شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"البنت زي الفستان في الفاترينة"... عرض فتيات في جلسات تعارف من أجل الزواج

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 6 سبتمبر 202011:12 ص

"البنت زي الفستان في الفاترينة". سئمَت بثينة من سماع هذه الكلمات من والدتها ونساء قريتها اللواتي لا يترددن في جعل بناتهن أشبه بسلعة، تحتاج إلى تسويق، وتُطبّق عليهن نظرية "العرض والطلب"، بدعوى "اخطب لبنتك ولا تخطبش لابنك"، و"محدش لاقي عرسان"، "والبنت لها سوق"، و"البنت لها زهوة وبالعمر بتنطفي".

تبدي بثينة (29 عاماً) اعتراضاً على هذا الأسلوب الخادش لكبريائها، لكن والدتها لا تجد غضاضة في التبرير لها بأن الفتاة مثل الفستان، الكل يتفرج عليها إلى أن تجد نصيبها، وأن هذا لا يحدث معها فقط، بل مع كل البنات في عمرها ومَن سبقنها ومَن سيأتين بعدها.

تتذكر الشابة الحاصلة على ليسانس في اللغة العربية، والتي تعمل في حضانة وتعطي دروساً خصوصية للطلاب، بمرارة كيف وقعت ضحية لمنطق أمّها التي لا همّ لها سوى "طلب الستر" لها، عندما جاءت جارة مقربة من والدتها و"أنيستها في جلسات النميمة"، لتزف للوالدة رغبة أحد أطباء الوحدة الصحية التابعة لقريتهم بالزواج، وتخبرها أنه طلب منها أن ترشّح له أكثر من عروس يختار منهن، إلا أن الجارة زكّت بثينة لديه، وقالت له إنها من أسرة جيّدة وخلوقة و"ليس لها في جلسات النساء ولا أحوال فتيات اليومين دول"، فطلب منها رؤيتها في الوحدة.

رفضت بثينة، ابنة إحدى قرى محافظة الدقهلية الأمر تماماً. "لست بضاعة ولست للفرجة ومَن يريد طلب يدي ليأتي ويطرق باب بيتي"، صرخت، إلا أن خوف والدتها من أن يطير العريس "اللقطة"، جعلها تمارس نوعاً من الضغط على الشابة، فأخذت تردد على مسامعها عبارات جارحة مثل "مين مالي دماغك؟"، "حد ضاحك عليكي؟"، فذهبت رغماً عنها.

تحكي الشابة أن الجارة "أرادت أن تقنعني بأنها خططت لحفظ ماء وجهي، وأنها اتفقت مع الطبيب على أن تذهب إليه ليفحصها بعد أن تدّعي بعض الآلام، ليظهر وجودي معها كصدفة، على اعتبار أنني ابنة صديقتها".

تضيف: "استقبلنا بشيء من البرود والثقة، إلا أن نظراته كانت تخترقني، وتتفحص أجزائي ومواضع أنوثتي. شعرت بأن الزمن عاد بي إلى زمن الجواري مرة أخرى، وأن لا حق لي أن أبدي اعتراضاً على تصرفاته أو نظراته مهما بلغت، فصوتي الداخلي يقمعني. كيف أعترض وأنا مَن سقت نفسي إليه؟!".

تروي أنها امتنعت عن مجاراة الطبيب والجارة في كلامهما أو تبادل الضحكات معهما، وأن الجارة أخذت تتحدث عنها وتعدد مناقبها ومحاسن صفاتها التي كانت من محض خيالها أحياناً، كنوع من التسويق للبضاعة.

وتتابع: "شعرت ببالغ المهانة عندما أتت الجارة وهي تطأطئ رأسها على صدرها وتنظر بعيون آسفه، وتقول ‘كل شيء نصيب’، وعندما سألَتها والدتي ‘ما الذي لم يعجبه في بثينة؟’، قالت إنه يريد طبيبة مثله تعينه في مهنته، وكأنه لم يعلم من البداية حالتي".

لم تقف القصة هنا. راح الطبيب يتحدث أمام أبناء القرية عن ذهاب بثينة إليه في الوحدة، وسبب رفضه لها "بأنني سمراء ولديّ فم واسع وفكّ بارز".

تقول بثينة: "لوني لم يكن يوماً من اختياري وقسمات وجهي لم تكن بمحض إرادتي أو صنعي. ولا أعرف ما السوء الذي صنعته لهذا الطبيب حتى يصيب قلبي بكل هذا الوجع، ويجعلني علكة في فم الناس".

تسببت الحادثة للفتاة بتعب نفسي. "أصابتني حالة من البكاء الهستيري، وضعف في الثقة بالنفس، وامتنعت عن النزول إلى الشارع فترة لا بأس بها، حتى لا أتعرض للغمزات والهمسات، وضعفت علاقتي تماماً بأمي، لأني كنت أراها السبب، وكرهت نفسي، إلى درجة التفكير في الانتحار".

"حالة طوارئ"

تتشابه قصة بثينة كثيراً مع ما حدث لرقية التي تعمل مدرّسة. تروي: "عندما اقترب قطار عمري من سن الثلاثين، أُعلن ما يشبه حالة الطوارئ في المنزل، فلم يعد من حديث لأهلي سوى عن العمر الذي يفوت، وكنت دائماً أسمع أمي وهي تتحسر وتلعن الحظ والعمر الذي قد يودي بي في النهاية إلى لقب ‘عانس’، لأن الفتاة في نظرها ‘مثل القنديل بيجيلها وقت وتنطفي’".

تضيف الشابة البالغة من العمر 30 عاماً: "خوف أمي من أن ينطفئ قنديلي جعلها تقبل بأي رجل لي، حتى ولو لم يكن يناسبني، فرغم أنني حاصلة على شهادة عالية وأعمل مدرسة ثانوي، قبلت أمي عريساً تقدم لي، بأسوأ ظروف يمكن أن تقبلها فتاة، فهو سبق له الزواج ولديه طفل، كما أنه حاصل على شهادة تعليم متوسطة، وليس وسيماً على الإطلاق".

"استقبلنا بشيء من البرود والثقة، إلا أن نظراته كانت تخترقني، وتتفحص أجزائي ومواضع أنوثتي. شعرت بأن الزمن عاد بي إلى زمن الجواري مرة أخرى، وأن لا حق لي أن أبدي اعتراضاً على تصرفاته أو نظراته مهما بلغت، فصوتي الداخلي يقمعني"

"وافقت أمي على الزيارة الأولى، وعندما جاء هو ووالدته، كانوا في وادٍ وأنا في وادٍ. معظم الجلسة كانت نظرات إلى مختلف جوانب جسدي، وهمهمات وهمسات، لم أستطع أن أفسرها حينها".

وعندما ذهبوا، جاءنا الرد فوراً بأنني لا أناسبهم. "هاتفتهم أمي أكثر من مرة لتعرف السبب وتبدي اعتذارات كثيرة عن شيء قد يكون بدر منا عن سوء قصد، فلم تتحرج والدته من إجابتها بأنني لا أناسبهم لأنهم فلاحون، وأنا أرتدي البنطلون والبادي وبأنني سمراء وحاولنا خداعهم بالمكياج الموضوع على وجهي، وعرفوا الأمر من قدميّ اللتين اختلف لونهما عن لون وجهي".

تقول رقية: "أصبت بحالة حزن شديدة واكتئاب. كنت أرى أن إلحاح أمي مهين، والطريقة التي برروا فيها رفضي أشد إهانة. ما حدث كان صعباً للغاية ولن يشعر به إلا من وُضع في نفس موقفي. الموقف مر، وآثاره لا زالت مستمرة معي، تغيرت تعاملاتي، أصبحت عصبية لأتفه الأسباب، وفقدت التركيز بشكل ملحوظ، فقررت أن أزور الطبيب، وكتب لي أدوية للاكتئاب بعدما شخص حالتي بأنها اضطراب ما بعد أزمة".

"ضغط نفسي رهيب"

يتحدث أستاذ علم الاجتماع في جامعة الفيوم صلاح هاشم عن الأثر النفسي السلبي العميق على الفتاة التي تُعرَض للزواج وتُرفَض، سواء أكانت أسباب الرفض معلنة أو غير معلنة، ويقول: "عندما تكون لدى الفتاة خبرات سلبية عن نفسها أو تقدير سلبي للذات أو فقدان ثقة بالنفس ويحدث توافق بين ذلك وبين الواقع الفعلي، عبر رفض الطرف الآخر لها، ستصير ثقتها بنفسها أكثر اهتزازاً".

ويوضح هاشم أن مسألة الثقة في لون البشرة أو الملامح مسألة متعلقة بمرحلة الطفولة وتقدير الفتاة لذاتها وثقتها بنفسها ترتبط بطبيعة التنشئة الاجتماعية التي تلقتها داخل بيئتها.

تسلط الناشطة النسوية ندى عبد الله الضوء على الثقافة الشعبية التي ترسخ في عقول البنات أن الزواج هو الإنجاز الأهم في حياة كل فتاة، وتنتقد تغذية الثقافة الشعبية لذلك بعبارات مثل "عقبال ما نفرح بيكي"، "عقبال ما نشيل عيالك"، "يلا يا حبيبتي عشان تلحقي تجيبي لك عيلين"، "الناس هتاكل وشنا"، إلخ.

"لقب عانس لقب ذكوري أطلقه الذين يرسّخون للعنف ضد المرأة. لو هنطلق لقب لازم نطلقه على الرجال والنساء على السواء. لماذا المجتمع يطلق لقب العازب على الرجل والعانس على المرأة؟ هذا يوضع تحت بند العنف"

وتلفت إلى أن تعرّض الفتاة لهذا الضغط النفسي الرهيب يرسخ في عقلها الباطني فكرة أن استمرارها بدون زواج وتقدّمها في العمر نوع من العار الذي يجب الخجل منه، فتأخذ بالنظر إلى وجودها في الحياة كعقاب، وتوافق على أشخاص غير مناسبين لها، حتى تتخلص من الشعور بأنها منبوذة، على عكس الشاب الذي لا يمارس المجتمع عليه هذه الضغوط، و"هذا نوع من التمييز الجندري".

وأشارت إلى أن زيجات كثيرة تتم عن طريق الضغط الأسري والمجتمعي تأخذ وضع "الصفقة"، "والبيعة والشروة"، وإلى أن استمرار ممارسة هذا الضغط يوقع الفتاة في مشاكل نفسية مع شباب يستغلون وضعها ويعدونها بالزواج ثم ينفصلون عنها و"البنت في النهاية هي اللي تشيل النبذ المجتمعي".

ونوهت إلى أن الأهالي لا يدركون أنهم يضعون بناتهم تحت ضغط نفسي، وينظرون إلى إلحاحهم على البنت للزواج على أنه لمصلحتها وأنه نوع من الحماية لها ويرددون كلمات مثل "مش هنعيش لك"، "محدش بينفع حد"، "ظل راجل ولا ظل حيطة"، "عشان نفرح بيكي قبل ما نموت"، " عشان نشيل حملك من على رقبتنا"، وكل هذا نوع من الابتزاز العاطفي.

وأضافت: "زمان، كان يقال عن البنت عندما تبلغ من العمر 18 سنة بدون أن تتزوج أنها ‘عنّست’، وتبدأ المساعي للبحث عن عريس لها ويتطوع الأقارب والجيران لتنفيذ هذه المهمة، كنوع من المجاملة".

"لقب عانس لقب ذكوري أطلقه الذين يرسّخون للعنف ضد المرأة"، تقول، "فلو هنطلق لقب لازم نطلقه على الرجال والنساء على السواء، لماذا المجتمع يطلق لقب العازب على الرجل والعانس على المرأة؟ هذا يوضع تحت بند العنف".

وتلفت إلى "أننا بدأنا نخرج من هذا القالب، وهناك فتيات نجحن في الاستقلال بحيواتهن، وهناك أسر مصرية بدأت تتفهم أن الزواج ليس مقياساً لإنسانية البنت، وأن قيمتها في الحياة لا تتحدد بكونها متزوجة أو غير متزوجة".

وتنصح عبد الله الأسر المصرية بضرورة رفع الوصاية المجتمعية والأبوية عن البنات، خاصة في ما يخص مواضيع الزواج، وتقول: " الأهالي عليهم أن يربّوا ابنتهم تربية نفسية صحية بشكل فيه مساواة وقوة دفع لها، لا أن يربّوها على أنها مكسورة الجناح أو محتاجة إلى ظل رجل، وعليهم التفكير بأن الزواج قرارها وحدها عندما تجد الشخص المناسب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard