنسب لتحضير المكدوس. فهل تصير برلين بيت مونتنا المشتهى؟  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard