شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"مصحف عثمان انتصر لمركزية الدولة"... الخلاف حول المصاحف وأثره في "الفتنة الكبرى"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 23 سبتمبر 202010:44 ص

في أواخر عام 35 هجري، اقتحمت مجموعة من الثوار منزل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فقتلوه وهو يقرأ القرآن، لتبدأ مجموعة من الأحداث السياسية المتسارعة في الدولة الإسلامية، وهي الأحداث التي عُرفت في ما بعد باسم "الفتنة الكبرى".

وعلى الرغم من توافر الكثير من الأسباب السياسية التي تضافرت لتُسهم في اندلاع تلك الفتنة، نجد كذلك مجموعة من الأسباب الدينية التي لعبت دوراً مهماً في نشر الثورة وتأجيج نيرانها.

توحيد المصاحف، واعتماد مصحف عثمان بن عفان كمصحف رسمي ووحيد في الدولة الإسلامية، كان واحداً من أهم تلك الأسباب الدينية، وأعظمها على الإطلاق.

اختلاف في الكلمات، والسور والترتيب

تتفق معظم الروايات التاريخية على أن القرآن لم يتم جمعه فى حياة الرسول، وكان السبب الرئيس في ذلك أن القرآن كان معرضاً للزيادة فى تلك الفترة، وبالتالي لم يكن منطقياً جمعه في تلك المرحلة.

بحسب ما ورد في صحيح البخاري، فإن الجمع الأول للقرآن وقع في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق، وذلك عندما تم جمع النص المقدس في شكل صُحف متفرقة، وذلك بعدما قُتل الكثير من الحُفّاظ في حروب الردة، وخاف المسلمون من ضياع كلام الله.

في الفترة التي أعقبت ذلك الجمع، ظهرت قراءات قرآنية متعددة عُرفت بمصاحف الصحابة، إذ عُرف الكثير من كبار الصحابة بقراءاتهم للقرآن بطرق مختلفة، وكثيراً ما وقع الاختلاف بينهم في بعض الحروف أو بعض الكلمات، حتى وصل الخلاف لإثبات بعض السور في بعض الأحيان وحذف البعض في أحيان أخرى.

من أهم الصحابة الذين اشتهروا بمصاحفهم الخاصة في تلك الفترة، كان كل من علي بن أبي طالب، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء، فضلاً عن مصاحف أمهات المؤمنين، عائشة وحفصة وأم سلمة.

اهتم ابن أبي داود في كتابه "المصاحف" بوضع باب كامل لذكر أهم وأشهر الاختلافات بين مصاحف الصحابة، ومن ذلك ما ذكره عن قراءة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، لآخر سورة الفاتحة "صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين"، وهي القراءة المخالفة للقراءة الأشهر "...غير المغضوب عليهم ولا الضالين".

في السياق ذاته، ذكر مسلم بن الحجاج في صحيحه عن أبي يونس أنه قال: "أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فَآذِنِّي: {حَافِظُوا علَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى} [البقرة:238] فلما بلغتها آذنتها فأملَتْ عَلَيَّ: {حَافِظُوا علَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى}، وَصَلَاةِ العَصْرِ، {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. وقالت عائشة: سمعتها من رسول الله".

في كتابه "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، تحدث جلال الدين السيوطي، تحت عنوان "ذكر ما ورد في سورة الخلع وسورة الحفد"، أن مصحف أُبي بن كعب احتوى على السورتين، عكس بقية المصاحف التي لم تعترف بهما.

وذكر السيوطي نص السورتين، فقال إن نص سورة الخلع "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك"، أما نص سورة الحفد "اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق".

من جهة أخرى، رفض عبد الله بن مسعود أن يضم سورة الفاتحة والمعوذتين في مصحفه، واشتهر ذلك عنه، حتى ذكر شمس الدين القرطبي في كتابه "الجامع لأحكام القرآن": "زعم ابن مسعود أنهما تعوّذ به وليستا من القرآن وخالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت".

الملاحظة المهمة هنا أن الاختلاف بين مصاحف الصحابة لم يقتصر على إضافة بعض الكلمات أو السور، لكنه تعدى ذلك ليصل إلى ترتيب السور بشكل مختلف تماماً في كل مصحف، إذ اعتمدت أغلبية المصاحف على ترتيب السور حسب أسبقية النزول فيما اعتمدت أخرى على ضم السور الطويلة مع بعضها من جهة والقصيرة من جهة أخرى. 

مصحف عثمان... مركزية الدولة تنتصر

ظلت مصاحف الصحابة منتشرة في شتى أنحاء العالم الإسلامي، في الفترة الممتدة ما بين اعتلاء أبي بكر الصديق لكرسي الخلافة في 11 هجري، وحتى انقضاء السنين الأولى من خلافة عثمان بن عفان.

في 23 أو 24 هجري تقريباً، وقعت حادثتان مهمتان، كان لهما دور كبير في توحيد المصاحف في ما بعد، وقد ذكرهما ابن أبي داود السجستاني في كتابه سابق الذكر.

صار مصحف عثمان هو المصحف الوحيد المُعتمد عند المسلمين منذ لحظة ظهوره، فتناقلته أيدي الكتبة والنسّاخ جيلاً بعد آخر، حتى نُقل إلينا اليوم بتمامه، بينما ضاعت المصاحف التي كانت منتشرة في الأمصار الإسلامية، ما يعني أن مركزية الدولة قد تبدّت في هذا المصحف

الحادثة الأولى كانت على أطراف الدولة الإسلامية، في مناطق أرمينية وأذربيجان، إذ ورد أن الصحابي حذيفة بن اليمان الذي كان مشاركاً في الحروب الدائرة في تلك المناطق لمس اختلاف الجند المسلمين العراقيين والشاميين في قراءتهم للقرآن، وشاهدهم وهم يخطئون بعضهم البعض وكيف أن كلاً من الفريقين كان يتعصب لقراءته ويعتبرها هي القراءة الصحيحة الوحيدة للقرآن، وينتقد قراءة الطرف الآخر.

أدى ذلك لحدوث حالة من التوتر والغضب في المعسكر الإسلامي، ولذلك فإن حذيفة بعدما رجع إلى المدينة، سارع بالتوجه للخليفة وأبلغه بما لمسه من اختلاف بين جند الأمصار، محذراً إياه من مغبة تفاقم الأوضاع هناك. وكان مما قاله له وقتها: "يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى".

أما الحادثة الثانية، فحصلت في المدينة المنورة -عاصمة الدولة الإسلامية- نفسها، عندما وقع الاختلاف في قراءة القرآن بين الغلمان والمتعلمين، حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فلما عرف عثمان بذلك، قام خطيباً فقال: "أنتم عندي تختلفون وتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافاً وأشد لحناً، اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إماماً".

في سبيل إتمام تلك المهمة، شكّل عثمان لجنةً من الصحابة، وكلفها جمع القرآن وكتابته في مصحف واحد مُرتب، في حين تختلف المصادر في تحديد عدد أعضاء تلك اللجنة، فإن أغلبية الروايات تتفق على أن تلك اللجنة تشكلت من أربعة رجال، وهم زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

أحضر عثمان الصحف القرآنية الموجودة في بيت أم المؤمنين، حفصة بنت عمر، وطلب من اللجنة الرباعية أن تُعيد نسخ هذه الصحف، بحيث تتم كتابتها بلسان قريش في مصحف واحد مرتب السور، وأمر زيد بن ثابت الأنصاري بمتابعة القرشيين الثلاثة في ما يتفقون عليه، بحسب ما ذكر ابن كثير في كتابه "فضائل القرآن".

على الأرجح، استمرّت عملية نسخ صحف القرآن مدة خمسة أعوام كاملة، في الفترة الممتدة من 25 هجري إلى 30 هجري، حتى ظهر إلى الوجود المصحف الجديد، والذي عُرف بالمصحف الإمام أو مصحف عثمان، وبعدها قام الخليفة الثالث بردّ الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل مصر من أمصار الدولة الإسلامية بنسخةٍ من المصحف الجديد، كما أمر "بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق"، حسب ما ذكر ابن كثير.

هكذا، صار مصحف عثمان هو المصحف الوحيد المُعتمد عند المسلمين منذ لحظة ظهوره، فتناقلته أيدي الكتبة والنسّاخ جيلاً بعد آخر، حتى نُقل إلينا اليوم بتمامه، بينما ضاعت المصاحف التي كانت منتشرة في الأمصار الإسلامية، بما يعني أن مركزية الدولة قد تبدّت في هذا المصحف وتمكنت من تقويض النزعة المحلية المرتبطة بباقي المصاحف.

الكوفة مركزاً للمعارضة

كان أمر عثمان بغسل وإحراق مصاحف الصحابة حدثاً مهماً وفارقاً في التاريخ المبكر للدولة الإسلامية، إذ يمكن اعتباره مقدمة لأحداث الثورة على الخليفة الثالث في ما بعد.

بحسب ما ذكر الفقيه أبو بكر بن عربي المالكي المتوفى في كتابه "العواصم من القواصم"، والذي تناول فيه أسباب الفتنة الكبرى، كانت مسألة حرق المصاحف إحدى النقاط الرئيسة التي أخذها الثوار على الخليفة الثالث، إذ عدّوه مبتدعاً في الدين، لكونه قد أتى بما لم يأت به كل من الرسول، وخليفتيه الأولين، أبي بكر وعمر.

الملاحظة المهمة هنا، أن أهل الكوفة تحديداً هم الذين تصدروا حركة المعارضة الرافضة لتوحيد المصاحف، وذلك بسبب ارتباطهم الوثيق بمصحف الصحابي عبد الله بن مسعود.

صار مصحف عبد الله بن مسعود تحديداً، إحدى المفردات المهمة التي شكلت الهوية المائزة للكوفة وأهلها، في تلك المرحلة المبكرة من تأسيسها. عنى ذلك أن رفض الكوفة لمشروع عثمان بتوحيد المصحف، كان في حقيقته محاولة لإثبات هويتها الخاصة الرافضة لمركزية الدولة

بدأت علاقة ابن مسعود بالكوفيين في أواخر فترة خلافة عمر بن الخطاب، عندما بعث الخليفة الثاني بعمار بن ياسر ليتولى إمارة الكوفة، كما بعث بعبد الله بن مسعود ليتولى مسؤولية بيت المال فيها، ووجّه للكوفيين رسالة مهمة، جاء فيها: "بعثت إليكم عماراً أميراً، وابن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب محمد، من أهل بدر، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي"، وذلك حسب ما ذكر شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء".

بحسب ما تتفق عليه المصادر التاريخية، فإن ابن مسعود أسّس مدرسة لتعليم الدين في الكوفة، وتحلّق حوله العشرات من أهلها، وكان من الطبيعي أن يأخذ هؤلاء بمصحفه، وأن يستنسخوه في ما بينهم، حتى صار مصحف عبد الله بن مسعود تحديداً، إحدى المفردات المهمة التي شكلت الهوية المائزة للكوفة وأهلها، في تلك المرحلة المبكرة من تأسيسها. عنى ذلك أن رفض الكوفة لمشروع عثمان بتوحيد المصحف، كان في حقيقته محاولة لإثبات هويتها الخاصة الرافضة لمركزية الدولة.

على العكس من ردود الأفعال الهادئة في بلاد الشام ومصر، رفض الكوفيون الاستجابة لطلب الخليفة الداعي لحرق مصاحفهم، واستجابوا لدعوة ابن مسعود بالحفاظ على مصاحفهم وعدم استبدالها.

وبحسب ما ورد في كتاب المصاحف لابن أبي داود السجستاني، فإن ابن مسعود ارتقى المنبر في الكوفة بعد أن جاءت أوامر الخليفة الثالث بغسل المصاحف وحرقها، وقال: "من يغلل يأت بما غل يوم القيامة، غلوا مصاحفكم، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله بضعاً وسبعين سورة، وأن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما نزل من القرآن إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكاناً تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته".

ظهرت أهمية كلام ابن مسعود وتأثيره في الكوفيين في ما ذكره راوي تلك الحادثة، فـ"لما نزل -أي ابن مسعود- عن المنبر جلست في الخلق فما أحد ينكر ما قال"، وهو القول الذي يعبر بوضوح عن التضامن الكوفي الجمعي مع ابن مسعود.

من المُرجح أن مسألة رفض الكوفيين لمصحف عثمان بقيت قائمة حتى مقتل الخليفة الثالث، ومبايعة علي بن أبي طالب في بداية العام السادس والثلاثين من الهجرة.

سرعان ما اتضح البعد السياسي لموقف ابن مسعود بعدما أرسل له عثمان آمراً إياه بالقدوم إلى المدينة المنورة، فعرض حينها الكوفيون عليه النصرة والحماية، وأظهروا رفضهم لأمر الخليفة، حتى لو تطلب ذلك الدخول في صدام صريح مع قرار المدينة المنورة، لكن هذا الصدام تأجل بعدما انصاع ابن مسعود لأمر خليفته، وتوجه للمدينة حيث جرت بينه وبين عثمان مجموعة من المناقشات والمجادلات المحتدمة، وقد قيل إن عثمان أمر بضرب ابن مسعود حتى كسر ضلعه، وبحبسه في المدينة حتى توفي، وذلك حسب كتاب "جمل من أنساب الأشراف" للبلاذري.

تجلى الجانب السياسي للمسألة كذلك في أقوال عدد من الصحابة المعاصرين لتوحيد المصحف. فعلى سبيل المثال، ورد في تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر عن الصحابي أبي الدرداء: "كنا نعد عبد الله - ابن مسعود- حناناً فما باله يواثب الأمراء".

ومن المُرجح أن مسألة رفض الكوفيين لمصحف عثمان بقيت قائمة حتى مقتل الخليفة الثالث، ومبايعة علي بن أبي طالب في بداية العام السادس والثلاثين من الهجرة، إذ روى ابن أبي داود في كتاب المصاحف عن علي أنه لما سمع الكوفيين يذمون عثمان لما فعله في شأن المصاحف، نهاهم عن ذلك وقال لهم: "لا تقولوا في عثمان إلا خيراً، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا"، وهو القول الذي وافق عليه الكوفيون أخيراً بعدما توحد مشروع الدولة الإسلامية مع مشروع أهل العراق، وصارت الكوفة عاصمة الدولة الإسلامية في عهد كل من علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، قبل أن تنتقل بعدها إلى دمشق في ظل خلافة الأمويين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard