شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كنتُ واثقاً من أن الأرض تعرفني... مشاهد توثيقية من زيارتي الأولى إلى فلسطين

كنتُ واثقاً من أن الأرض تعرفني... مشاهد توثيقية من زيارتي الأولى إلى فلسطين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الخميس 13 أغسطس 202002:35 م

كنتُ أمشي يداً بيدٍ مع ارتباكي وتفاصيل كثيرة ومذهلة، لا أستطيع تذكرها كلها، ولا يجوز أن أقفز عن أصغرها. كنتُ منفلتَ العقل حُرَّ الروح أمشي، لم أفكر في كتابة التفاصيل، وتركت الصور تنطبع على زجاج المخيلة، علّني أجمعها في شريط من الكلمات، أقرأه لأحنّ، وأحنّ فأقرأه.

الوقوع على الذات مغامرة؛ أن نحصل على فرصة تَلَمّسِ ذواتنا المتجسدة في تاريخ حيّ، يمشي ويحكي ويكبر ويغني ويخاف أمراً يحتاج جسارة وحظاً كبيرين. عام 2014 كُتبتْ في صحائف الغيب فرصة زيارتي إلى فلسطين؛ زيارة البيت الذي لفّه ضباب سحري أسود، وغيبه عن العينين الأولى والثانية، قبل أن يقع في العين الثالثة موقع النيزك، حافراً أثر الخارطة في الصدر إلى الأبد.

دعانا متحف محمود درويش إلى أمسية شعرية في رام الله، محققاً حلمنا بأن نطأ أرض بلادنا للمرة الأولى منذ 1948، ولم أكن أتخيل صعوبة هذه المغامرة؛ مغامرة أن أذهب إلى فلسطين محمّلاً بحسرة الجدّات، بآلام المسيح، ولسعة الاحتلال التي تقف في الحلق كالتهابٍ حادّ. كان عليّ أن أتجهّز قبل الرحلة بأسبوع، وأن أجعل من كتفيّ باحةً واسعة للحمام الأبيض، ومكاناً لائقاً ببندقية محشوّة بالورد، كي لا أحيد عن الطريق الذي عبره الأجداد باتجاه الشرق، وأمحو الهجرة بعودة وإن كانت مؤقتة.

نضجر من عقود العمل محدّدة الأجل، ونخشى النهاية مهما بلغت في الزمن، ونظلّ نفكّر في صدمة الهامش، فكيف الحال إذا كانت النهاية أن نعود للاصطفاف في دور طويل على باب الوطن، تنتظر دوراً قد لا يأتي أبداً لزيارة الوطن؟

قطعنا الجسر الذي كان كعُملة حديدية، كُتبَ على وجهها الشرقي "جسر الملك حسين"، وعلى وجهها الغربي "جسر أَلينبي". هذا الجسر الذي أسطرته فيروز بأغنياتها: يا جسراً خشبياً يسبح فوق النهر!

كنتُ أخاله جسراً ممتدّاً لمليون كيلومتر، كما كنتُ أراه جسراً من الألغام، حتى وصلنا واكتشفتُ أنه مجرّد بضع خطوات؛ مجرّد جسر واهٍ تمّ تحويله من الخشب إلى الخرسانة منذ أعوامٍ قليلة فقط. قطعنا الجسر لنلتقي للمرّة الأولى بأول عدوٍ نشاز، كأنه قفز من نشرة الأخبار للتوّ، ليعيد شريط جرائمه أمامنا، بمجرّد أنه واقف بسلاحِه الضّخم على بوابة الأحلام:

"هنا بابنا، وجهةُ الريحِ والرّوحْ/ هنا الظعنُ والطعنُ؟/ والحبُّ والجبُّ/ من هاهنا سقطت في الصحاري خطانا/ ولم تأتِ سيّارةٌ كي تساعدنا في الخروجِ/ هنا بابنا".

في الحقيقة، لم أتفاجأ كثيرا بعد أن فتّش الجنديُّ الباص، ودارت العجلة غرباً، فلقد تآمرت الطبيعة مع الاحتلال، وخلعوا عن الأرض ثوبها الأخضر، فالأشجار تعرف أصحاب الأرض وتعينهم على مكابدة العدوّ. وصلنا "النقطة الحدودية الإسرائيلية". العلم العالي لا يشبه الأرض، شقراوات وسود البشرة يرطنون بلغةٍ مسروقةٍ من تراث كنعان، متحوّرةً بفعل السنين، يضعون نجمة داوود على أكتافهم، وعلى كلّ شيء. كانت النجمة تقف على ساقٍ واحدةٍ مثل امرأة نشطة، وكنت أتزلزل ذعراً من لقاء البلاد. لن يتخيّل أحد حجم الطاقة التي احتجتها لأخدع الجندَ، إلا أنني كنت واثقاً من أن الأرض تعرفني جيداً، وأنها من أرسلت لي: "تعال".

مروراً بنخيل أريحا، مدينة القمر، أقدم مدن التاريخ على الإطلاق، كان الشارع يسعى كأفعى مسالمة، باتجاه رام الله العالية. كنتُ أفكر بها، تلك المجنونة التي أصرّت أن تصعد الجبل لتصير مدينة

وسجادة كنعان بدأت تخضرّ شيئاً فشيئاً، حين أجلسني الاحتلال على كرسي لا بد أنه لي، وبطبيعة الحال، غرست المجندة ضحكتها الخبيثةَ في لحمي حين أخذت جواز سفري الأردني، ودخلت إلى غرفة مغلقة. كان حظي ودوداً طيباً هذه المرة؛ عاد الجواز إليّ بعد ربع ساعة، لأصعد إلى الباص الذي سيأخذني إلى "نقطة حدود السلطة الفلسطينية".

كانت النقطة الفلسطينية تشبه مقصفاً في نقطة العدوّ. ربما كان السبب ضعف الإمكانيات بالمقارنة، وربما كان ثقةً مخبوءةً بأننا أصحاب البلاد الطيبين، البسطاء كأغاني التراث وترويداته. كنت بحاجة إلى أكياس كبيرة بعد ذلك، لأعبئها بالهواء، لأنني أخجل أمام فلسطين من صدري الضيق، أخجل من قلّتي وكثرتها، من خوفي وطمأنينتي، ومن رعشتي ومَنَعَتِها.

رحت أتلوّى حرقةً بين ذراعي صديقي موسى الذي جاء إليّ من رام الله ليأخذني. مروراً بنخيل أريحا، مدينة القمر، أقدم مدن التاريخ على الإطلاق، كان الشارع يسعى كأفعى مسالمة، باتجاه رام الله العالية. كنتُ أفكر بها، تلك المجنونة التي أصرّت أن تصعد الجبل لتصير مدينة، كأخواتها الكبيرات في الشّمال وعلى الساحل الغربي. اختارت لها اسماً يليق بكبريائها، اسماً يحتمي باسم الله كله؛ رام الله مدينة مجنونة ومصرّة، لم يكفِها أن تصبح مدينةً، فظلت تركض باتجاه السماء، حتى صارت عاصمة الضفة الغربية، رغم أنها ليست بتلك المساحة أو ذلك الامتداد التاريخي، مثل أخواتها من مدن الضفة.

تذمرت كثيراً من تلك الكلاب التي نبحت علينا على بوابة المعبر وشتمتها، وقلت لصديقي إن هذه ليست كلاباً، إنها كائنات معدلة جينياً، فألفة الكلاب توجب احترامها لنا، ووفاؤها يوجب أن تلعق وجوهنا مرحبةً بنا، وبياضها وانتصارها للعِشرةِ يفرض عليها أن تنبح على الجندي لا علينا. فقال لي يحدث ذلك لأنكم خارج المكان.

كلاب بلادنا لا تعرفنا، ربما كان هذا الكلب حفيداً لكلبٍ أفنى عمره في الخدمة العسكرية على باب مزرعة جدّي. ربما كان حفيداً للكلب الذي بكى عليه أبي عندما مات من البرد. يحدث أحياناً أن يسبَّ طفل أمّه في السوق، ويضربها وهو يبكي لأنها عجزت عن شراء الحلوى له. ويحدث أن يمرَّ عابر ويقنعها بأن تشتري له الحلوى دون أن يدرك عجز يدها عن ذلك، وأن تمرّ امرأة أخرى وتقول: حرامٌ عليك يا امرأة!

كلاب بلادنا لا تعرفنا، ربما كان هذا الكلب حفيداً لكلبٍ أفنى عمره في الخدمة العسكرية على باب مزرعة جدّي. ربما كان حفيداً للكلب الذي بكى عليه أبي عندما مات من البرد

يحدث ذلك ويجعل الأم تذوب في ثوبها وتضمحل حرجاً، حتى تصير كقطعة بطاطا حلوة على موقد مستعر، وهي تحاول أن تقنع الطفل بأن يسكت، وأن ينظر في عينيها ليفهم عجزها، وأن يكون إلى جانبها في هذه الوحشة التي ألمّت بها وسط العالمين، وهم يتجمهرون حولها لائمين، وهي تضمحل وتضمحل وسط هذه الزفة، ولكن الولد يظلّ يضربها ويصرخ. ثمّ يبتسم لامرأة عابرة في السوق تعطيه قطعة شوكولاتة، هكذا تماماً كنتُ أمام الكلب ذاك.

قلت لصديقي: فعلاً الأمور صعبة على معبر قلنديا المؤدي إلى رام الله. الأمر مضجر حقاً يا رجل! قبل أن ينفجر ضاحكاً، ويخبرني بأن هذا المعبر اسمه "بيت إيل"، وهو معبر مريح ومحترم، يمرّ منه اليهود، ومن معه بطاقة DCO من العرب فقط؛ هذه البطاقة المرتبطة بالعمل المؤسسي التابع بشكل أو بآخر للسلطة الفلسطينية أو لجهات دولية أو حقوقية. وتابع ليخبرني أن معبر قلنديا قد يتطلب نهاراً كاملاً للدخول. لم يدرك صديقي ما فعل بي، فكأنه طعنني مرّتين؛ الأولى لأنه دلّني على وجع أعمق، والثانية لأنه ذكرني بأنني لا أعرف البلاد... بلادي.

حين وصلنا الشقة التي أعدّت لي، فتحت شبّاك الغرفة لأرى المشهد الذي تردّد أكثر من مرة في الطريق. بناءٌ أنيق يعتلي الجبل. بطبيعة الحال سألت عنه فأجابني صديقي: "بساغوت". إنها مستوطنة بساغوت الإسرائيلية. المستوطنات عبارة عن مدن مستحدثة، بناها الاحتلال على أراضي الضفة الغربية أي الأراضي المحتلة عام 1967، والتي اعترفت بها الأمم المتحدة واتفاق أوسلو كأراضٍ تقام عليها دولة للفلسطينيين، كذلك في القدس التي من المفترض أن تكون تحت سيطرة الأمم المتحدة بحسب قراراتها، ولكن العالم خائنٌ، والقوة تغلب القرارات والقناعات والتاريخ، فبضعفنا وخيانة العالم استحوذ الكيان الإسرائيلي على أراضي الـ48، وبنى مستوطناتٍ أخرى في الضفة الغربية، وأحكم قبضته على القدس كعاصمةٍ له، ومقاماً لرئيسه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard