شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الحياة مع الكمامة في دمشق...

الحياة مع الكمامة في دمشق... "افعل ما يحلو لك، المهم ألا يراك أحد"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 27 أغسطس 202001:41 م

لا أدري متى استُحدث إيموجي الكمامة، فلم يسبق لي استخدامه قبل كورونا. يبدو هذا الرمز التعبيري وجهاً يبعث على عدم الارتياح لسبب ما، ربما لأنه لا يوصل مشاعر محددة. هناك شيء محجوب، مموه وغير واضح، فالفم المحتجب خلف الكمامة قد يكون مبتسماً، عابساً أو حزيناً، أو ثمة من أغلق فمه ليمنعه من الكلام أو التعبير. لا تقنّن الكمامة ابتساماتنا فقط، بل تضيّق على عباراتنا وكلماتنا لتقتصر على الضروري، بسبب الشعور بصعوبة التنفس والانزعاج منها بعد فترة من وضعها.

من ناحية أخرى، تريح الكمامة البعض من الابتسام بالإجبار لشخص لا يحبونه أو لنكتة سخيفة مثلاً، كذلك تخفي تعبيرات، كالسخرية، الازدراء والقرف، والتي يعبر عنها باستخدام الجزء السفلي من الوجه والذي يخفيه القناع.

يبدو تبادل الحديث اليوم مع كمامات أشبه بصفحة تشات طويلة خالية من الإيموجيز. ليس بإمكاننا التعبير عن انزعاجنا وإرسال وجه ضاحك بعدها للتخفيف من وطأة ما قلناه، أو ادعاء عدم جديته، فنحن نكتشف أن هذه الابتسامات التي كنا نظنها للمجاملة فقط ضرورية، وقد تعطي لغيرنا إحساساً بالأمان، تخفف من جو ثقيل محيط، تسعد جيراننا العابرين صباحاً مع كلمة صباح الخير، أو تكسر حواجز كثيرة مع غرباء يحتاجون الشعور بأنهم ليسوا وحدهم، فالكمامة تخفي ما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه.

إن فقدان التواصل الناتج عن إخفاء معظم الوجه يخلق روابط من نوع آخر، كالشعور برابط أقوى مع من يشاركوننا ارتداء الكمامات عن أولئك الذين لا يرتدونها، ولكن هناك مشكلة تواصل حقيقية مع من نتعرف عليهم حديثاً: في ورشة عمل حضرتها مؤخراً، لم ألتق بالمشاركين مسبقاً، ظللت أتأمل وجوههم، أحاول تخيل ملامحهم المتبقية، لم أستطع تكوين انطباع واضح عنهم، حتى أصواتهم كانت تبدو مشوشة.

الكمامة في الشارع السوري حالها حال أي شيء تعوّد السوريون التعامل معه وفق منطق الإجبار، وفق القانون الذي يسيّر كل شيء في المدينة: "افعل ما يحلو لك، المهم ألا يراك أحد"، يتعامل الناس مع الفيروس بنفس الطريقة وكأنهم يحتالون عليه، ربما لم يُشعر أحد الفيروس ببشريته كما فعلنا

رغم تنميط دلالات لغة الجسد، واستهلاك الأبحاث التي تدرسها، إلا أنها تبدو مهمة الآن للمساعدة في إكمال النقص الذي يفرضه غياب جزء من الوجه، وبينما تبدو دلالات الإيماءات أكثر عمقاً في الأدب، يحيط بنا المحتوى الاستهلاكي المكرر في تحليل لغة الجسد على الإنترنت، هذا النمط من المحتوى يعاود الظهور دائماً منذ أن كان ورقياً على هيئة كتاب: كيف تتعلم الإنجليزية في خمسة أيام؟ أو كيف تصبح مثقفاً في أسبوع؟ إلى أن أصبح اليوم على هيئة فيديوهات مكررة يقترحها يوتيوب، على نمط كيف تحرك حاجبيك ليظهر انفعالك تحت الكمامة، أو كيف تظهر ابتسامتك تحت الكمامة في ثلاث خطوات؟

كمامات دمشق

مع الإحساس المتأخر بأبعاد الكارثة المحيطة، والضرورة الملحّة لارتداء الكمامة، يبدو الناس في الطرقات كشخصيات كرتونية في فيلم خيال علمي ركيك، وجوه تختفي ملامحها وراء كمامات زرقاء، سوداء وبنفسجية.

لم يعد ارتداؤها يثير الاستغراب كالسابق، ورغم الالتزام بها من قبل فئة لا بأس بها، ما زال الكثيرون يضعونها كواجب، فالبعض قد يكون ملزماً بها في العمل أو لدخول مؤسسة حكومية، شركة أو بنك يشترط ارتداءها، هؤلاء غالباً يخلعونها عند باب الخروج لتأخذ مكانها على ذقونهم، حالهم حال سائقي الباصات والسرافيس الملزمين بوضعها دون الاكتراث بمكانها تحديداً، فنراها تتنقّل من الوجه إلى الذقن والرقبة، وقد يعلقها أحدهم بطرف الأذن وكأنها قطعة إكسسوار لا أكثر.

ربما هناك ازدياد في أعداد العشاق المتعانقين في الطرقات، أو ربما بدأت ألحظهم أكثر، لأن فعل العناق والتلامس بحد ذاته أصبح فعلاً غريباً. يمشي العشاق متلاصقين، متشبثين بالحب أو باقتناص لحظة سعادة نادرة، غير آبهين بكورونا أو غيرها، ربما تخشى المراهقة العاشقة أباها أو أخاها أكثر من كورونا كلها.

بينما يسخر مني صبيان وأنا أرتدي النظارة الشمسية مع الكمامة: "ليك طالعة متل النمر المقنع "، لا أريد أن أشبه النمر المقنع، لست بحاجة لعضلاته، أريد جناحين فقط كي أهرب بعيداً عن هنا

الكمامة في الشارع السوري حالها حال أي شيء تعوّد السوريون التعامل معه وفق منطق الإجبار، حالها حال القفازات التي يخلعها موظفو الأفران عند غياب الرقابة، أو القمامة المرمية في الشارع لعدم وجود غرامة، وفق القانون الذي يسيّر كل شيء في المدينة: "افعل ما يحلو لك، المهم ألا يراك أحد"، يتعامل الناس مع الفيروس بنفس الطريقة وكأنهم يحتالون عليه، ربما لم يُشعر أحد الفيروس ببشريته كما فعلنا.

تتواجد الكمامة في أغلب الأماكن كديكور لا أكثر، تتجمع كل يوم أمام المخابز الحكومية عند توزيع الخبز أعداد هائلة كفيلة بإغلاق شارع، يضع المتجمهرون الكمامات، ولكن عملية توزيع الخبز منفصلة زمنياً عن الوباء كله، فالخبز يفترش السيارات وحواف الدكاكين، وأحياناً الأرصفة المجاورة، المهم تنظيم عدد الأرغفة، فالكمامة تبدو كرفاهية أمام الرغيف. تبدو الكمامة أيضاً عنصراً غريباً وسط تجمعات كهذه، أو عندما تباع على البسطات بلا تغليف، كمنتج ورد حديثاً إلى الأسواق، يأخذ مكانه بجوار الملابس الداخلية وأدوات المطبخ، تتداولها عشرات الأيادي، لا أدري من يشتريها أيضاً، ولكن لكل شيء زبائنه في هذه المدينة القدرية جداً.

وبينما يقول بائع الفطائر لزميله: "خلص خفّت الكورونا، الأسبوع الجاي بتكون خالصة"، ويلم المشرد الصغير الكمامات المرمية على الأرض، وتبتعد عني إحداهن في الزحام وهي تسكب نصف علبة الكحول على نفسها. أسمع شجار المرأة مع الصيدلانية بعد أن وجدت بين الكمامات "الفرط" التي اشترتها كمامة عليها آثار أحمر شفاه، بينما يسخر مني صبيان وأنا أرتدي النظارة الشمسية مع الكمامة: "ليك طالعة متل النمر المقنع "، لا أريد أن أشبه النمر المقنع، لست بحاجة لعضلاته، أريد جناحين فقط كي أهرب بعيداً عن هنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard