شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"أسطورة الـ ** الحمصي الأملط" و"صورة الكاتب ككلب"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 10 يوليو 202002:12 م

"الشريف المرتضى: من هذا الكلب؟

أبو العلاء المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً".

"وصديقي يضع لسانه في ثقب الباب

يحاول أن يتذوق الخارج".

علي ذرب- سأتذكر أنّي كلب وأعضّك أيها العالم.

نقرأ في رواية "الباندا" للكاتب السوري راهيم حساوي، مقطعاً يمتد من أسفل الصفحة اليمين "154" حتى ما يقارب نهاية الصفحة اليسار "155"، فقرة واحدة يصف فيها حساوي كيف يمارس عمران الحب مع كلودين، مُكتشفاً عالمها وأساطيرها وقوانينها وجاذبية تفاحها، في بداية الفقرة، نقرأ كيف قام عمران برسم حواف جسد كلودين على "الباب"، قبل أن "يرتطم فمه بفمها، وتذوب الشفاه بعضها ببعض"، لكن فجأة، وفي نهاية الفقرة نظر عمران في عينيّ كلودين وقال: "يجب أن أقتل بعضاً منك، أنت امرأة كثيرة".

هذه العبارة وتعدد صور كلودين في مخيّلة عمران أثناء الجنس وأثرها على الباب، تتركنا أمام ما يسمّى "المنطقة"، حسب تعبير الفرنسية ماري خوسيه موندزان، وهي "مساحة يفتح فيها عدم اليقين المخيلة على كلّ الاحتمالات"، فالمنقطة خارج كل الحسابات، مساحة بلا جدران وبلا حدود، تتكرر يومياً وعلينا التقاطها، كونها تكشف الصِلات التي يمكن لنا عبرها أن نحيا مع بعضنا البعض.

كل مساحة يفتح فيها عدم اليقين المخيلة على كل الاحتمالات، هي مساحة تستفز الشرط الإنساني حتى أقصاه، وتكشف عن اللامنطقي في علاقتنا كبشر وكيفية تفسير كل واحد منا للعالم، سواء كان شخصية روائية أو واقعية... هذا هو أدب المفتاح

هذه "المناطق" في المخيلة، يشير إليها حساوي في أحد مقالاته بعنوان "أدب المفتاح"، الذي يتناول "تلك الأشياء التي لا يمكن التحدث بها مع الآخرين، وذلك بسبب الغموض الذي قد يبدو عليها، وعدم الجدوى منها، وغرابة موضوعها أمام طبيعة الأحاديث التي اعتاد الناس على التحدث بها علناً أو سراً، بينما أدب المفتاح يتم تداوله بين المرء وذاته وبشكل لحظوي، مثل دقات القلب ومثل سيالة عصبية"، ويصنف ضمن ذلك، الشرود والحرج وسوء الفهم والكآبة والمنامات.

المنطقة، أدب المفتاح أو "النوافذ"، حسب تعبير ميلان كونديرا، هي مساحات تستفزّ فيها المخيلة الشرط الإنساني لأقصاه، كاشفة عن اللامنطقي في علاقتنا كبشر، وكيفية تفسير كل واحد منا للعالم، سواء كان شخصية روائية أو واقعية، والهدف هو إيجاد "منطق" للعلاقات السببيّة بين الأفعال، بين تاريخ الفرد وما يقوم به، وهنا تأتي أهمية هذه النوافذ، لحظات لا منطقية تكسر "منطق" ما يحدث قبلها وبعدها، فلم يريد عمران قتل امرأة مرات عديدة؟ لا يهم الجواب، الإشكالية في السؤال نفسه، ولحظة الشرود هذه التي ظهر نتيجتها هذا السؤال لدى عمران وهو يقبّل كلودين.

هذه "المناطق، النوافذ، آداب المفاتيح" أداة المخيلة، حسب تعبير موندزان، "لجعل الواقع هشّاً"، لأن بناءه الأيديولوجي والمادي مهدد أمام قوة مخيلة الرواية وسخريتها من المنطق الذي يُقَدّمُه الخطاب "الرسمي"، العلمي والسلطوي والبيروقراطي، إذ تكشف هذه اللحظات الهيمنة على المخيلة وتشكل أسلوباً لتحريرها، وهذا ما حاولته موندزان في كتابها "ك كمستعمرة"، الصادر حديثاً، والذي قرأت فيه طفولتها والعالم من حولها، عبر نص فرانز كافكا "مستعمرة العقاب".

تفتح "النافذة، المنطقة" حين تتكاثف شروط العالم المنطقي وتتجلى، سواء في آلاته كما في مستعمرة العقاب، أو خطابه كما سنرى لاحقاً، هذه المساحة في المخيلة التي تكشف الشرط الإنساني، تظهر كردّ الفعل اللامنطقي على "منطقيّة" كلّ ما سبقها، فالشرط التاريخي الذي يهدد الفرد حدّ التلاشي، يقابل بشيء من الغرابة التي تحويها هذه النافذة/ المنطقة، والتي تظهر في النص أحياناً بصورة عابرة، أو كحكمة في النهاية، كنوبة الضحك التي انتابت المشرف على حمّالي السكر، في قصة "الضحك في آخر الليل" للسوري عبد الله عبد، إذ وجد نفسه بعد نهار متعب، وساعات من الإشراف على تفريغ أطنان من السكر، مضطراً لشرب كأس شاي دون سكّر فـ"ضحك. ضحك في البداية من حلقومه، موجة إثر موجة، ضحكاً غريباً، جافاً لا روح فيه ولا نداوة. ثم استقام ضحكه".

لا يتعلق الأمر بالنهايات والمفارقات التي تحويها، بل في القسوة التي تفضحها هذه "المنطقة"، فهي تكشف عدم اتساق البشري مع منطقية التاريخ، هذه النوافذ/ المناطق تكشف إنسانية الفرد أمام لا سببية العلاقات في العالم الروائي، وخضوع الفرد لمخيّلة تاريخية تريد تكوينه حسبما تريد، فالرواية تسخر من سؤال الدافع والحدث، الذي يبدو ساذجاً حينها، فكما رسم عمران على الباب أثر جسد كلودين لتقبيلها ثم تمنّى قتلها، في مستعمرة العقاب يصف لنا الضابط طاولة التعذيب، بصورة أدقّ، "السرير" حيث يسجّى السجين عارياً، ويكبّل بانتظار الحكم ومن حوله مرسوم أثره، لكن الاختلاف أن كافكا لا يفتح نافذة و يمضي، بل الرواية بأكملها "منطقة" لشرط الوجود وقسوته، كوميديات كافكا تكمن بأنه حوّل "استطراد" أو "شرود" المنطقة إلى رواية يختبر فيها منطق العلاقات اللاسببية.

التناقضات التي تكشفها النوافذ أو المناطق، تُكسب السرد جمالياته، كونها نابعة من رد فعل إنساني لا يتسق مع سببية العالم التي تحرك الفرد نظرياً، ومهما انتهكت السلطة في المخيلة الأفراد، لا تستطيع إغلاق "النوافذ" أو إفناء "المناطق"، بل تتورط بها أحياناً طمعاً باللحم العاري، محط السلطة الأساسي، لكن هذا التورط كونه مجابهة بين العقلاني واللامنطقي، يكشف هشاشة السلطة وفانتازمية الأثر الذي تمتلكه عن الأفراد والذي تسعى لجعلهم يتطابقون معه.

المستشرق وأسطورة الكسّ الحمصي الأملط

نجد مثالاً عن تناقضات أدب المفتاح في رواية "رقصة القبور" للكاتب مصطفى خليفة، عن طبيب ألماني في حمص يبحث عن نساء لا ينتب لهن شعر عانة ليثبت نظريته عن الارتقاء، بينما المجازر تحدث شمال الخالدية والأنهار تحمل الجثث جنوباً 

نقرأ في رواية "رقصة القبور" للسوريّ مصطفى خليفة، عن الطبيب الألماني "هانز" المتحمس لنظرية دارون، والذي عمل على تطويرها في بحوث ومقالات تدور حول "الشعر الموجود على رأس الإنسان وباقي أنحاء جسده، فكلّما تقدم الإنسان في الحضارة قلت كمية الشعر على جسده"، وكانت نتائج أبحاثه، هو الذي قرر أن يقيم في حمص، أن المرأة هي الأرقى بيولوجيا، لأن جسدها يغطيه شعر أقل، أما أهم ما توصل له، نبوءة علمية وصفها بالتالي: "مستقبلاً سيشهد الإنسان طفرة على صعيد التطور، وستبدأ الطبيعة بإيجاد بشر لا تغطّي أجسادهم أي شعرة".

هانز في بعثة علمية في حمص، وبسب قلة سفره إلى ألمانيا، أراد تلبية نداء جسده مع امرأة محلية، فأحضر له من في القرية مومساً تركية، وأثناء الجنس، يكتشف أن المومس التي جاءت إليه بلا شعر عانة أو أزالت شعر عانتها حسب قولها، وبسبب دهشته الشديدة من الأمر، أخبرته عن قرية سكانها كلهم من العرب، فيها عائلة أسياد، نساء هذه العائلة، لا شعر في أجسادهن، بل "لا توجد شعرة في أجسادهن تحت رموش العين"، المومس التي أصبحت لاحقاً زوجته، كانت تخبره عن قرية الخالدية وعائلة آل الشيخ، هذه المعلومة المذهلة بالنسبة إليه، جعلته يتقرب منهم، ويقيم في المدينة حيث بنى بيتاً وعاشر السكان، محاولاً تحقيق السبق العلمي، ليصبح بينه وبين نفسه مبشراً بـ"اليوم الذي يخلع فيه الإنسان شعر جسده دفعة واحدة، لأنه لم يعد بحاجة إليه".

بينما المجازر شمال الخالدية، والأنهار تحمل الجثث جنوباً، هانس مشغول بالبحث عن الكس الأملط، ذاك الذي اشتهرت به نساء تلك الأسرة، إذ طلق زوجته الألمانية التي اخذت ابنتهما وعادت إلى برلين، ثم تزوج المومس التي أصبح اسمها "شيرين خانوم"، والتي كانت شديدة الإعجاب به حين التقيا أول مرة، وأرادت أن تخاطب عقله بأسطورة شعبيّة أو مزحة سمجة، هي الغريبة التي أرادت أن تثير إعجاب الغريب، ففتحت "منطقة" بعدة جمل، جعلته يرى في نساء الأسرة مجرد لحم عار، لابدّ من معاينته طبياً والكشف عن عانته، جملة صغيرة "لا منطقية"، جعلت حياة هانز أشبه بمغامرة للبحث عن العانة الملساء، تلك التي مات دون أن يراها، أو يقترب منها، أو حتى يتيقن من حقيقة وجودها.

داخل مخيلة هانز التي سبرتها الرواية، سكان القرية فانتازميون، وينتمون لنبوءة علمية أطلقها هو، ثم صدقها بإصرار علمي وتطوري واستشراقي، هذه النبوءة وحاملها ترى في نساء تلك العائلة "الأرقى"، مع ذلك هم موضوعات البحث الطبي الذي سيخلده في التاريخ، المفارقة أن محركها كان عبارة أطلقتها "مومس"، التقاها مرة واحدة وأرادت أن تثير فضوله.

مخيلة الديكتاتور وصورة الكاتب ككلب

تعلق موندزان على نص كافكا "تحريات كلب" أو "صورة الكاتب ككلب"، كما تصفه، جاعلة منه مجازاً عن موقف الكاتب المستكين من السلطة، ذاك الذي يوجه أسئلته لكل ما حوله، مع ذلك "يدرك أن عالم الكلاب مؤسسة رائعة من كل الجوانب"، وتضيف أن الكاتب ككلب يعني أنه مدجّن، خاضع للسلطة التي تلجمه وتجعله موضوعة لاستعراض خطابها وأدواتها، هو أشبه بمفسر للغة القانون العصية على الفهم، هو معزول وغريب الأطوار، سلواه في الموسيقا ذاتها التي تهدد الديكتاتور، وكأن كافكا يسخر من السلطة التي ترى في كتّابها كلاباً مطيعة وأخرى بحاجة للتأديب.

في نص كافكا "صورة الكاتب ككلب" يصبح الكاتب أشبه بمفسر للغة القانون العصية على الفهم، وفي تلك الوظيفة ذاتها ما يهدد الديكتاتور، وكأن النص يسخر من السلطة التي ترى في كتّابها كلاباً مطيعة وأخرى بحاجة للتأديب

المثير للاهتمام أن وصف الكلب ككاتب متكرر في المخيلة الديكتاتورية، التي تبحث كسابقتها أيضاً عن العري، تظهر هذه الملامح في رواية السوري مازن عرفة، "سرير على الجبهة"، فالراوي، عرفة المتخيّل، يهرب من بطش القائد العسكري، إذ يقفز في القمامة ليتقاسم الطعام مع الكلاب، الذين شعر بينهم بالراحة والأمان، لكن قبل مغامراته ككلب، تمت تعريته ككاتب من قبل الضابط العسكري الذي احتل بيته، واستعرضه كراقصة تعرٍّ وكحمار، ثم كمواطن مطيع، وانتهك كل ما فيه عقلاً وجسداً، وذلك كي يردد الخطاب الرسمي دون أن يفهمه، لكن بعد "مرور ربيع طويل" وهو في حاوية القمامة، يقرر أن يمشي في الخارج، ويتأمل تغيرات المكان من حوله.

لكن- هنا نستذكر "أدب المفتاح، والنافذة والمنطقة"- برغم كل الدمار والذل الذي ناله "الكاتب ككلب"، يراوده حلم يقظة عن نفسه كطفل بعمر السادسة، يستلقي في فناء البيت الريفي يحلم بالعناقيد وبنات الجيران البريئات، فقرة واحدة في مقدمة الصفحة، تعيد له إنسانيته قبل أن يستمر في لهاثه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard