شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"هاي تنحط داير مَيدور الكيكة"... أنا واللهجة العراقية وحسن بلاسم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 10 أغسطس 202003:51 م

تحذير: هذا ليس مقالاً نقدياً.

انتهيت للتو من قراءة رواية "بلبل السيد"، للكاتب حسن بلاسم، المكتوبة بالعاميّة العراقية بالكامل، وكان عليّ أن أكتب هذا بعد التجربة القصيرة اللطيفة.

في البداية، أعترف إنني قرأت الرواية لأن حسن بلاسم هو كاتبها، وحسن الذي لا يهتم بكليشيهات الثقافة والاستعراضات، قرر نشر روايته على موقع على الإنترنت لاستحالة نشرها في دول عربية خوفاً من الرقابة. حسن يهتم بأن تُقرأ كتاباته أكثر من أغلفة الورق. قال لي مرة كإجابة على سؤال عن رأيه بقرصنة الكتب، إنه بالطبع يرى أن من حق الكاتب العربي أن يعتاش من كتابه مثل غيره، في الوقت نفسه كان سعيداً لأن القرّاء استطاعوا قراءة أعماله من داخل الموصل أثناء الحصار، وذلك حصل بسبب توفر نسخ مقرصنة على الإنترنت.

يتخيلون مظفر النواب على لساني، وهنا عليّ أن أشرح لهم بأن اللهجة التي يرغبون في سماعها ليست لهجتي.

في الحقيقة كتبت هذه المعلومة لأخبركم إنني أحب حسن بلاسم، لأنه أجابني عندما احتجته في تقريري الأول، أجابني بسرعة ودون أن يستنكر كوني مبتدئة كما فعل غيره، كان هذا ومع حبي لكتاباته ما دفعني لقراءة رواية مكتوبة بالعامية، أعترف إني لم أكن لأقرأها لو كانت لكاتب آخر. والآن بعد أن اعترفت بأن الأمر شخصي قليلاً، يمكنني ترك هذه الفقرة والانتقال للموضوع.

بطل حسن بلاسم كان يستنكر عدم الكتابة بالعامية، والإصرار على الكتابة بالفصحى، ومعه صرت أراجع كل علاقتي مع اللهجة العراقية التي أتكلمها مع عائلتي في البيت، وبمجرد أن أخرج أتكلم باللهجة السوريّة التي اعتدت عليها بسبب إقامتي في سوريا.

كانت بداية ازدواج اللهجة عندي مرتبطة بصعوبة فهم بعض الكلمات العراقية، لكنّ هذا لم يكن السبب الوحيد، كنت أشعر بأن الآخر الذي أحدّثه يتفاعل مع لهجتي لا مع كلامي. مهما يكون الموضوع الذي أتكلم فيه، سيتفاعل الشخص مع اللهجة، مع حبه لها أو كرهه لها، أو مع مرجعيات معينة، مثل مظفر النواب أو الأغاني العراقية، ثم يعود هذا الشخص طالباً مني ترجمة هذه الأغاني أو القصائد في أفضل الأحوال، وأسوأ الأحوال هي عندما يتم تجاهل حديثي، ثم سؤالي عن صدام حسين ومقتدى الصدر. شيئاً فشيئاً كنت أفقد اللهجة، أولاً لأستطيع الحصول على محادثة طبيعية، وثانياً لأن للزمن في مكانٍ ما عامله، فلم أكن أسمع اللهجة العراقية أو أتحدثها سوى في البيت مع عائلتي، أما أصدقاء الإنترنت فعلاقتي مع لهجاتهم هي علاقة قراءة وكتابة على التشات فقط.

مهما يكون الموضوع الذي أتكلم فيه، سيتفاعل الشخص مع اللهجة العراقية، مع حبه لها أو كرهه لها، أو مع مرجعيات معينة، مثل مظفر النواب أو الأغاني العراقية، ثم يعود هذا الشخص طالباً مني ترجمة هذه الأغاني، وأسوأ الأحوال هي عندما يتم تجاهل حديثي، ثم سؤالي عن صدام حسين ومقتدى الصدر

اللهجة داخل العائلة تتأثر أيضاً، وللعائلة مصطلحاتها الخاصة، وهناك بعض الكلمات التي تندثر عاماً بعد آخر. يوم أمس قلت لأختي "هاي تنحط داير مَيدور الكيكة"، فاستغربت هي كلمة "داير مَيدور" التي لم تسمعها في حياتها، فاضطررت لترجمتها "حولها". لهجة أختي العراقية هي لهجة عائلتنا فقط، وهذا ما يصعب شرحه للأصدقاء الذين يحبون الشعر العراقي والأغاني العراقية والذين يطالبونني بالتكلم معهم بالعراقي.

يتخيلون مظفر النواب على لساني، وهنا عليّ أن أشرح لهم بأن اللهجة التي يرغبون في سماعها ليست لهجتي، والكثير من كلماتها من محافظات مختلفة عن مكان نشأتي، حتى طريقة اللفظ والشعور. اللهجات داخل اللهجة متعددة، وهناك أيضاً لهجة الشوارع ولهجة البيوت ولهجة الفقراء ولهجة البرجوازيين، لذا فإنني لا أستطيع أن أفتح فمي وأقول كلاماً غنائياً ما. ومجدداً يعيدني هذا للحاجز الذي يقف بيني وبين أي شخص غير عراقي أتكلم معه، هو يسمع ما يعرفه عن العراق وليس أنا، وكلما تحدثت بلهجتي أمامه وجدت نفسي أؤدي عرضاً مسرحياً.

قبل قراءتي للرواية، خفت من أن أكون مثلهم وأن أضع هذه الحواجز أثناء القراءة، وأن أستعد لوضع اقتباسات منها على الفيسبوك لأتغنى باللهجة الجميلة، لكن هذا لم يحدث. استطعت قراءة الرواية دون التعثر بأي شيء من هذا، كنت أقرأ وأستمتع بالقصة فقط.

يقول حسن أن حجة رفض الكتابة باللهجة العامية تأتي من صعوبة تلقيها عند القراء العرب، ومن كونها ثقيلة لا تناسب السرد، وأقصى ما يمكن فعله بها هو كتابة الحوارات بها فقط، كما فعل غائب طعمة فرمان وغيره. أظن أن هذه الصعوبة تأتي أصلاً من عدم ممارسة هذه اللهجة سوى من خلال الشعر والأغاني، وإن كتبت رواية باستخدام أسلوب الشعر والأغاني، ستكون مجرد استعراض لغوي في سوق لمريدي اللهجة والذين يسمعونها كموسيقى، وهذا ما أخشاه عندما أستجيب لطلب أحد وأتكلم بلهجتي، أشعر بأني أؤدي عرضاً ما، خصوصاً مع عدم استماعي لها.

لو أخذنا المسلسلات العراقية كمثال لما يجب أن يكون بالعامية، لأن المسلسلات هي أكثر وسيط ينقل اللهجة الحقيقية اليومية، فإن هذه المسلسلات تفشل أيضاً في حمل اللهجة، ذلك لأن المسلسلات غالباً ما تكون سيئة بتمثيل سيء، ما يربط هذه اللهجة بالابتذال بالنسبة للأشخاص الذين لا يسمعون اللهجة في الحياة اليومية، أو لأن كاتب السيناريو نفسه لا يجيد الكتابة بالعامية، فتراه يستخدم جملة مثل "هذا شخص غريب أطوار"، على لسان امرأة مسنة تسكن في حي شعبي. هذا المثال مخترع من دماغي لكنه يعبر عن حال اللغة في المسلسلات العراقية، والتي لا تشبه الشخصية إلا مع اجتهاد بعض الممثلين في إنقاذ تفاصيل شخصياتهم، أما الوسائط الأخرى، كالشعر والأغاني، فهي ليست لهجة حياة يومية.

كتب حسن بلاسم روايه "بلبل السيد" دون أن يتحول لكاظم الساهر في لقاء تلفزيوني، وهذا التحول يصيب غالبيتنا خارج العراق، لهجة مخففة ليستطيع الجميع فهمها ونبقى عراقيين في الوقت نفسه

رواية "بلبل السيد" كانت مكتوبة كما لو أن عراقياً يتحدث لعراقي آخر داخل العراق، دون السقوط في أي أداء مفتعل. كان بطل الرواية يستطيع أن يقول "جنسية" بدلاً من "مثيرة" وهو تعبير شعبي جداً، لن يستخدمه أحد حتى على وسائل التواصل الاجتماعي في بوست بالعامية. وبالطبع، بالإضافة إلى استخدام العديد من التعبيرات الجنسية دون حرج من أخلاقيات الكتابة، وبدون السقوط في الاستعراض التحرري.

كتب بلاسم الرواية دون أن يتحول لكاظم الساهر في لقاء تلفزيوني، وهذا التحول يصيب غالبيتنا خارج العراق، لهجة مخففة ليستطيع الجميع فهمها ونبقى عراقيين في الوقت نفسه. بطل الرواية كان عراقياً فقط دون أن يكون شاعراً أو مظلوماً حزيناً، بكليشيهات اللهجة الحزينة المعروفة. استطعت للمرة الأولى منذ سنوات أن أقراً شيئاً عراقياً لا يتفاعل مع القوالب التي تأسر اللهجة. إن الكتابة بالعامية ليست مهملة فقط بسبب الفصحى، إنما بسبب كل الكليشيهات والمرجعيات المرتبطة بأي لهجة، والتي يسقط فيها الكاتب نفسه بقصد أو بدون.

في المرة القادمة سأتجرأ على قراءة رواية مكتوبة باللهجة العامية، حتى إن لم يكن حسن بلاسم كاتبها!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard