شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"يارايح فلسطين حوّد على غزة"... محمد طه صاحب الألف موّال وزعيم الزجل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 28 سبتمبر 202005:00 م

فنان شعبي تلقائي وأيقونة لا تغيب، خليط لا مثيل له جمع جغرافيا مصر في روحه، فجاءت أغانيه ومواويله وكأنها نشيد للوطن والحرية والناس، وموال متصل لم ينقطع برحيل صاحبه أو غيابه. محمد طه مصطفى أبو دوح الشهير بـ "محمد طه"، أشهر من غنى الموال الشعبي في تاريخ الأغنية العربية، حتى وصل عدد مواويله إلى 10 آلاف، ضاع الكثير منها في ظل أزمة التوثيق التي يعانيها الفن العربي بشكل عام.

تزامناً مع الذكرى الـ98 لميلاده، التي توافق يوم 24 أيلول/سبتمبر، نستعرض محطاته، وقصة صعوده، ومواويله التي لا تغيب عن المقاهي والسهرات المصرية حتى يومنا هذا، ونستكشف مشروعه الفني الذي يختصر روح المصريين.

من الصعيد إلى قليوب

تعود أصول محمد طه إلى صعيد مصر، ولكنه لم يعش هناك فترة طويلة، ولد في أيلول/سبتمبر 1922 م في "طهطا" بمحافظة سوهاج، البلدة التي ينتسب إليها أيضاً العلامة رفاعة الطهطاوي.

قضى محمد طه السنوات الأولى من حياته في مسقط رأس والده في الصعيد، قبل أن ينتقل إلى شمال مصر، حيث بلدة والدته "عزبة عطا الله" التابعة لقرية سندبيس بمركز قليوب. غادر الفتى الصغير الصعيد بلا عودة، لكن الروح الصعيدية بقيت راسخة داخله شكلاً ومضموناً.

سوهاج بلد المواويل

في الأغنية الأشهر للأيقونة داليدا التي تستعرض فيها محبتها لأنحاء مصر "أحسن ناس"، والتي كتب كلماتها الشاعر الكبير صلاح جاهين، يأتي ذكر مسقط رأس طه "سوهاج" على أنها بلد المواويل، وهو الأمر الذي رسّخه محمد طه باقتدار طوال حياته الحافلة، بعد أن قدَّم آلاف المواويل، التي يبقى الكثير منها حاضرا في الذاكرة الجمعية للمصريين، رغم مرور ما يقرب من ربع قرن على رحيل صاحبها.


حكاية محمد طه مع الموال والغناء ارتبطت بالصعيد، ولكنها لم تبدأ هناك، بل كانت أولى محطاتها في قرية "سندبيس" مسقط رأس والدته حيث تعلّق قلب طه بالغناء والارتجال وسط العمال.

بدأ طه حياته الفنية هاوياً، ولعبت المصادفة الدور الأكبر في وصوله إلى قلوب المصريين والعرب. كانت رحلة كفاح الفتى الصعيدي بحثاً عن لقمة العيش قد بدأت في أحد مصانع النسيج بشبرا الخيمة. هناك وسط العمال ظهرت موهبته في الغناء، ليلتقطه مصطفى مرسي الذي كان يعمل في المصنع نفسه، ويلقب بـ"رئيس الزجالين".

صنع محمد طه مشروعه من أحاديث العامة في المقاهي، وأغاني العمال في المصانع، لم يكن يحمل شهادات تعليمية، سوى شهادة الميلاد، لذا قال له طه حسين: "تحمل شهادة ربانية"

أدرك مرسي مبكراً الموهبة الاستثنائية، التي يتمتع بها طه فاهتم به، وعلمه فن الارتجال، كما أشار عليه بضرورة أن تكون خطوة البداية في القاهرة، ليبدأ بعدها طه مشواره الفني في موالد السيدة زينب والحسين، ومقاهي وسط القاهرة، يغني أحياناً من أجل كسب قروش قليلة، يفرقها عليه الزبائن، أو مجاناً.

مقهى المعلم علي الأعرج

كانت خطة محمد طه أن يقدّم أغانيه المرتجلة، وفنه التلقائي في مقاهى الحسين والسيدة زينب على أمل الوصول إلى تقديم بعض العروض على مسارح الفن الشعبي في القاهرة، ليكمل حضوره ما بين المقهى والمسرح، وهو ما استطاع تحقيقه بالفعل، لكن المصادفة عادت لتلعب دورها مرة أخرى فتغيّر مساره وترفع بسقف طموحاته. ذات ليلة من عام 1954 في مقهى المعلم علي الأعرج في حي الحسين، التي اعتاد طه الغناء فيه، استمع له الإذاعيان الكبيران طاهر أبو زيد، وإيهاب الأزهري اللذان قررا اصطحابه فوراً إلى مقر الإذاعة المصرية في شارع الشريفين بوسط القاهرة، حيث تم اعتماده مطرباً في الإذاعة، وسجّل العديد من مواويله بشكل رسمي. ويبلغ أرشيفه في الإذاعة نحو 350 موالاً.

بعد دخوله للإذاعة بعامين، عرف "طه" طريق الشهرة الواسعة، بعد وصوله لنقطة تحول جديدة في عام ١٩٥٦م، حيث بدأت تجربته مع الفن السابع بالمشاركة في العديد من الأعمال السينمائية، ويبلغ رصيد "محمد طه" السينمائي ما يتجاوز الـ30 فيلما، من أشهرها "ابن الحتة، خلخال حبيبي، رحلة المجانين، السفيرة عزيزة، دعاء الكروان، فيفا زلاطا، صراع في الجبل، أشجع رجل في العالم".


واصل "محمد طه" التألق طوال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وعندما قامت وزارة الثقافة المصرية بتكليف الفنان زكريا الحجاوي بتأسيس "فرقة الفلاحين للفنون الشعبية" قرر الحجاوي ضم محمد طه إلى فريقه، حيث تألق هناك في الفرقة التي أطلق عليها اسم "يا ليل يا عين" وجالت في جميع أنحاء العالم لتقديم الفنون الشعبية المصرية.


التقط الإذاعي الشهير "جلال معوض" رائد الموال من زكريا الحجاوي، وقرر أن يضمه إلى جدول حفلات ليالي أضواء المدينة، وكان حظ "محمد طه" طيبا بعد أن جاءت حفلته الأولى في مدينة غزة.

رائد الموال في غزة

"يا رايح فلسطين حود على أهل غزة، تقعد مع أهل الكمال تكسب وتتغذى، وسلم على يوسف حاكم قطاع غزة، وقوله إحنا البواسل...".

بهذه الكلمات افتتح طه فقرته الغنائية في غزة، وسط تصفيق الجماهير. ونجحت حفلته نجاحاً ساحقاً، وفتحت له الطريق للغناء في العديد من الاحتفالات الوطنية ذات الأبعاد المرتبطة بالقومية العربية.

كوَّن طه فرقته الموسيقية الشهيرة باسم "الفرقة الذهبية للفنون الشعبية"، وكانت تضم، بالإضافة إليه، شقيقه شعبان وعازفين للناي والأرغول والكمان والعود والطبلة، وظهرت في عدد وافر من الأفلام السينمائية والحفلات الدولية في جميع أنحاء العالم. كما أسس محمد طه شركة خاصة لطباعة أسطواناته، وهذا ما ساهم في حفظ جزء كبير من تراثه وحمايته من الضياع.

ما زالت مواويل طه حاضرة في المشهد الشعبي المصري حتى وقتنا هذا، ومن أبرزها مصر جميلة، يا اللي زرعت الحب، العاملين، إسمع كلامي، يا معلم الكل، حسن ونعيمة، الدنيا لو كشرت. وقد اشتهرت فرقته بآلة الأرغول، ذلك المزمار الطويل الذي يعود إلى الآشوريين فى العراق، وهو عبارة عن بوصتين مزدوجتين متجاورتين، إحداهما بلا فتحات تضبط إيقاع اللحن، والثانية لضبط سلم المقام الموسيقي وهي من خمس فتحات، وتُعدّ من آلات النفخ الشعبية.


خليط الروح المصرية

"أنا أصلي عامل، وعامل في الخير ومعلم، وفنان من الشعب للشعب، بأقول فن إرتجالي، ومن بالى، ومعلم".

بتلك الكلمات البسيطة عبّر طه في أحد مواويله عن مشروعه الموسيقي، وهو ما ساعد على إغناء الخليط الفني الذي قدمه طوال 74 عاماً عاشها في دنيانا حتى رحيله في تشرين الأول/نوفمبر 1996، ذلك الخليط الذي جعله يعايش تنوعاً اجتماعياً يختصر روح مصر بأكملها، منذ ولادته في الصعيد حتى انتقاله إلى قليوب، مروراً بعمله في مصانع الغزل والنسيج وسط العمال ما بين شبرا الخيمة ثم في كفر الدوار والمحلة، قبل انتقاله إلى حي شبرا العريق للاستقرار في وسط القاهرة.

"يا رايح فلسطين حود على أهل غزة، تقعد مع أهل الكمال تكسب وتتغذى، وسلم على يوسف حاكم قطاع غزة، وقوله إحنا البواسل"... بهذه الكلمات افتتح طه فقرته الغنائية في غزة، وسط تصفيق الجماهير


صنع محمد طه مشروعه من أحاديث العامة في المقاهي وأغاني العمال في المصانع، ولذلك عندما جمعت إحدى الحفلات محمد طه وعميد الأدب العربي طه حسين، أعجب صاحب "دعاء الكروان" بغنائه، وسأله عن مؤهلاته الدراسية، فرد محمد بأنّه لا يحمل إلا شهادة الميلاد وشهادة الخدمة العسكرية. إذ ذاك قال له طه حسين: "لكنك تحمل شهادة ربانية أكبر من الليسانس في المواويل".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard