شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
تألّم بصمت... لبنان يتحوّل إلى دولة بوليسية

تألّم بصمت... لبنان يتحوّل إلى دولة بوليسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 17 يونيو 202009:30 م

"غطوا وجهي بقميصي وضغطوا برأسي للأسفل. وقُبض على صديقي أيضاً وجعلوه يجلس على رأسي. قلت لهم إني أختنق. قال أحدهم إنه لا يبالي إذا اختنقت".

هذا ليس جورج فلويد. هذا شاب لبناني يُدعى سامر مازح. هنا لسنا في مينيابوليس بل في شارع الجميزة في بيروت. المعتدون ليسوا عناصر في جهاز شرطة يعشش التمييز العنصري في إجراءاته، بل هم عناصر من المخابرات العسكرية في الجيش اللبناني.

هذه الشهادة، رواها الشاب الناشط لمنظمة العفو الدولية. اعتُقل هو وصديقه بينما كانا يمشيان في أحد الشوارع المتفرّعة عن وسط بيروت حيث كان يتجمع محتجون على إدارة البلاد التي أوصلت اللبنانيين إلى كارثة اقتصادية-اجتماعية.

المشهد قديم. يعود إلى 14 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. ولكنه ليس معزولاً. منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تعرّض عشرات الناشطين للاعتقال والضرب والإهانة والتعذيب واستُدعي عشرات آخرون، بينهم صحافيون، للتحقيق بسبب منشورات كتبوها على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولكن يبدو أن كل ذلك كان في الماضي، وأن المستقبل أسوأ بعد.

المؤشرات التي ظهرت في الأسبوع الأخير تدقّ ناقوس الخطر. لغة أركان السلطة صارت مخيفة، ومليئة بمصطلحات من قاموس الدكتاتوريات مثل "عمليات تخريب" و"مندسين" و"مموّلين" و"محرّضين". رئيس الحكومة يتحدث عن أن "الزعران شغلتهم التخريب ومكانهم السجن، ونقطة على السطر". رئيس الجمهورية يتحدث عن "ضرورة اعتماد العمليات الاستباقية لتوقيف المخططين والمحرضين على الأعمال التخريبية". وزير الداخلية، وهو عميد متقاعد شغل لسنوات منصب رئيس فرع الأمن العسكري في مديرية مخابرات الجيش، قبل أن يُلبّس بذلة مدنية أنيقة ويُطلق عليه لقب "تكنوقراطي"، يؤكد على "قمع المشاغبين والمندسين".

صحيح أن التصريحات الأخيرة أتت على خلفية أعمال الشغب التي شهدها وسط بيروت في 12 حزيران/ يونيو، ولكن ليس من سوء الظنّ افتراض أن القصد منها ليس مثيري الشغب في تلك الليلة، فهم معروفون ودفعت بهم لغايات معروفة أحزاب مشاركة في الحكومة ولم يُعتقل أحد منهم، بل المقصود التذرّع بما جرى واستنكره معظم اللبنانيين لقمع أي تحرّك شعبي اعتراضي قادم، لا يحمل المشاركون فيه البالونات والورود.

القصة لا تنتهي هنا. في بداية حزيران/ يونيو، ظهر مهندس تشكيل الحكومة الحالية، النائب جميل السيّد، وهو بدوره عميد متقاعد له تاريخ في العمل الأمني، ليدعو المسؤولين إلى إطلاق النار من الشباك على أي محتجّ يتظاهر أمام منزل أحدهم "ويتفوّه بكلمة برّات الطريق".

ننزلق بسرعة مخيفة نحو نظام دكتاتوري يريد أن يسرق منّا الإيجابية الوحيدة للعيش في لبنان: حرية التعبير. لا عمل، لا ضمانات اجتماعية، وضع اقتصادي رديء، لا مستقبل، وكل هذا يجب أن نعيشه دون أن نعترض

وبجانب كل ذلك، تظهر دعوات لكمّ الأفواه، عبر إحياء العمل بنصوص قانونية غير مفعّلة، تعود إلى ستينيات القرن الماضي، كما في تكليف النائب العام التمييزي قسم المباحث الجنائية المركزية "مباشرة التحقيقات لمعرفة هوية الأشخاص الذين عمدوا إلى نشر تدوينات وصور تطال مقام رئاسة الجمهورية"، لملاحقتهم "بجرم القدح والذم والتحقير"، وكما في قرار وزير التربية والتعليم العالي الذي يحظر على الموظفين نشر مقالات أو تصريحات أو مؤلفات "بدون إذن كتابي من الرئيس المختص"، تحت طائلة فرض عقوبات على المخالف.

لا يحتمل أركان السلطة اللبنانية النقد، وهذا مفهوم لأن وضعهم في السلطة ليس مستقراً. يجلسون على كراسٍ مرصوفة فوق بركان غضب شعبي، بسبب الأزمة الاقتصادية وآثارها على حياة نحو ستّة ملايين مواطن حُجزت مدّخارتهم في المصارف وانهارت قدرتهم الشرائية بسبب انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، وأطلّ عليهم شبح الجوع.

وفي ظل استعصاء الحلول، يبدو أن السلطة ستختار البديل "الأسهل": القمع.

المؤشرات التي ظهرت في الأسبوع الأخير تدقّ ناقوس الخطر. لغة أركان السلطة اللبنانية صارت مخيفة، ومليئة بمصطلحات من قاموس الدكتاتوريات

يرسم المتسلّطون على حياة اللبنانيين حدود المسموح والممنوع ويمنحون أنفسهم حق تعريف ما هي الثورة الجيّدة وما هي الثورة السيئة. حتى هذا الحق يريدون سرقته من الناس. أنت جيّد. أنت سيئ. لا يكلّون عن فرز الناس وتصنيفهم بما يتوافق مع هواهم. ومعادلتهم بسيطة: كل تحرّك غير نافع لإفراط سلميته وكرنفاليته مسموح، لأن السلطة اللبنانية تستسهل تاريخياً لعب دور الأصمّ، وكل تحرّك جدّي ضد السلطة ممنوع.

ننزلق بسرعة مخيفة نحو نظام دكتاتوري يريد أن يسرق منّا الإيجابية الوحيدة للعيش في لبنان: حرية التعبير. لا عمل، لا ضمانات اجتماعية، وضع اقتصادي رديء، لا مستقبل، وكل هذا يجب أن نعيشه دون أن نعترض. حتى الصحافيون يحضّر لهم في غرف مغلقة قانون جديد للإعلام سيحمل المزيد من التضييق على عملهم.

ولكن الكلمة الأخيرة ستكون للناس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard