شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"بلا نظرات عيون وبلا لمسات"... السوريون وتكنولوجيا الحب والحرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 26 يوليو 202012:33 م

الحب، الزواج، الانفصال... مصطلحات تقليدية نتداولها في حياتنا اليومية، ولكل شخص طريقته الخاصة في التعبير عنها. من الورود والقبلات الحارّة ولمسات الأيدي ونظرات العيون ومحابس الخطوبة أو الزواج، أو من الصراخ والمشاحنات والمشاكل التي تؤدي إلى الانفصال، فجأة اختلف المشهد بالنسبة إلى السوريين مع بدء الحرب والهجرة نحو شواطئ الموت أو نحو أماكن أكثر أمناً.

الحب أيام الأمان

قبل بدء الحرب في سوريا، كانت المدن السورية تنعم بأمان كبير. ازدحام الأماكن، امتلاء الشوارع بالناس، الحدائق، المطاعم، وغيرها الكثير من التفاصيل، بات السوريون يفتقدونها بسبب الحرب.

في كل بقاع الجغرافيا السورية، كنا نلمح الحب ينمو بشكل طبيعي بين كل شاب وفتاة اختارا طريقهما معاً. ورغم الضيق المادي والمعيشة البسيطة لغالبية أفراد المجتمع السوري، وصعوبة الارتباط الرسمي بسبب اختلافات قد تكون طائفية أو دينية أو بسبب العوز، إلا أن الأفراح رغم ذلك كانت عامرة، وذهب "الشبكة" يمكن شراؤه، ولو بصعوبة، والصالات ممتلئة بالأعراس، والأزواج الجدد يتأملون الخير في أيامهم القادمة، ويستعدّون ليبنوا حياتهم المشتركة وليؤسسوا أُسراً.

هكذا، كان الزوجان يترقّبان حياةً جديدة تختلف طبعاً حسب البيئات والوضع المادي لكل منهما. واستمر الوضع على هذا التقليد والروتين المعتاد لسنين طويلة، لكن ثمّة أمراً كارثياً غيّر المعادلة البسيطة هذه بِرُمّتها.

رسائل الحب والحرب

بدأت تنتشر وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا مع بداية عام 2010، ولم يكن السوريون يعلمون ما ينتظرهم من كوارث وأن هذه التكنولوجيا الجديدة ستخدمهم كثيراً في قادم الأيام.

ومنذ بدء الحرب عام 2011، بدأ الخوف يتسلل إلى الجميع، وبدأت الدنيا تضيق في عيون السوريين. مدنهم لم تعد كما كانت، والانقسام بدأ يتجلى بشكل واضح، والحب والزواج بات قضية خاسرة، فهناك أمور مخيفة بدأت تحدث في هذه البلاد تجعلها تدخل في دوامة المجهول.

مع اشتعال النيران في سوريا، استمرت الأفراح والزواج والحب. لم يتوقف شيء حقيقةً، لكن لم تبقَ الأمور كما كانت قبل، فقد خفت وهج العلاقات العاطفية وبات الجميع يعي تماماً أن المستقبل سيكون غامضاً، والحياة لم تعد تسير بشكلها الاعتيادي.

ومع اشتداد وقع الحرب، فُتِحَت أبواب الهجرة، وتحديداً في عامي 2015 و2016، وباتت تركيا بوابة العبور نحو أوروبا. لم تكن أوروبا وِجهة الهاربين الوحيدة. كثيرون غادروا نحو أراضٍ مختلفة، بعدما أكلت النيران بيوتهم، لنجد السوريين في كل مكان، من أربيل إلى تركيا، ومن مصر إلى لبنان والأردن والسعودية والإمارات وحتى بعض دول المغرب العربي...

أكثر المهاجرين كانوا من الشباب الذكور الذين لم يعودوا قادرين على تأمين مستقبلهم أو على الوقوع في الحب أصلاً. فبالإضافة إلى عامل الأمان، كان هناك هاجس الخدمة الإلزامية التي تنهك الشاب السوري لسنوات طويلة لتصبح وكأنها خدمة أبدية. لم يعد الشباب قادرين على تحقيق أحلامهم أو العمل لتأمين حياتهم والزواج وإنشاء أُسر، خصوصاً أنهم معرّضين للموت في أي لحظة ضمن الحرب الطاحنة.

من هنا، كان الإنترنت وسيلة وحيدة للتنفس في هذه العشوائية، خصوصاً بعد السفر. بات العشاق يتواصلون مع بعضهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك بات التعارف رهناً بإشعارات فيسبوك وواتساب وغيرها من التطبيقات.

ليس الحب فقط، بل حتى الانفصال صار يتم عبر هذه الوسائل، فالقصص التي بدأت في سوريا وبتَرَتها الحرب أكملت حكايتها عبر الفضاء الافتراضي بعد مغادرة الشاب بلاده.

هذا ما حدث مع عبيدة، صحافي يبلغ من العمر 28 عاماً. عندما كان في سوريا، أحبّ فتاةً وخطبها من أهلها، وبعد أن عُقد قِرانهما قرر السفر في بداية عام 2017 تاركاً إياها وراءه في دمشق، على أمل أن يكتمل الفرح لاحقاً، إلا أن البُعد سبَّبَ جفاءً ما.

"لا يمكن إنكار أن العلاقة العاطفية على أرض الواقع لها تأثير أكبر، من خلال لمسة اليد ونظرات العيون، لكن وسائل التواصل والتكنولوجيا والحرب فرضت علينا نحن السوريين تحديداً أن نعبّر بشكل مختلف. ففي ظل الظروف التي نحياها، لا حلول أخرى"

يقول عبيدة لرصيف22: "كثُرت المشاكل بعد سفري خارج سوريا بيني وبين خطيبتي، وربما لأنني ابتعدتُ لم تنجح العلاقة في الاستمرار، فالبعيد عن العين بعيد عن القلب. اتسعت الفجوة بيننا يوماً بعد يوم، ليحدث الانفصال في ما بعد عن طريق الإنترنت. أرسلتُ لها عبارة ‘أنتِ طالق’ من خلال تسجيل صوتي عبر واتساب، واتصل بي القاضي لاحقاً عبر مكالمة فيديو كي أرمي يمين الطلاق عليها بشكل مباشر".

عرس بلا عريس

لا شك في أن مصطلح "العنوسة" يُعتبر غير لائق، لكنه ما زال مستخدَماً في المجتمع السوري وفي مجتمعات أخرى، وكلما تقدّم العمر بالفتاة كلما خافت من ألا تستطيع تشكيل أسرة أو الارتباط بشخص تُحقق معه حلمها في الأمومة.

هذا ما قالته لينا، اسم مستعار لطالبة في كلية الحقوق عمرها 29 عاماً، لرصيف22. تزوجت الشابة عبر الإنترنت وتروي: "بعد علاقة حب استمرت عامين وانتهت نتيجة الشح المادي، وجدتُ نفسي لوحدي وقد مرّ الوقت بي سريعاً، وأنا من عائلة ريفية تنظر إلى المرأة التي تتأخر في الزواج بطريقة غير مستَحَبّة رغم أننا عائلة مثقفة ومتعلمة".

وتضيف: "كان خلاصي عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تعرّفتُ على شاب سوري مقيم في إحدى دول الخليج ولديه القدرة المادية على الزواج لكنه لا يستطيع القدوم إلى سوريا كونه لم يدفع بعد بَدَل الخدمة الإلزامية، وهو 8000 دولار أمريكي. تحادثنا عبر الفيديو بعد عدة محادثات مكتوبة على المسنجر، وكان يبحث عن عروس، وبعد ستة أشهر أرسلَ أهله ليخطبني وتمّ النصيب، ومن ثم سافرتُ إليه بعد أن أنهكتْهُ أوراق استقدامي وكلّفته مبالغ كبيرة لمجرد أنني سورية".

"الآن نحن متزوجان ونعيش حالة حب جميلة رغم أننا لم نلمس أيادي بعضنا قبل الزواج أو نرى وجوهنا إلا من وراء الشاشات"، تتابع لينا.

"لم تعد فكرة الزواج حاضرة في أذهان الكثير من الشباب السوريين. موضوع الارتباط بات أكبر من طاقتي. لذلك فإن وجود تطبيقات التعارف حلّ الكثير من المشاكل العاطفية برأيي، إذ يمكنني الآن التعرّف على فتاةٍ ما لنقضي أوقاتاً ممتعة معاً دون أن يكون بيننا ارتباط رسمي"

تعترف لينا بأن هذه الخطوة كانت ملاذها للتخلص من فكرة "العنوسة" التي أصبحت هاجس الفتاة السورية بعد هجرة الشباب بشكل كبير. وتقول إن الحب عبر الإنترنت ممكن خصوصاً في أزمة الحرب السورية هذه.

وعن العرس الذي تحلم به كل فتاة، تقول: "أقمتُ حفلة عرس نسائية جميلة في إحدى صالات أفراح ولبستُ فستاناً أبيض، لكن العريس لم يكن معي طبعاً، وألبَسَني أهله الشَّبكة، ولكي يرى كيف كنتُ أظهر في ذلك اليوم اتصلتْ به أمه بالصوت والصورة وصوّرتْ له مقتطفات من الحفل. والمضحِك أنه كان يرتدي بذلة رسمية أيضاً".

حلول بديلة

لم يعد الشباب الذكور السوريون قادرين على تأمين حياتهم بسهولة وتأسيس عائلة. الموضوع بات أكبر من طاقاتهم نتيجة غلاء المعيشة ومتطلبات الحياة. لذلك يلجأ بعض الشباب وحتى الفتيات للتماشي مع الأمر الواقع وإقامة علاقة حب من دون أن يكون الزواج هدفها.

يقول محمد، طالب في كلية الهندسة الميكانيكية يبلغ من العمر 27 عاماً، لرصيف22: "لم تعد فكرة الزواج حاضرة في أذهان الكثير من الشباب السوريين ومنهم أنا، ورغم أنني ما زلتُ في سوريا لكن موضوع الارتباط بات أكبر من طاقتي، بسبب الضيق المادي الكبير والظروف الصعبة التي نحياها، لذلك فإن وجود تطبيقات التعارف حلّ الكثير من المشاكل العاطفية برأيي، إذ يمكنني الآن التعرّف على فتاةٍ ما لنقضي أوقاتاً ممتعة معاً دون أن يكون بيننا ارتباط رسمي، وفي حال افترقنا لسببٍ معيّن فهناك الكثير من الأشخاص الآخرين".

تختلف نظرة عبيدة للأمور. بعد تجربة انفصاله الصعبة ومعيشته الأصعب في لبنان، يقول إن الحب عبر الإنترنت من الممكن أن يفضي إلى نتيجة جدّيّة، فهو وسيلة جيدة للتعبير والتعارف من أجل ارتباط رسمي بعيداً عن التسلية المجانية.

وبالمقارنة بين علاقته الافتراضية الحالية مع صبية جديدة، تعرّف عليها من خلال إنستغرام ويتحدث معها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبين خطيبته السابقة التي تعرّف عليها على أرض الواقع يقول: "لا يمكن إنكار أن العلاقة العاطفية على أرض الواقع لها تأثير أكبر، من خلال لمسة اليد ونظرات العيون، لكن وسائل التواصل والتكنولوجيا والحرب فرضت علينا نحن السوريين تحديداً أن نعبّر بهذه الطريقة بعد هجرة الشباب إلى الخارج وبقاء معظم الفتيات في الداخل، وأرى أن الإنترنت قادرٌ على إيصال المشاعر بنسبة 65% وهو كافٍ مبدئياً في ظل هذه الظروف التي نحياها، فلا حلول أخرى".

لم يعد الحب والارتباط سهلين في سوريا، فهناك الكثير من المعوقات أمام الشباب والفتيات، ما يجعلهم بحاجة إلى طاقة كبيرة وأموال كثيرة كي يتخطّوا بعضها، وقبل كل هذا هم بحاجة إلى استقرار اجتماعي ومادي في بلادهم لتحقيق القدرة على الارتباط الرسمي وتكوين أسرة قادرة على تجاوز المِحَن التي تضرب البلاد واحدةً تلو الأخرى.

لكن رغم ذلك، بقيت المشاعر موجودة والحب قائماً عبر الشبكة العنكبوتية إنما خيوط هذه الشبكة ما زالت تخنُقُ المحبّين السوريين المتباعدين، فلا يمكنهم رغم كل هذه التكنولوجيا أن يخترقوا الشاشة ليلمسوا وجوه بعضهم البعض ويمسحون دمعات العيون.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard