شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"موت إنسان واحد هو مأساة كبرى وموت الملايين مجرد إحصائيات"... عن اللامبالاة عند المصائب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 28 يوليو 202006:28 م

يمكن أن يكون لموت فرد واحد، حتى وإن كان شخصاً غريباً، تأثير قوي على عواطفنا ومشاعرنا، ولكن في المقابل، عند ارتفاع أرقام القتلى وتفاقم المصائب، يمكن أن يزداد لدينا مستوى اللامبالاة بشكل مفاجىء.

من ملايين الأشخاص الذين فقدوا حياتهم في الكوارث الطبيعية، الحروب أو المجاعات، وصولاً إلى تفشي الأمراض والأوبئة، مثل فيروس كورونا الذي لا يزال يحصد آلاف الأرواح يومياً، كل حالة وفاة هي عبارة عن مأساة فردية تترك وراءها عائلة مفجوعة، ولكن عندما ننظر إلى المشهد من زاوية أكبر، نلاحظ أن أعين الكثيرين لا ترفّ عند اشتداد المصائب، رغم الأرقام المخيفة في أعداد الوفيات التي يشهدها العالم كله.

فلماذا تزداد مشاعر اللامبالاة عندما تكبر المصائب؟

التخدير النفسي

في حين أن معظمنا ينظر إلى حادثة وفاة واحدة كمأساة حقيقية تدمى قلوبنا حزناً وأسى عليها، فإننا قد نكافح من أجل الحصول على نفس الاستجابة عند حدوث خسائر هائلة في الأرواح، بحيث أنه في الكثير من الأحيان يصبح عدد الوفيات مجرد إحصائيات وأرقام باردة وخالية من أي تعاطف أو اهتمام بشري، كما قال جوزيف ستالين ذات يوم: "موت إنسان واحد هو مأساة كبرى، وموت الملايين مجرد إحصائيات".

هذا التراجع الكبير في الاهتمام البشري بالحوادث المؤسفة قد يندرج ضمن ما يعرف بظاهرة التخدير النفسي التي تقوم على الفكرة التالية: "كلما مات أكبر عدد من الناس، كلما قلّ اهتمامنا".

يمكن أن يكون لموت فرد واحد، حتى وإن كان شخصاً غريباً، تأثير قوي على عواطفنا ومشاعرنا، ولكن في المقابل، عند ارتفاع أرقام القتلى وتفاقم المصائب، يمكن أن يزداد لدينا مستوى اللامبالاة بشكل مفاجىء

فقد وجد علماء النفس أن الأفراد يختبرون رد فعل عاطفي أكبر إزاء موت شخص واحد مقارنة بموت الكثيرين، حتى ولو كانت الظروف متشابهة أو متطابقة.

بمعنى آخر، كلما ارتفع عدد الضحايا والمصابين والموتى، كلما قلّ التعاطف الذي يشعر به الأشخاص إزاء مصيبة ما، إذ إن قدرتنا على التعاطف مع الحالات الفردية أكبر بكثير من قدرتنا على التعاطف مع الحالات المأساوية الجماعية، وبخلاف ما يخال للبعض، إن مشاعرنا لا تتعاظم مع عدد الضحايا.

في هذا الصدد، قال عالم النفس في جامعة أوريغون، بول سلوفيك، لموقع بي بي سي: "إن الشعور الغريزي السريع والبديهي يشكل معجزة في نواح كثيرة، ولكن له بعض العيوب"، وأضاف سلوفيك الذي درس ظاهرة التخدير النفسي لعقود: "لا يتم التعامل مع الأرقام من حيث الحجم بشكل جيد للغاية. إذا كنا نتحدث عن الأرواح، فإن حياة واحدة مهمة وقيمة للغاية، وسنفعل أي شيء لحماية تلك الحياة وإنقاذ هذا الشخص. ولكن مع زيادة الأعداد، لا تزداد مشاعرنا بشكل متناسب أيضاً".

في الواقع، تشير أبحاث سلوفيك إلى أنه مع تزايد الأرقام الإحصائية المرتبطة بمأساة أكبر وأكبر، فإننا نصبح أقل حساسية، ونستجيب بشكل أقل للأخبار المفجعة، وهذا بدوره يجعلنا أقل عرضة لاتخاذ الاجراء اللازم لوقف الإبادة الجماعية، إرسال المساعدات بعد الكوارث الطبيعية أو سن التشريعات لمحاربة الاحتباس الحراري.

وبالنسبة لفيروس كورونا، فإن تزايد أرقام المصابين/ المصابات قد يؤدي إلى نوع من اللامبالاة التي تجعل الناس يشعرون بعدم الرضا عن غسل اليدين أو ارتداء القناع، بمعنى آخر: عندما تكبر الأرقام، يصبح الاهتمام بالمشكلة أقلّ.

مخلوقات أنانية

نتيجة اللامبالاة وغض النظر عن جوهر المشكلة، هناك عواقب وخيمة تترتب على كيفية تعاملنا عندما نواجه مآسي واسعة النطاق.

في سلسلة من الدراسات التي أجريت في السويد في العام 2014، أظهر سلوفيك وزملاؤه أننا لا نصبح فقط خَدِرين لزيادة الأعداد، ولكن يمكن لتعاطفنا أن يتلاشى وينهار أيضاً.

وفي الدراسة، قام الباحثون بعرض صورة لطفل فقير وصورة أخرى لطفلين فقيرين، وسألوا المشتركين عن مدى استعدادهم للتبرع.

عوضاً عن الشعور بالحزن بشكل مضاعف وازدياد الرغبة بالمساعدة، فإن المشتركين تبرعوا بشكل أقل عندما رأوا طفلين بدلاً من واحد.

كلما مات أكبر عدد من الناس، كلما قلّ اهتمامنا

وقد علل بول سلوفيك ذلك بالقول إن الفرد هو أسهل وحدة يمكن للبشر فهمها والتعاطف معها: "إذا رأيت طفلاً واحداً، يصبح بإمكانك التركيز على الطفل"، فمع وجود أكثر من شخص يبدأ الانتباه بالتلاشي، وذلك ينسحب أيضاً على المشاعر التي تقف وراء سلوكنا.

هذا وقد وجد البحث أن المشاعر الإيجابية المرتبطة بالتبرع لطفل واحد قد انخفضت عندما تم تذكير الناس بالأطفال الذين لم يتمكنوا من مساعدتهم، وهي ظاهرة يسميها سلوفيك "عدم الكفاءة الزائفة".

وفي سياق متصل، تم عرض صور لطفل واحد على المشتركين الذين شاركوا في الدراسة، وتم إعطاء نصفهم إحصائيات حول عدد الأشخاص الآخرين الذين يتضورون جوعاً في المنطقة التي ينتمي إليها الطفل.

وعن النتائج التي تم التوصل إليها من خلال البحث، قال سلوفيك: "اعتقدنا أنه إذا أظهرنا مدى خطورة المشكلة، فسيكون الناس أكثر حماساً للمساعدة، ولكن بدلاً من ذلك، انخفضت التبرعات إلى النصف عندما تضمنت الصورة الإحصاءات".

هذه المشاعر التي نختبرها لها علاقة مباشرة بإحساسنا بمدى تأثير أفعالنا على الآخرين، فمع تزايد عدد الأشخاص الذين يعانون أو يموتون في مأساة، يبدو لنا أن الجهود التي نبذلها بشكل متزايد وكأنها مجرد قطرة في المحيط.

واعتبر سلوفيك أن جزءاً من سبب هذا السلوك يعود إلى أننا كبشر "مخلوقات أنانية": "نتبرع لأننا نريد المساعدة، ولكن هذا يجعلنا أيضاً نشعر بتحسن"، مضيفاً بأن إحساسنا بالسعادة عند مساعدة طفل واحد لا يكون نفسه عندما ندرك أنه مجرد شخص واحد من أصل مليون: "تشعرون بالسوء لأنه لا يمكنكم مساعدة الجميع، وتلك المشاعر السيئة تدخل وتختلط مع المشاعر الجيدة وتقلل من قيمة الشعور الجيد".

كيف نتجنب الشعور بالتخدير النفسي أمام المآسي من حولنا؟

من الشائع أن يقوم الصحفيون/ الصحفيات بإضفاء الطابع الإنساني على المآسي من خلال البحث عن قصص فردية، ولهذا نلاحظ أن تقارير الصحف تركز بشكل متكرر على بعض التفاصيل الشخصية، مثل عمر الشخص، وظيفته وما إذا كان لديه أطفال، كما أن المصورين/ات يحرصون على إدراج بعض العناصر الشخصيةـ مثل لعبة مهجورة أو زوج قديم من الأحذية في صورهم، لإضفاء الطابع الشخصي والفردي على مأساة كبرى.

كما أشرنا في السابق، لا يمكننا أن نفترض أن إحصائيات الأزمات البشرية الجماعية قادرة على لفت انتباه الجميع أو دفعهم لاتخاذ الإجراءات اللازمة، بغض النظر عن حجم أعداد المتضررين/ ات التي قد تكون "كارثية"، في حين أن الصورة تعتبر سلاحاً قوياً لإثارة ردود أفعال متعاطفة، تماماً كما حصل بعد انتشار صورة الطفل الكردي آلان كردي، البالغ من العمر 3 سنوات، والذي غرق في البحر الأبيض المتوسط في العام 2015، عندما كانت عائلته تحاول الوصول إلى أوروبا هرباً من الحرب الأهلية السورية.

بالرغم من أن الحرب السورية كانت قد أودت بحياة أكثر من 250.000 شخص وخلّفت ملايين اللاجئين/ اللاجئات بحلول العام 2015، إلا أن الصورة الرمزية لطفل صغير مستلق على وجهه على الشاطئ، تمكنت من هزّ العالم وجلب انتباه الناس الذين كانوا يغطون في نومهم العميق.

وفي هذا الصدد، اعتبر سلوفيك الذي كان قد درس الاستجابة الدولية للصورة، أن هذه الأخيرة أثارت موجة من التعاطف بعد نشرها، في حين أن الأرقام التي كانت تشير إلى القتلى كانت "مجرد إحصاءات لمعظم الناس"، على حدّ قوله.

ولكن ما الذي يمكننا فعله في حال عدم وجود صورة أو قصة مؤثرة؟ هل نشيح النظر عن الفاجعة؟ وهل يمكننا حقاً أن نترك العدد المتزايد من الوفيات بسبب فيروس كورونا مثلاً، يخدرنا لدرجة فقدان الرضا عن النفس؟

اعتبرت ميليسا فينوكين أنه يجب على مسؤولي الصحة أن يكونوا أذكياء في رسائلهم، لأن ازدياد عدد حالات المصابين بفيروس كورونا بشكل جنوني قد لا يجذب انتباه الناس: "يجب أن تكون الرسائل شخصية وجذابة أكثر"، مشددة على ضرورة منح الناس الفضل عندما يبذلون جهداً لفترة طويلة من الوقت.

أما بالنسبة إلى بول سلوفيك فقد اعتبر أن الأمر يتعلق بتغيير عقليتنا والانخراط في تفكير أبطأ ومتعمد، ناصحاً بالتركيز على حياة وقصص الأفراد: "عليكم استخدام التفكير البطيء لتقدير الأفراد تحت سطح الأرقام".

هذا ونبّه سلوفيك من ضرورة عدم غض الطرف عن المصائب من حولنا حتى ولو كانت الأمور تزعجنا: "إذا كنتم تشعرون أن شيئاً ما ليس مناسباً لكم أو لا يمكنكم فعل أي شيء حياله، فقد لا ترغبون في الانتباه إليه وإزعاج أنفسكم. لكن اعلموا أنكم وضعتم رأسكم في الرمال على مسؤوليتكم الخاصة".

التأقلم مع الواقع

لا شك أن الشعور باللامبالاة تجاه المآسي من حولنا قد يكون مؤشراً على فقدان أهم خاصية لدينا: الإنسانية، ولكن يبدو أن هناك جانباً إيجابياً لهذه المسألة.

ففي حديثه مع موقع رصيف22، اعتبر الأخصائي في علم النفس، هاني رستم، أن التخدير النفسي والعاطفي قد يكون بمثابة وسيلة دفاعية وردة فعل إيجابية تسمح لنا بتلقي الأخبار المريرة بأخف وطأة.

وشرح رستم ذلك بالقول: "إذا رح يضل عندي نفس ردة الفعل على أخبار كورونا وتزايد الأعداد، بطريقة بتشبه ردة فعلي الأولية وخوفي أول مرة من الموضوع، رح يكون كتير صعب على جهازي العصبي إنو يتحمل كل هيدا التوتر والخوف، منشان هيك مع الوقت بيجرب الواحد يتأقلم، ويعتبر إنو الموضوع عم بيروح أكتر ليكون طبيعي من اعتباره قضية صعبة ومخيفة".

كلما ارتفع عدد الضحايا والمصابين والموتى، كلما قلّ التعاطف الذي يشعر به الأشخاص إزاء مصيبة ما، إذ إن قدرتنا على التعاطف مع الحالات الفردية أكبر بكثير من قدرتنا على التعاطف مع الحالات المأساوية الجماعية

وأوضح هاني أن هذا الموضوع ينطبق مثلاً على أخبار الحرب في سوريا، مشيراً إلى أن تأثرنا بأعداد الضحايا والقصة الإنسانية وراء كل ضحية ببداية الثورة، تغيّر عن اليوم: "بالأول كنّا كتير نتأثر ونحس بغضب وحزن على كل شخص منسمع خبر سيء عنو، اليوم بعدنا منشعر بحزن وأسى ولكن صار وقع هاي الأخبار أخف"، وتابع بالقول: "هيدا الأمر بيرجع لأنو جسمنا وجهازنا النفسي والعصبي عم بيجرب يتأقلم مع الواقع، ويحمينا من إنو نكون طول الوقت عم نحبس حالنا بالأسى والألم".

هذا وشدد هاني رستم على أهمية أن يتحلى المرء بالوعي ويطوّر التعاطف في داخله والإحساس بمعاناة الآخرين: "في كتير أمور بتخلينا نطور التعاطف جواتنا ونتواصل مع مشاعرنا ونفهم أحاسيسنا، ومهم نحسّ مع الأشخاص من دون ما نحكم عليهم أو نغرق بالمعاناة ويضطر جسمنا يتعامل معها بطريقة عكسية، متل إنو يعمل تخدير إلنا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard