شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
صرخات الجسد والخروج من أسر الدين والقيم... وفائي ليلى من السويد

صرخات الجسد والخروج من أسر الدين والقيم... وفائي ليلى من السويد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 2 يونيو 202005:18 م

أن يعيش الشاعر في بلد شاسع مثل السويد، يوفر فرصة جيدة للهرب من أشياء يفعلها القلب، بعيداً عن التشويش والتقليد، كذلك تفرض حقيقة ثنائية القطب، الأولى أنك شاعر والثانية بأنك لاجئ. عن الشاعر اللاجئ، الشاعر المنفي، الشاعر الذي يملك عنواناً غير مُسجل لدى دائرة الضرائب، نحاور في رصيف 22 الشاعر السوري وفائي ليلى.

السؤال الأزلي، الكبير الذي يبدء به تقريباً كل صحفي لكسر حاجز الرهبة ومحاولة تفكيك الكائن المقابل، هو لماذا تكتب؟ نحتاج إلى إجابة على هذا السؤال المفتوح. ما هي قضيتك؟ ماذا تريد؟

يجيب وفائي: أكتب لأن صوتي خافت، وأقصر من الجميع. لأن طفلاً بالجوار لم يهتم له أحد أو يكترث، وأكتب لأنني أريد ان أقتص وأحاسب ولأنني لا أملك مسدساً كان يجب أن يستخدم ربما، وربما أكتب كي أقول "أحبك" دون تردد أو شعور بالندم أو الخوف.

ولا أعرف من جهة أخرى لماذا أكتب، لكنني أستجيب للكائن الغريزي الذي أرشدني إليه فرويد، التداعي الحر الذي يستدعي الجميع، وأنا للقراءة وإعادة النظر والتأمل والكشف، وكي أيضاً، في فيلمي القادم عبر هذا التكنيك الشعري، سأعيد كل من قتلني إلى الحياة.

في البدايات ناشري في دمشق سألني السؤال ذاته في مكتبه الضيق جداً، ولم أجب… كان صعباً أن تختصر كل ذاك الاحتضار والركام من الكلمات والأحاسيس التي تتزاحم بك وداخلك بكلمة واحدة أو تعريف معين، اختصرت كل تلك المعاناة بكلمة واحدة وقتها وقلت له: أكتب لأني أخاف.

سقط فكه الأسفل وقتها من الدهشة ولم يقتنع، ومع ذلك نشر لي بكل امتنان وهو يهز رأسه أسفاً لهذا الأخرق الذي حاصره في غرفته ليجيبه هكذا جواب غبي.

لا أتقن أجوبة المثقفين عادة، ولا أستطيع أن أحشر مفاهيم كبرى في نصي أو في تفسير نصي. أكتب ذعري وخوفي وارتباكي ونقصي وأسئلتي وكل من مر بالقرب وترك أثر، غالباً تبول هناك آخرون، أو صفعوا أو نكلوا، وربما بعضهم من كتب اسمه وشطب اسمي، وبعضهم من كتب فحولة مساطره، تنمره، إهماله، وأيضاً خشونته وصلافته التي داهمت رقيقي الفاتن في مكان ما، وكذلك النساء اللاتي عبثن ولم يغفرن لي صدقي المحرج.

أكتب الانتهاك، القرى التي طاردني أولادها "أصدقائي" باغتصاب مبكر وأبي العاتي وأمي التي فقدت ذاكرتها ذات انهيار عصبي، والطبيعة التي سحرتني ودمشق التي أتقنت أقبيتها وغرف السر فيها، وأيضاً كل التنوع والاختلاف الذي عشت، من خلال أشخاص وعلاقات وقيم ومهن تداولتني ويئست من جدواي، أكاد لا أنتهي من سؤالك الذي أخرسني يوماً ما ولم أنبس سوى بجواب مدوٍ ومقتضب وغير مقنع البتة وقتذاك.

نعم إنه الخوف والدفاع عن الذات حيال عالم هائل مليء بالمخاطر والراشدين،قضية الشعر في العالم واحدة كما أرى وأظن، وهي تأريخ الكائن جمالياً بكل ما أوتي من قدرة على الإدهاش والسحر، وأيضاً محاولة النفاذ إلى السر، سواء فيما يخص تلك الذات أو ما يخص العالم كموضوع، وأيضاً اللغة واستخداماتها التي تليق بهكذا تجربة غنية ومتنوعة ومختلفة الإنسان حين يلتصق بذاته ويكون "هو" في نص لا يختلف عنه.

بالواقع أبحث بالشعر عن الشاعر الإنسان أو سواه، المغامر والصياد، المتوحش والمدجن والذي يتقن كسر الاعتياد والنمط كذلك، والذي أيضاً لا يخضع بسهولة. ذاك المتفرد في سربه والذي يفضل أحياناً فرن الغاز استعجالاً لنهايته، أو إبرة منوم لا يستفيق بعدها، أو نهراً ليغرق به ويكف. الشاعر يكتب موته بأبهى ما يكون حتى حين يختار نهايات غير لائقة ومتطرفة.

رحلة العيش تلك تستغرقه وتجعله أميناً لها، ولا أعني بكل هذا التوصيف الشاعر المُضلل أو الشاعر السمسار الذي تستعبده المصالح والحسابات والقفز كبهلوان من مهرجان لآخر، وهو يفتح يديّ اعتداده ويثير ضوضاء طفولياً، له علاقة بنجم يصلح للتمثيل والأدوار وإثارة الصخب. الشاعر كائن خافت، وعلى حدة.

أما سؤالك عن القلق وهل أكونه فجوابي بنعم، أدور في هواء الغرف حول نفسي لأجدني مثل حيوان جريح، باحثاً عني في نص، أو متوارياً في دفتر أو مقولة أو ورقة مهملة أو مذكرات شاعر قضى ذات انتباه: أنه لا أحد على الإطلاق.

القلق الشعري مثل القلق المعرفي، إيجابي وضروري تماماً، كما أن الشاعر على الأرجح مشروع ضدي لكل ماهو سائد، من يستطيع أن يضع حدوداً مرسومة لقنبلة قد تنفجر في أي وقت

تدهشني "أنا" طوال الوقت، وممتن أن الحياة منحتني هذه الأنا العملاقة التي في داخلي، إنه مختبري الذي أجري عليه كل التجارب التي أحب لأصل ربما إلى المعنى الذي قد يكون عبثاً بالمناسبة.  القلق الشعري مثل القلق المعرفي، إيجابي وضروري تماماً، كما أن الشاعر على الأرجح مشروع ضدي لكل ماهو سائد، من يستطيع أن يضع حدوداً مرسومة لقنبلة قد تنفجر في أي وقت؟

وفائي، أنت تقرأ الشعر بشكل يومي على صفحتك على الفيس بوك في بث مباشر، هل تحاول كتابة نص رقمي صالح للاستهلاك اليومي، بعيداً عن الشكل التقليدي لتداول الشعر، هل تتبنى الأدب الرقمي؟ هل استخدام الأدوات الرقمية يُساعدك في الوصول إلى فئة القراء/المشاهدين المستهدفة؟

نعم أستخدم الفيس بوك كمسرح لكل ألعابي التي أحاولها أمام جمهور افتراضي، أفتح هذه النافذة الزرقاء وأبدأ القراءة.

أنا مع أي وسيلة تقنية لإيصال الفكرة، مع مزج الفنون، الموسيقا، الشعر، الرقص والسينما في العمل، وكشخص لست كلاسيكياً ما يكفي، أحب المجازفة واحتمالات التكنولوجية مدهشة والتنوع أيضاً للفنون. أعمل الآن على مزج نصوصي مع الرقص الإيمائي الصامت في مشروع مسرحي قادم، وبعدها قد أجرب السينما، من يدري.

ماذا قدمت السويد لوفائي ليلى الشاعر؟

قدمت لي بيتاً وحرية وقوانين تحميني، أنت تعرف أنه نحن كبشر لاجئين هنا كنا منتهكين في دولنا المافياوية التي قدمنا منها، والتي سلبتنا كل شيء. الثقة والحرية والكرامة والاستقرار والحماية والشعور بالأمن. قدمت لي السويد أيضاً جوائز ومنحاً دراسية غطت جزءاً من مصاريفي، واحتراماً لنتاجي ولكتابتي، وهذا ما كان مفقوداً في تلك البلاد التي لا تكترث بك وتهتم فقط بخذلانك وتجاهلك.

في السويد...الثقة والحرية والكرامة والاستقرار والحماية والشعور بالأمن و"قوانين أشعر أنها بمثابة ملاك حارس للبشر"

ويضيف: قدمت لي أيضاً مدينة مذهلة وهائلة مثل استوكهولم، عشت فيها لبعض الوقت وأنا الآن على تخومها، أنهار وطبيعة وأسرار لها علاقة بكون كامل من الاختلاف. مدن زرتها ووجوه كانت بالقرب، والأهم قوانين أشعر أنها بمثابة ملاك حارس للبشر .

ودائماً في المشهد جانب سلبي، وبالتالي هنالك صور أخرى لبعض من سرقك وامتهنك، وربما وظفك لصالح مجده الشخصي، وبلحظات روج موتك ليعيش أفضل، أو أمن من خلالك وعلى جثتك فرصة عمل مجزية له، أو استثمر لحمك الطري كي يرضي رغبة الافتراس الكامن في قاع روحه.

وعن شكل العلاقة مع الأخر –الشريك الثقافي، يحدثنا وفائي:

أظنها تجربة رائعة، وأثرها الإيجابي أكبر بكثير، والحديث هنا أيضاً يتصل بالشريك الثقافي السويدي، الذي منذ بداية قدومي قدمني في عدة أماكن ومدن منها غوثنبيرغ، و في مهرجانات الشعر وغرفه المغلقة تلك. ممتن لبعض الأسماء التي رشحتني لتلك المنح وذاك الاحتفاء والاحترام الكبيرين حقاً.

لقد كانت لحظات مهمة شاركت فيها الجمهور السويدي والعربي بآن معاً ذاك الشعور بالزهو والرضا.

وقدمت لي المنح الثقافية المختلفة في استوكهولم، عبر اتحاد الكتاب السويديين وفي مقاطعة سورملاند التي احتفت بي وقدمت لي تكريماً عن مجمل عملي ونشاطي في مدن مختلفة في هذه المقاطعة. وفي مدينتي كاتريناهولم، حيث تم تلحين نصي على يد فنانة سويدية، وقدم العمل بشكل أوبرالي ساحر، كما لحن لي فادي القطيني نصوصاً قدمتها في استوكهولم وسنتجول بها في الجنوب لاحقاً، لقد قدمت خلال نشاطي ذاك ولمرات عدة، مسرحاً شعرياً سويدياً عربياً بطريقة مبتكرة نسبياً في اسكلستونا أولاً ومن ثم تجولنا مدن أخرى.

وطبعا شاركت بعمل سينمائي سويدي يتحدث عن المهاجرين مع مخرج سويدي وبدور صغير ولكنه هام بعنوان "الغابة"، ومن المتوقع طرحه في الأسواق هذا العام.

طبعا في لقاءاتي مع الجمهور السويدي أطلعت على أنه جمهور قارىء ويهتم، ولديه فكرة عن أهم الأسماء العربية على الأقل في الشعر والثقافة عموماً.

ثمة ميزات في اللغة العربية، تختلف في اللغة السويدية على مستوى الصور التعبيرية والكنايات، هل لاحظت الفرق في الترجمة السويدية لديوان اسمي أربعة أرقام؟

أحب في اللغة السويدية التون والنغم في الكلام أو النبر كما يسمونه، وهو سبب مهم بالنسبة لي كشاعر يتذوق الكلمة بأذنه أولاً، وخصوصاً حينما اخترت البقاء هنا بشكل نهائي. هناك لكنات في السويدية وطرق للفظ ذات الكلمة، وهذا أجمل برأي الشخصي، أحب حرف الراء في الوسط من البلاد يتحول غاءً في جنوبها.

إنهم مرنون ويلونون لغتهم مع التطعيم باللغة الإنكليزية، لكن للأسف أنا كسول بتعلم اللغة الجديدة، لكن سأفعل وآمل الكتابة بها، لما لا، لدي كتاب مترجم للغة السويدية بعنوان "اسمي أربعة أرقام"، بترجمة الأستاذ الشاعر جاسم محمد، وأيضاً الآن أحضّر لطباعة مجموعة جديدة لم أستقر على عنوانها بعد وستصدر بالسويدية في الشهر السابع. و يخلص وفائي إلى أن اللغة الجديدة حافز وغنى للشاعر، إنه يجرب تنغيماً جديداً للكلام، وايقاعاً آخر.

لا أتصور أن هنالك كتابة في الفراغ، الكتابة مبنية على تراكمات جمالية وثقافية، حيث لكل شاعر فلسفته التي ينطلق منها، ماهي فلسفتك في الشعر؟

سؤالك عن فلسفتي بالشعر يتلخص في البحث عميقاً في الذات للوصول للموضوع. ربما أفكر أنه من خلال الشعر أتلمس العالم كما لو كنت أعمى أفك ألغازه عبر اللغة لأصل إليّ، وكي أصل إلى الآخر لاحقاً، الموت، الحب، الكراهية، الأنانية، العطاء، الرجل، المرأة والعلاقات الإنسانية الأخرى تشغلني تماماً وتستغرق تفكيري، القضايا الكبرى التي اهتم لها الكائن هي محور وحقل اختباري للوصول إلى مفهوم محدد يتعلق بالسعادة أو الرضا والفهم على الأقل.

أظنني قضيت عمراً طويلاً وأنا أتدبر الحياة كي أنجو مادياً فقط، ولأصل من خلال ذلك الاسترخاء كي أقول معنوياً ما أريد، العالم ماكينة هائلة لا ترحم والوصول لذاك الاسترخاء الآمن يكلف الكثير، أظنني دفعت أثماناً غير قليلة في هذا الاتجاه، لم أحب خياراتي في الحياة، كنت مضطراً لكثير منها، وبالتالي آمل أن يكون لدي الوقت كي أتحرر من كل ما يعيقني كي أقول كلمتي على هذه الأرض بحرية أكبر، ودون التلفت يمينا ويساراً، حولنا الكثير من القرش، وعلينا أن نحتاط ألا نكون الوجبة التالية. الشعر هو محاولة ذلك والكتابة بحبر سري داخل القصائد عن المسكوت عنه كذلك، وهتك الصمت والحديث بقوة عن الخوف والأمل، وأيضاً الإفراج عن الصرخات التي لا تجرؤ على العلن. صرخات الجسد، الغضب والخروج من أسر الدين والقيم، وأيضاً من أسر الوظيفة والدور. أريد فسحة من التنفس بحرية وكي أموت بسلام.

سلام مع نفسي ومحبتها، لقد فعلت الكثير مما يسيء لي، وأريد من الشعر أن يطهرني ويعيد تطويبي ويعلمني وأحبه، طالما أحب الصدق والمواجهة ومحاولة قول الحقيقة كل مرة بشكل أو بطريقة ما.

عن الكتابة بحبر سري داخل القصائد عن المسكوت عنه، وهتك الصمت والحديث بقوة عن الخوف والأمل، وأيضاً الإفراج عن الصرخات التي لا تجرؤ على العلن... حوار مع وفائي ليلى من السويد 

اليوم أنت تجمع بين الشعر و المسرح، ما القصة؟

الجمع بين الشعر والمسرح هو محاولة لكسر النمط، ورأيت هنا في السويد محاولات لذلك، وقدمنا من خلالها مسرحاً شعرياً بسيطاً ونال بعضه الرضا، أظنها تجربة مثيرة ومهمة عبر خلط الأداء بالحركة، ومحاولة ترجمة القصيدة أيضاً بالجسد وإيقاعه الخاص.

لا أعرف النتائج، لكن أظنني قدمت نصوصي بطريقة مؤثرة أكثر ونلت تصفيقاً لطيفاً في النهاية، أحب إدخال التكنيك ولا أنظر بريبة إلى ذاك، لأنني شاب جداً على صعيد التهور والمجازفة، لاحقاً سيكون لي تجارب أخرى، وأظنني على طريق جديدة تماماً في التعبير، لقد رافقتني الموسيقا كذلك، واكتشفت أن مئات الأشخاص يهتمون لذلك، حسن جداً إنهم يرغبون ببعض المرح أو الاختلاف وأنا مستعد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard